[ ص: 346 ] النوع الثاني
مما قدم النية به التأخير
فمنه ما يدل على ذلك الإعراب ، كتقديم المفعول على الفاعل في نحو قوله : إنما يخشى الله من عباده العلماء ( فاطر : 28 ) و لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ( الحج : 37 ) وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات ( البقرة : 124 ) .
ونحوه مما يجب في الصناعة النحوية كذلك ، ولكن ذلك لقصد الحصر كتقديم المفعول كقوله : أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ( الزمر : 64 ) قل الله أعبد ( الزمر : 14 ) .
وكتقديم الخبر على المبتدأ في قوله : وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ( الحشر : 2 ) ولو قال : " وظنوا أن حصونهم مانعتهم " لما أشعر بزيادة وثوقهم بمنعها إياهم .
وكذا : أراغب أنت عن آلهتي ياإبراهيم ( مريم : 46 ) ولو قال : " أأنت راغب عنها " ما أفادت زيادة الإنكار على إبراهيم .
وكذلك واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ( الأنبياء : 97 ) ولم يقل : " فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة " وكان يستغنى عن الضمير ؛ لأن هذا لا يفيد اختصاص الذين كفروا بالشخوص .
[ ص: 347 ] ومنه ما يدل على المعنى كقوله تعالى : وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ( البقرة : 72 ) قال البغوي : " هذا أول القصة ، وإن كانت مؤخرة في التلاوة " .
وقال الواحدي : كان الاختلاف في القاتل قبل ذبح البقرة ، وإنما أخر في الكلام لأنه سبحانه لما قال : إن الله يأمركم ( البقرة : 67 ) الآية ، علم المخاطبون أن البقرة لا تذبح إلا للدلالة على قاتل خفيت عينه عليهم ، فلما استقر علم هذا في نفوسهم أتبع بقوله : وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ( البقرة : 72 ) على جهة التوكيد لا أنه عرفهم الاختلاف في القاتل بعد أن دلهم على ذبح البقرة . وقيل : إنه من المؤخر الذي يراد به المقدم ، وتأويله : " وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها فسألتم موسى فقال لكم : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ( البقرة : 67 ) .
وأما ففي كلامه ما يدل على أن إيرادها إنما كان يتأتى على الوجه الواقع في القرآن ؛ لمعنى حسن لطيف استخرجه وأبداه . الزمخشري
ومنه قوله تعالى : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ( الجاثية : 23 ) وأصل الكلام : " هواه إلهه " كما تقول : اتخذ الصنم معبودا ، لكن قدم المفعول الثاني على الأول للعناية ، كما تقول : علمت منطلقا زيدا ؛ لفضل عنايتك بانطلاقه .
ومنه قوله تعالى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ( الكهف : 1 ) الآية ؛ أي : أنزله قيما ولم يجعل له عوجا . قاله جماعة ، منهم الواحدي .
ورده فخر الدين في " تفسيره " بأن قوله : ولم يجعل له عوجا قيما ( الكهف : 1 - 2 ) [ ص: 348 ] معناه أنه كامل في ذاته ، وأن قيما معناه أنه مكمل لغيره ، وكونه كاملا في ذاته سابق على كونه مكملا لغيره ؛ لأن معنى كونه " قيما " أنه قائم بمصالح الغير ، قال : فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح ما ذكر في الآية ، وما ذكر من التقديم والتأخير فاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه . انتهى .
وهذا فهم عجيب من الإمام ؛ لأن القائل بالتقديم والتأخير لا يقول بأن كونه " غير ذي عوج " متأخر عن كونه " قيما " في المعنى ، وإنما الكلام في ترتيب اللفظ لأجل الإعراب ، وقد يكون أحد المعنيين ثابتا قبل الآخر ويذكر بعده .
وأيضا فإن هذا البحث إنما هو على تفسير القيم بالمستقيم ، فأما إذا فسر بالقيام على غيره فلا نسلم أن هذا القائل يقول بالتقديم والتأخير .
وهاهنا أمران :
أحدهما : أن الأظهر جعل هذه الجملة - أعني قوله : ولم يجعل له عوجا قيما ( الكهف : 1 - 2 ) - من جملة صلة " الذي " وتمامها ، وعلى هذا لا موضع لها من الإعراب لوجهين :
أحدهما : أنها في حيز الصلة ؛ لأنها معطوفة عليها .
والثاني : أنها اعتراض بين الحال وعاملها ، ويجوز في الجملة المذكورة أن يكون موضعها النصب على أنها حال من " الكتاب " والعامل فيها " أنزل " .
قاله جماعة ، وفيه نظر .
وأما قوله : " قيما " فيجوز في نصبه وجوه :
أحدها - وهو قول الأكثر - : أنه منصوب على الحال من " الكتاب " ، والعامل فيه " أنزل " ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، وتقديره : " الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ، ولم يجعل له عوجا " ، فتكون الجملة على هذا اعتراضا .
[ ص: 349 ] والثاني : أن يكون منصوبا بفعل مقدر ، وتقديره : " ولكن جعله قيما " فيكون مفعولا للفعل المقدر .
والثالث : أن يكون حالا من الضمير في قوله : ولم يجعل له عوجا قيما ( الكهف : 1 - 2 ) وتكون حالا مؤكدة .
واختار صاحب " الكشاف " أن يكون " قيما " مفعولا لفعل مقدر كما ذكرناه ؛ لأن الجملة التي قبلها عنده معطوفة على الصلة ، و " قيما " من تمام الصلة ، وإذا كان حالا يكون فيه فصل بين بعض الصلة وتمامها ، فكان الأحسن جعله معمولا لمقدر .
وقال جماعة ، منهم ابن المنير في " تفسير البحر " بعد نقله كلام : " وعجيب منه كونه لم يجعل الفاصل المذكور حالا أيضا ، ولا فصل ، بل هما حالان متواليان من شيء واحد ، والتقدير : أنزل الكتاب غير معوج . الزمخشري
وهذا القول - وهو جعل الجملة حالا - قد ذكره جماعة قبل ابن المنير . والظاهر أن لم يرتض هذا القول ؛ لأن جعل الجملة حالا لا يفيده ما يفيد العطف ، من نفي العوج عن الكتاب مطلقا غير مقيد بالإنزال وهو المقصود ، فالفائدة التي هي أتم إنما تكون على تقدير استقلال الجملة ، كيف والقول بالتقديم والتأخير منقول عن الزمخشري - رضي الله عنهما - نقله ابن عباس وغيره . الطبري
وقال الواحدي : هو قول جميع أهل اللغة والتفسير ، ربما لاحظ هذا المعنى ولم يمنع جواز غير ما قال ، لكن ما قال هو الأحسن . والزمخشري
[ ص: 350 ] وقال غير ابن المنير في الاعتراض على : إن الجملة وإن كانت مستقلة فهي في حيز الصلة للعطف ، فلم يقع فصل ، ويؤيد ما ذكره صاحب " الكشاف " أن بعض القراء يسكت عند قوله " عوجا " ويفصل بينه وبين " قيما " بسكتة لطيفة ، وهي رواية الزمخشري حفص عن عاصم ، وذلك يحتمل أن يكون لما ذكرنا من تقدير الفصل وانقطاع الكلام عما قبله .
قال ابن المنير : وتحتمل السكتة وجها آخر ؛ وهو أن يكون ذلك لرفع توهم أن يكون " قيما " نعتا للعوج ؛ لأن النكرة تستدعي النعت غالبا ، وقد كثر في كلامهم إيلاء النكرة الجامدة نعتها ؛ كقوله : صراطا مستقيما ( النساء : 68 ) و قرآنا عربيا ( يوسف : 2 ) فإذا ولي النكرة الجامدة اسم مشتق نكرة ظهر فيه معنى الوصف ، فربما خيف اللبس في جعل " قيما " نعتا لـ " عوج " فرفع اللبس بهذه السكتة .
وهذا أيضا فيه نظر ؛ لأن ذلك إنما يتوهم فيما يصلح أن يكون وصفا ، ولا يصلح " قيما " أن يكون وصفا لـ " عوج " ، فإن الشيء لا يوصف بضده ؛ لأن العوج لا يكون قيما ، والأولى ما ذكرناه أولا .
الثاني : نقل الإمام عن بعضهم أن " قيما " بدل من قوله : " عوجا " وهو مشكل ؛ لأنه لا يظهر له وجه .
وقوله تعالى : ولقد همت به وهم بها ( يوسف : 24 ) قيل : التقدير : لقد همت [ ص: 351 ] به لولا أن رأى برهان ربه ، وهم بها . وهذا أحسن ؛ لكن في تأويله قلق ، ولا يحتاج إلى هذا التأويل إلا على قول من قال : إن الصغائر يجوز وقوعها منهم .
وقوله : فضحكت فبشرناها بإسحاق ( هود : 71 ) قيل : أصله : فبشرناها بإسحاق فضحكت ، وقيل : ضحكت ، أي : حاضت بعد الكبر عند البشرى ، فعادت إلى عادات النساء من الحيض والحمل والولادة .
وقوله تعالى : فأردت أن أعيبها ( الكهف : 79 ) قدم على ما بعده ، وهو مؤخر عنه في المعنى ؛ لأن ذلك يحصل للتوافق .
وقوله : فجعله غثاء أحوى ( الأعلى : 5 ) أي : أحوى غثاء ، أي : أخضر يميل إلى السواد ، والموجب لتأخير ( أحوى ) ( الأعلى : 5 ) رعاية الفواصل .
وقوله : ومن يبتغ غير الإسلام دينا ( آل عمران : 85 ) قال : أصله : ومن يبتغ دينا غير الإسلام . ابن برهان النحوي
وقوله : وغرابيب سود ( فاطر : 27 ) قال أبو عبيد : الغربيب : الشديد السواد ، ففي الكلام تقديم وتأخير . وقال صاحب " العجائب والغرائب " : قال ابن عيسى : الغربيب : الذي لونه لون الغراب ، فصار كأنه غراب . قال : والغراب يكون أسود وغير أسود . وعلى هذا فلا تقديم ولا تأخير فيه .
وقوله : ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ( الأنبياء : 105 ) على قول من يقول : إن الذكر هنا القرآن .
وقوله : حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ( النور : 27 ) .
[ ص: 352 ] وقوله : اقتربت الساعة وانشق القمر ( القمر : 1 ) .
وقوله : فكذبوه فعقروها ( الشمس : 14 ) أي : فعقروها ، ثم كذبوه في عقرها وفي إجابتهم .
وقوله : ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ( الأنعام : 2 ) تقديره : ثم قضى أجلا وعنده أجل مسمى ، أي : وقت مؤقت .
وقوله : فاجتنبوا الرجس من الأوثان ( الحج : 30 ) أي : الأوثان من الرجس .
هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون ( الأعراف : 154 ) أي : يرهبون ربهم .
والذين هم لفروجهم حافظون ( المؤمنون : 5 ) أي : الذين هم حافظون لفروجهم .
فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ( إبراهيم : 47 ) أي : مخلف رسله وعده .
بل الإنسان على نفسه بصيرة ( القيامة : 14 ) أي : بل الإنسان بصير على نفسه في شهود جوارحه عليه .
خلق الإنسان من عجل ( الأنبياء : 37 ) خلق العجل من الإنسان .
ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى ( طه : 129 ) أي : ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان العذاب لازما لهم .
ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ( الفرقان : 45 ) أي : كيف مده ربك .
وإنه لحب الخير لشديد ( العاديات : 8 ) أي : لشديد لحب الخير .
وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ( الأنعام : 137 ) أي : زين للمشركين شركاؤهم قتل أولادهم ؛ لأن الشياطين كانوا يحسنون لهم قتل بناتهم خشية العار .
[ ص: 353 ] وقوله : لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ( النساء : 83 ) تقديره : لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا منهم .
وقوله : إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ( التوبة : 55 ) أي : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة .
وقوله : مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح ( إبراهيم : 18 ) تقديره : مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد اشتدت به الريح .
وقوله : فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ( الشعراء : 77 ) أي : فأنا عدو آلهتهم وأصنامهم وكل معبود يعبدونه من دون الله .
وقوله : ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا ( سبأ : 51 ) أي : فزعوا وأخذوا فلا فوت ؛ لأن الفوت يكون بعد الأخذ .
وقوله : هل أتاك حديث الغاشية ( الغاشية : 1 ) يعني القيامة ، وجوه يومئذ خاشعة ( الغاشية : 2 ) وذلك يوم القيامة ، ثم قال : عاملة ناصبة ( الغاشية : 3 ) والنصب والعمل يكونان في الدنيا ، فكأنه على التقديم والتأخير ، معناه : وجوه عاملة ناصبة في الدنيا ، ويوم القيامة خاشعة ، والدليل عليه قوله : وجوه يومئذ ناعمة ( الغاشية : 8 ) .
وقوله : إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون ( غافر : 10 ) تقديره : لمقت الله إياكم في الدنيا حين دعيتم إلى الإيمان فكفرتم ، ومقته إياكم اليوم أكبر من مقتكم أنفسكم إذ دعيتم إلى النار .
[ ص: 354 ] وقوله : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ( البقرة : 187 ) لأن الفجر ليس له سواد ، والتقدير : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر من الخيط الأسود من الليل ؛ أي : حتى يتبين لكم بياض الصبح من بقية سواد الليل .
وقوله : ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ( النساء : 73 ) .
وقوله : كأن لم تكن ( النساء : 73 ) منظوم بقوله : قال قد أنعم الله علي ( النساء : 72 ) لأنه موضع الشماتة .
وقوله : وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين ( النحل : 51 ) أي : اثنين إلهين ؛ لأن اتخاذ اثنين يقع على ما يجوز وما لا يجوز ، و " إلهين " لا يقع إلا على ما لا يجوز فـ " إلهين " أخص ، فكان جعله صفة أولى .