[ ص: 1266 ] واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب       ( 41 ) اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب      ( 42 ) ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب      ( 43 ) وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب      ( 44 ) واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار      ( 45 ) إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار      ( 46 ) وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار      ( 47 ) واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار      ( 48 ) هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب      ( 49 ) جنات عدن مفتحة لهم الأبواب      ( 50 ) متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب      ( 51 ) وعندهم قاصرات الطرف أتراب      ( 52 ) هذا ما توعدون ليوم الحساب     ( 53 ) إن هذا لرزقنا ما له من نفاد      ( 54 ) 
قوله : واذكر عبدنا أيوب  معطوف على قوله واذكر عبدنا داود     [ ص : 17 ] وأيوب  عطف بيان ، و إذ نادى ربه  بدل اشتمال من ( عبدنا ) أني مسني الشيطان   قرأ الجمهور بفتح الهمزة على أنه حكاية لكلامه الذي نادى ربه به ، ولو لم يحكه لقال : إنه مسه . وقرأ  عيسى بن عمر  بكسرها على إضمار القول . 
وفي قصة  أيوب   إرشاد لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى الاقتداء به في الصبر على المكاره .  
قرأ الجمهور بضم النون من قوله : بنصب  وسكون الصاد ، فقيل : هو جمع نصب بفتحتين نحو أسد وأسد ، وقيل : هو لغة في النصب ، نحو رشد ورشد .  
وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع  وشيبة  وحفص  ونافع  في رواية عنه بضمتين ، ورويت هذه القراءة عن الحسن     . 
وقرأ أبو حيوة  ويعقوب  وحفص  في رواية بفتح وسكون ، وهذه القراءات كلها بمعنى واحد ، وإنما اختلفت القراءات باختلاف اللغات .  
وقال أبو عبيدة     : إن النصب بفتحتين : التعب والإعياء ، وعلى بقية القراءات الشر والبلاء ، ومعنى قوله : وعذاب أي : ألم .قال قتادة  ومقاتل    : النصب في الجسد ، والعذاب في المال     . قال النحاس  وفيه بعد كذا قال . والأولى تفسير النصب بالمعنى اللغوي وهو التعب والإعياء ، وتفسير العذاب بما يصدق عليه مسمى العذاب وهو الألم ، وكلاهما راجع إلى البدن .  
اركض برجلك  هو بتقدير القول أي : قلنا له : اركض برجلك كذا قال  الكسائي     : والركض الدفع بالرجل ، يقال : ركض الدابة برجله : إذا ضربها بها .  
وقال  المبرد     : الركض التحريك . قال  الأصمعي     : يقال : ركضت الدابة ، ولا يقال : ركضت هي ، لأن الركض إنما هو تحريك راكبها رجليه ، ولا فعل لها في ذلك ، وحكى   سيبويه     : ركضت الدابة فركضت ، مثل جبرت العظم فجبر هذا مغتسل بارد وشراب  هذا أيضا من مقول القول المقدر : المغتسل هو الماء الذي يغتسل به ، والشراب الذي يشرب منه . وقيل : إن المغتسل هو المكان الذي يغتسل فيه .  قال قتادة    : هما عينان بأرض الشام  في أرض يقال : لها الجابية  فاغتسل من إحداهما فأذهب الله ظاهر دائه ، وشرب من الأخرى فأذهب الله باطن دائه  ، وكذا قال الحسن     . 
وقال مقاتل  نبعت عين جارية فاغتسل فيها فخرج صحيحا ، ثم نبعت عين أخرى فشرب منها ماء عذبا باردا     . 
وفي الكلام حذف ، والتقدير : فركض برجله فنبعت عين ، فقلنا له هذا مغتسل إلخ ،  وأسند المس إلى الشيطان مع أن الله - سبحانه - هو الذي مسه بذلك      : إما لكونه لما عمل بوسوسته عوقب على ذلك بذلك النصب والعذاب .  
فقد قيل : إنه أعجب بكثرة ماله ، وقيل : استغاثه مظلوم فلم يغثه ، وقيل : إنه قال ذلك على طريقة الأدب ، وقيل : إنه قال ذلك لأن الشيطان وسوس إلى أتباعه ، فرفضوه وأخرجوه من ديارهم ، وقيل المراد به : ما كان يوسوسه الشيطان إليه حال مرضه وابتلائه من تحسين الجزع وعدم الصبر على المصيبة ، وقيل غير ذلك .  
وقوله : ووهبنا له أهله  معطوف على مقدر كأنه قيل : فاغتسل وشرب ، فكشفنا بذلك ما به من ضر ووهبنا له أهله .  
قيل : أحياهم الله بعد أن أماتهم : وقيل : جمعهم بعد تفرقهم ، وقيل : غيرهم مثلهم ، ثم زاده مثلهم معهم ، وهو معنى قوله :  ومثلهم معهم  فكانوا مثلما كانوا من قبل ابتلائه ، وانتصاب قوله : رحمة منا وذكرى لأولي الألباب  على أنه مفعول لأجله أي : وهبناهم له لأجل رحمتنا إياه ، وليتذكر بحاله أولو الألباب فيصبروا على الشدائد كما صبر ، وقد تقدم في سورة الأنبياء تفسير هذه الآية مستوفى فلا نعيده .  
وخذ بيدك ضغثا  معطوف على اركض ، أو على وهبنا ، أو التقدير وقلنا له و  وخذ بيدك ضغثا  والضغث : عثكال النخل بشماريخه ، وقيل : هو قبضة من حشيش مختلط رطبها بيابسها وقيل : الحزمة الكبيرة من القضبان وأصل المادة تدل على جمع المختلطات .  
قال الواحدي     : الضغث ملء الكف من الشجر والحشيش والشماريخ فاضرب به ولا تحنث  أي : اضرب بذلك الضغث ولا تحنث في يمينك ، والحنث : الإثم ، ويطلق على فعل ما حلف على تركه ، وكان  أيوب  قد حلف في مرضه أن يضرب امرأته مائة جلدة . 
واختلف في سبب ذلك ،  فقال  سعيد بن المسيب  أنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه به من الخبز فخاف خيانتها فحلف ليضربنها     . وقال  يحيى بن سلام  ، وغيره : إن الشيطان أغواها أن تحمل أيوب  على أن يذبح سخلة تقربا إليه ، فإنه إذا فعل ذلك برئ ، فحلف ليضربنها إن عوفي مائة جلدة . وقيل : باعت ذؤابتها برغيفين إذ لم تجد شيئا وكان  أيوب  يتعلق بها إذا أراد القيام ، فلهذا حلف ليضربنها .  
وقيل : جاءها إبليس في صورة طبيب فدعته لمداواة أيوب  ، فقال أداويه على أنه إذا برئ قال : أنت شفيتني ، لا أريد جزاء سواه ، قالت : نعم ، فأشارت على  أيوب  بذلك فحلف ليضربنها . 
وقد اختلف العلماء هل هذا خاص  بأيوب  أو عام للناس كلهم ؟ وأن من حلف خرج من يمينه بمثل ذلك .  
قال  الشافعي     : إذا حلف ليضربن فلانا مائة جلدة  أو ضربا ولم يقل ضربا شديدا ولم ينو بقلبه فيكفيه مثل هذا الضرب المذكور في الآية ، حكاه  ابن المنذر  عنه وعن  أبي ثور  وأصحاب الرأي . 
وقال عطاء     : هو خاص بأيوب  ورواه ابن القاسم  عن مالك     . 
ثم أثنى الله - سبحانه - على أيوب  فقال : إنا وجدناه صابرا   [ ص: 1267 ] أي : على البلاء الذي ابتليناه به ، فإنه ابتلي بالداء العظيم في جسده وذهاب ماله وأهله وولده فصبر  نعم العبد  أي : أيوب  إنه أواب  أي : رجاع إلى الله بالاستغفار والتوبة . 
واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب  قرأ الجمهور عبادنا بالجمع . وقرأ  ابن عباس  ومجاهد  وحميد  وابن محيصن  وابن كثير     " عبدنا " بالإفراد . 
فعلى قراءة الجمهور يكون إبراهيم   وإسحاق  ويعقوب  عطف بيان ، وعلى القراءة الأخرى يكون إبراهيم  عطف بيان ، وما بعده عطف على " عبدنا " لا على إبراهيم      . 
وقد يقال : لما كان المراد بعبدنا الجنس جاز إبدال الجماعة منه .  
وقيل : إن إبراهيم  وما بعده بدل ، أو النصب بإضمار أعني وعطف البيان أظهر ، وقراءة الجمهور أبين وقد اختارها  أبو عبيد  وأبو حاتم  أولي الأيدي والأبصار  الأيدي ، جمع اليد التي بمعنى القوة والقدرة . قال  قتادة    : أعطوا قوة في العبادة ونصرا في الدين     . قال الواحدي     : وبه قال مجاهد   وسعيد بن جبير  والمفسرون . قال النحاس     : أما الأبصار فمتفق على أنها البصائر في الدين والعلم . وأما الأيدي فمختلف في تأويلها ، فأهل التفسير يقولون إنها القوة في الدين ، وقوم يقولون : الأيدي جمع يد وهي النعمة أي : هم أصحاب النعم أي : الذين أنعم الله - عز وجل - عليهم ، وقيل : هم أصحاب النعم على الناس والإحسان إليهم ، لأنهم قد أحسنوا وقدموا خيرا ، واختار هذا   ابن جرير     . 
قرأ الجمهور أولي الأيدي  بإثبات الياء في الأيدي . وقرأ  ابن مسعود  ،  والأعمش  ، والحسن  وعيسى  الأيد بغير ياء ، فقيل : معناها معنى القراءة الأولى ، وإنما حذفت الياء لدلالة كسرة الدال عليها ، وقيل : الأيد : القوة .  
وجملة إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار   تعليل لما وصفوا به . 
قرأ الجمهور بخالصة  بالتنوين وعدم الإضافة على أنها مصدر بمعنى الإخلاص ، فيكون ( ذكرى ) منصوبا به ، أو بمعنى الخلوص فيكون ( ذكرى ) مرفوعا به ، أو يكون " خالصة " اسم فاعل على بابه ، و ( ذكرى ) بدل منها ، أو بيان لها ، أو بإضمار أعني ، أو مرفوعة بإضمار مبتدأ ، و ( الدار ) يجوز أن تكون مفعولا به ل ( ذكرى ) ، وأن تكون ظرفا : إما على الاتساع ، أو على إسقاط الخافض ، وعلى كل تقدير ف " خالصة " صفة لموصوف محذوف والباء للسببية أي : بسبب خصلة خالصة .  
وقرأ نافع  وشيبة  وأبو جعفر  وهشام  عن ابن عامر  بإضافة " خالصة " إلى ( ذكرى ) على أن الإضافة للبيان ، لأن الخالصة تكون ذكرى وغير ذكرى ، أو على أن " خالصة " مصدر مضاف إلى مفعوله والفاعل محذوف .  
أي : بأن أخلصوا ذكرى الدار ، أو مصدر بمعنى الخلوص مضافا إلى فاعله .  
قال مجاهد    : معنى الآية استصفيناهم بذكر الآخرة فأخلصناهم بذكرها     . وقال قتادة    : كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله     . وقال  السدي    : أخلصوا بخوف الآخرة    . 
قال الواحدي     : فمن قرأ بالتنوين في خالصة كان المعنى : جعلناهم لنا خالصين بأن خلصت لهم ذكرى الدار ، والخالصة مصدر بمعنى الخلوص والذكرى بمعنى التذكر أي : خلص لهم تذكر الدار ، وهو أنهم يذكرون التأهب له ويزهدون في الدنيا ، وذلك من شأن الأنبياء .  
وأما من أضاف فالمعنى : أخلصنا لهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار ، والخالصة مصدر مضاف إلى الفاعل ، والذكرى على هذا المعنى الذكر .  
وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار   الاصطفاء : الاختيار ، والأخيار جمع خير بالتشديد والتخفيف كأموات في جمع ميت مشددا ومخففا ، والمعنى : إنهم عندنا لمن المختارين من أبناء جنسهم من الأخيار .  
واذكر إسماعيل  قيل : وجه إفراده بالذكر بعد ذكر أبيه وأخيه وابن أخيه للإشعار بأنه عريق في الصبر الذي هو المقصود بالتذكير هنا  واليسع وذا الكفل  قد تقدم ذكر اليسع  ، والكلام فيه في الأنعام ، وتقدم ذكر ذي الكفل  والكلام فيه في سورة الأنبياء ، والمراد من ذكر هؤلاء أنهم من جملة  من صبر من الأنبياء وتحملوا الشدائد في دين الله      . 
أمر الله رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - بأن يذكرهم ليسلك مسلكهم في الصبر  وكل من الأخيار  يعني الذين اختارهم الله لنبوته واصطفاهم من خلقه .  
هذا ذكر  الإشارة إلى ما تقدم من ذكر أوصافهم أي : هذا ذكر جميل في الدنيا وشرف يذكرون به أبدا  وإن للمتقين لحسن مآب  أي : لهم مع هذا الذكر الجميل حسن مآب في الآخرة ، والمآب : المرجع ، والمعنى : أنهم يرجعون في الآخرة إلى مغفرة الله ورضوانه ونعيم جنته .  
ثم بين حسن المرجع فقال : جنات عدن   قرأ الجمهور جنات بالنصب بدلا من " حسن مآب " ، سواء كان ( جنات عدن ) معرفة أو نكرة لأن المعرفة تبدل من النكرة وبالعكس ، ويجوز أن يكون ( جنات ) عطف بيان إن كانت نكرة ، ولا يجوز ذلك فيها إن كانت معرفة على مذهب جمهور النحاة وقد جوزه بعضهم . ويجوز أن يكون نصب ( جنات ) بإضمار فعل . والعدن في الأصل الإقامة ، يقال : عدن بالمكان : إذا أقام فيه وقيل : هو اسم لقصر في الجنة ، وقرئ برفع ( جنات ) على أنها مبتدأ . وخبرها ( مفتحة ) أو على أنها خبر مبتدأ محذوف أي : هن جنات عدن ، وقوله :  مفتحة لهم الأبواب  حال من ( جنات ) ، والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل ، و ( الأبواب ) مرتفعة باسم المفعول : كقوله :  وفتحت أبوابها     [ الزمر : 73 ] والرابط بين الحال وصاحبها ضمير مقدر ، أي : منها ، أو الألف واللام لقيامه مقام الضمير ، إذ الأصل أبوابها .  
وقيل : إن ارتفاع الأبواب على البدل من الضمير في " مفتحة " العائد على ( جنات ) ، وبه قال  أبو علي الفارسي  أي : مفتحة هي الأبواب . 
قال الفراء     : المعنى مفتحة أبوابها ، والعرب تجعل الألف واللام خلفا من الإضافة . وقال   الزجاج     : المعنى مفتحة لهم الأبواب منها . قال الحسن     : إن الأبواب يقال لها : انفتحي فتنفتح انغلقي فتنغلق ، وقيل : تفتح لهم الملائكة الأبواب     . وانتصاب متكئين فيها  على الحال من ضمير ( لهم ) ، والعامل فيه ( مفتحة ) ، وقيل : هو حال من يدعون قدمت على العامل فيها أي : يدعون في الجنات حال كونهم متكئين فيها  بفاكهة كثيرة  أي : بألوان متعددة متكثرة    [ ص: 1268 ] من الفواكه وشراب كثير فحذف " كثيرا " لدلالة الأول عليه ، وعلى جعل " متكئين " حالا من ضمير ( لهم ) ، والعامل فيه ( مفتحة ) ، فتكون جملة ( يدعون ) مستأنفة لبيان حالهم .  
وقيل : إن ( يدعون ) في محل نصب على الحال من ضمير ( متكئين ) .  
وعندهم قاصرات الطرف أتراب  أي : قاصرات طرفهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم ، وقد مضى بيانه في سورة الصافات .  
والأتراب : المتحدات في السن ، أو المتساويات في الحسن     . 
وقال مجاهد    : معنى ( أتراب ) أنهن متواخيات لا يتباغضن ولا يتغايرن     . وقيل : أترابا للأزواج . والأتراب جمع ترب ، واشتقاقه من التراب لأنه يمسهن في وقت واحد لاتحاد مولدهن .  هذا ما توعدون ليوم الحساب  أي : هذا الجزاء الذي وعدتم به لأجل يوم الحساب ، فإن الحساب علة للوصول إلى الجزاء ، أو المعنى في يوم الحساب .  
وقرأ الجمهور ما توعدون  بالفوقية على الخطاب . وقرأ ابن كثير  وأبو عمرو  وابن محيصن  ويعقوب بالتحتية على الخبر ، واختار هذه القراءة أبو عبيد  وأبو حاتم  لقوله " وإن للمتقين     " فإنه خبر . 
إن هذا لرزقنا  أي : إن هذا المذكور من النعم والكرامات لرزقنا الذي أنعمنا به عليكم  ما له من نفاد  أي : انقطاع ولا يفنى أبدا ، ومثله قوله : عطاء غير مجذوذ     [ هود : 108 ] فنعم الجنة لا تنقطع عن أهلها . 
وقد أخرج  أحمد  في الزهد ،  وابن أبي حاتم  ،  وابن عساكر  عن  ابن عباس  قال : إن الشيطان عرج إلى السماء ، فقال : يا رب سلطني على  أيوب  ، قال الله : لقد سلطتك على ماله وولده ولم أسلطك على جسده ، فنزل فجمع جنوده ، فقال لهم : قد سلطت على  أيوب  فأروني سلطانكم ، فصاروا نيرانا ثم صاروا ماء ، فبينما هم في المشرق إذا هم بالمغرب ، وبينما هم بالمغرب إذا هم بالمشرق .  
فأرسل طائفة منهم إلى زرعه ، وطائفة إلى أهله ، وطائفة إلى بقره ، وطائفة إلى غنمه وقال : إنه لا يعتصم منكم إلا بالمعروف ، فأتوه بالمصائب بعضها على بعض ، فجاء صاحب الزرع فقال : يا  أيوب  ألم تر إلى ربك أرسل على زرعك نارا فأحرقته ؟ ثم جاء صاحب الإبل ، فقال ، يا  أيوب  ألم تر إلى ربك أرسل إلى إبلك عدوا فذهب بها ؟ ثم جاء صاحب البقر ، فقال ، يا  أيوب  ألم تر إلى ربك أرسل إلى بقرك عدوا فذهب بها ثم جاءه صاحب الغنم فقال : يا  أيوب  ألم تر إلى ربك أرسل على غنمك عدوا فذهب بها ؟ وتفرد هو لبنيه فجمعهم في بيت أكبرهم ، فبينما هم يأكلون ويشربون إذ هبت ريح فأخذت بأركان البيت فألقته عليهم ، فجاء الشيطان إلى  أيوب  بصورة غلام بأذنيه قرطان ، فقال : يا أيوب   ألم تر إلى ربك جمع بنيك في بيت أكبرهم ، فبينما هم يأكلون ويشربون إذ هبت عليهم ريح فأخذت بأركان البيت فألقته عليهم ، فلو رأيتهم حين اختلطت دماؤهم ولحومهم بطعامهم وشرابهم ؟ فقال له  أيوب    : فأين كنت ؟ قال : كنت معهم ، قال : فكيف انفلت ؟ قال : انفلت ، قال  أيوب    : أنت الشيطان ، ثم قال أيوب    : أنا اليوم كيوم ولدتني أمي ، فقام فحلق رأسه وقام يصلي ، فرن إبليس رنة سمعها أهل السماء وأهل الأرض ، ثم عرج إلى السماء فقال : أي رب إنه قد اعتصم ، فسلطني عليه فإني لا أستطيعه إلا بسلطانك ، قال : قد سلطتك على جسده ولم أسلطك على قلبه ، فنزل فنفخ تحت قدمه نفخة قرح ما بين قدميه إلى قرنه ، فصار قرحة واحدة ، وألقي على الرماد حتى بدا حجاب قلبه ، فكانت امرأته تسعى عليه ، حتى قالت له : ألا ترى ياأيوب  قد نزل والله بي من الجهد والفاقة ما إن بعت قروني برغيف فأطعمتك فادع الله أن يشفيك ويريحك قال : ويحك كنا في النعيم سبعين عاما فاصبري حتى نكون في الضراء سبعين عاما ، فكان في البلاء سبع سنين ودعا فجاء  جبريل  يوما فدعا بيده ، ثم قال : قم ، فقام فنحاه عن مكانه وقال : اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فركض برجله فنبعت عين ، فقال : اغتسل ، فاغتسل منها ، ثم جاء أيضا فقال : اركض برجلك فنبعت عين أخرى فقال له : اشرب منها ، وهو قوله :  اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب  وألبسه الله حلة من الجنة ، فتنحى أيوب  فجلس في ناحية وجاءت امرأته فلم تعرفه ، فقالت : يا  عبد الله  أين المبتلى الذي كان هاهنا ؟ لعل الكلاب قد ذهبت به أو الذئاب ، وجعلت تكلمه ساعة ، فقال : ويحك أنا  أيوب  قد رد الله علي جسدي ، ورد عليه ماله وولده عيانا ومثلهم معهم ، وأمطر عليه جرادا من ذهب ، فجعل يأخذ الجراد بيده ثم يجعله في ثوبه وينشر كساءه ويأخذه فيجعل فيه ، فأوحى الله إليه : يا  أيوب  أما شبعت ؟ قال : يا رب من ذا الذي يشبع من فضلك ورحمتك     . 
وفي هذا نكارة شديدة فإن الله - سبحانه - لا يمكن الشيطان من نبي من أنبيائه   ويسلط عليه هذا التسليط العظيم . 
وأخرج أحمد   في الزهد ،  وعبد بن حميد  ،  وابن أبي حاتم  ،  وابن عساكر  عن  ابن عباس  قال : إن إبليس قعد على الطريق وأخذ تابوتا يداوي الناس ، فقالت امرأة أيوب : يا  عبد الله  إن هاهنا مبتلى من أمره كذا وكذا فهل لك أن تداويه قال : نعم بشرط إن أنا شفيته أن يقول : أنت شفيتني لا أريد منه أجرا غيره .  
فأتت أيوب  فذكرت له ذلك ، فقال : ويحك ذاك الشيطان ، لله علي إن شفاني الله أن أجلدك مائة جلدة ، فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثا فيضربها به ، فأخذ عذقا فيه مائة شمراخ فضربها ضربة واحدة     . 
وأخرج  عبد بن حميد  ،  وابن جرير  ، وابن المنذر  ، عنه في قوله : وخذ بيدك ضغثا  قال : هو الأسل . وأخرج ابن المنذر  عنه أيضا قال : الضغث القبض من المرعى الرطب . وأخرج   ابن جرير  ،  وابن أبي حاتم  ، عنه أيضا قال : الضغث الحزمة . 
وأخرج  عبد بن حميد   ،  وابن جرير   والطبراني   وابن عساكر  من طريق  أبي أمامة بن سهل بن حنيف  قال : حملت وليدة في بني ساعدة  من زنى ، فقيل لها : ممن حملك ؟ قالت : من فلان المقعد ، فسئل المقعد فقال : صدقت ، فرفع ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : خذوا عثكولا فيه مائة شمراخ فاضربوه به    [ ص: 1269 ] ضربة واحدة    . 
وأخرج  عبد بن حميد  ،  وابن جرير   والطبراني   وابن عساكر  نحوه من طريق أخرى عن  أبي أمامة بن سهل بن حنيف   عن سعيد بن سعد بن عبادة     . وأخرج  الطبراني  عن  سهل بن سعد  نحوه . 
وأخرج  ابن عساكر  عن  ابن مسعود  قال : 1 أيوب  رأس الصابرين يوم القيامة . 
وأخرج  ابن جرير   ، وابن المنذر  ،  وابن أبي حاتم  ، عن  ابن مسعود  في قوله : أولي الأيدي   قال : القوة في العبادة والأبصار قال : الفقه في الدين     . 
وأخرج  ابن أبي حاتم  عنه : أولي الأيدي  قال : النعمة     . 
وأخرج  ابن أبي حاتم  عنه أيضا في قوله : إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار   قال : أخلصوا بذكر دار الآخرة أن يعملوا لها    . 
				
						
						
