[ ص: 293 ] النوع العاشر  
معرفة أول ما نزل من القرآن وآخر ما نزل   
فأما أوله : ففي " صحيح   البخاري     " في حديث بدء الوحي ما يقتضي أن أول ما نزل عليه صلى الله عليه وسلم (  اقرأ باسم ربك      ) ( العلق : 1 - 5 ) ثم " المدثر " .  
وأخرجه  الحاكم  في " مستدركه " من حديث  عائشة     - رضي الله عنها - صريحا ، وقال : صحيح الإسناد .  
ولفظ  مسلم :  أول ما نزل من القرآن : (  اقرأ باسم ربك      ) إلى قوله : (  علم الإنسان ما لم يعلم      ) .  
ووقع في " صحيح   البخاري     " إلى قوله : (  وربك الأكرم      ) ، وهو مختصر ، وفي الأول      [ ص: 294 ] زيادة ، وهي من الثقة مقبولة .  
وقد جاء ما يعارض هذا ، ففي " صحيح  مسلم     " عن  جابر :  أول ما نزل من القرآن سورة المدثر     .  
وجمع بعضهم بينهما بأن  جابرا  سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر قصة بدء الوحي فسمع آخرها ولم يسمع أولها ، فتوهم أنها أول ما نزلت ، وليس كذلك ، نعم هي أول ما نزل بعد سورة " اقرأ " وفترة الوحي ; لما ثبت في الصحيحين أيضا عن  جابر     - رضي الله عنه -  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدث عن فترة الوحي ، قال في حديثه : بينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء ، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني  بحراء   جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فجئثت منه ، فرجعت فقلت : زملوني زملوني  ، فأنزل الله - تبارك وتعالى - : (  ياأيها المدثر قم فأنذر      ) ( المدثر : 1 و 2 ) .  
فقد أخبر في هذا الحديث عن الملك الذي جاءه  بحراء   قبل هذه المرة ، وأخبر في حديث  عائشة  بأن نزول " اقرأ " كان في  غار حراء   ، وهو أول وحي ، ثم فتر بعد ذلك ، وأخبر في حديث  جابر  أن الوحي تتابع بعد نزول (  ياأيها المدثر      ) ، فعلم بذلك أن " اقرأ " أول ما نزل مطلقا ، وأن سورة المدثر بعده ، وكذلك قال   ابن حبان  في " صحيحه " ، لا تضاد بين الحديثين ، بل أول ما نزل : (  اقرأ باسم ربك الذي خلق      )  بغار حراء ،   فلما رجع إلى      [ ص: 295 ]  خديجة     - رضي الله عنها - وصبت عليه الماء البارد ، أنزل الله عليه في بيت   خديجة     : (  ياأيها المدثر      ) ، فظهر أنه لما نزل عليه : (  اقرأ      ) رجع فتدثر ، فأنزل عليه : (  ياأيها المدثر      ) .  
وقيل : أول ما نزل سورة الفاتحة ، روي ذلك من طريق  أبي إسحاق  عن  أبي ميسرة  قال :  كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الصوت انطلق هاربا ، وذكر نزول الملك عليه  ، وقوله : قل : (  الحمد لله رب العالمين      ) ( الفاتحة ) إلى آخرها .  
وقال  القاضي أبو بكر  في " الانتصار " : وهذا الخبر منقطع ، وأثبت الأقاويل (  اقرأ باسم ربك      ) ، ويليه في القوة : (  ياأيها المدثر      ) ، وطريق الجمع بين الأقاويل أن أول ما نزل من الآيات (  اقرأ باسم ربك      ) ، وأول ما نزل من أوامر التبليغ : (  ياأيها المدثر      ) ، وأول ما نزل من السور سورة الفاتحة .  
وهذا كما ورد في الحديث :  أول ما يحاسب به العبد الصلاة  ، وأول ما يقضى فيه الدماء ، وجمع بينهما بأن أول ما يحكم فيه      [ ص: 296 ] من المظالم التي بين العباد الدماء ، وأول ما يحاسب به العبد من الفرائض البدنية الصلاة .  
وقيل : أول ما نزل للرسالة : (  ياأيها المدثر      ) ( المدثر : 1 ) وللنبوة : (  اقرأ باسم ربك      ) ( العلق : 1 ) ، فإن العلماء قالوا : اقرأ في قوله تعالى : (  اقرأ باسم ربك      ) دال على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأن النبوة عبارة عن الوحي إلى الشخص على لسان الملك بتكليف خاص ، وقوله تعالى : (  ياأيها المدثر قم فأنذر      ) ( المدثر : 1 و 2 ) دليل على رسالته صلى الله عليه وسلم لأنها عبارة عن الوحي إلى الشخص على لسان الملك بتكليف عام .  
وذكر  القاضي  في الانتصار رواية : ثم نزل بعد سورة " اقرأ " ثلاث آيات من أول نوح ، وثلاث آيات من أول المدثر .  
 [ ص: 297 ] وعن  مجاهد  قال : أول سورة أنزلت " اقرأ " ، ثم " نون " .  
وذكر  الحاكم  في " الإكليل " أن أول آية أنزلت في الإذن بالقتال قوله تعالى : (  إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة      ) ( التوبة : 111 ) .  
وروى في " المستدرك " عن   ابن عباس     : أول آية أنزلت فيه (  أذن للذين يقاتلون      ) الآية ( الحج : 39 ) .  
وأما آخره : فاختلفوا فيه ; فعن   ابن عباس     - رضي الله عنهما - : (  إذا جاء نصر الله      ) ( النصر : 1 ) ، وعن  عائشة     : سورة " المائدة " .      [ ص: 298 ] وقيل : (  واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله      ) ( البقرة : 281 ) .  
وقال   السدي     : آخر ما نزل : (  فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم      ) ( التوبة : 129 ) .  
وفي " صحيح   البخاري "  في تفسير سورة " براءة " عن   البراء بن عازب     - رضي الله عنهما - : آخر آية نزلت : (  يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة      ) ( النساء : 176 ) وآخر سورة نزلت " براءة " " .  
وفي رواية غيره : آخر سورة أنزلت كاملة سورة " براءة " ، وآخر آية نزلت خاتمة " النساء " .  
 [ ص: 299 ] وذكر   ابن الأنباري  عن  أبي إسحاق ،  عن  البراء ،  قال : آخر آية نزلت من القرآن : (  يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة      ) ، ثم قال : وأخطأ  أبو إسحاق ،  ثم ساق سنده من طرق إلى   ابن عباس     : آخر آية أنزلت : (  واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله      ) ، وكان بين نزولها ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم أحد وثمانون يوما ، وقيل : تسع ليال . انتهى .  
وفي " مستدرك "  الحاكم     : عن  شعبة ،  عن   علي بن زيد ،  عن  يوسف بن مهران ،  عن   ابن عباس ،  عن   أبي بن كعب     - رضي الله عنه - أنه قال : آخر آية نزلت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : (  لقد جاءكم رسول من أنفسكم      ) ( التوبة : 128 و 129 ) ، ثم قرأها إلى آخر السورة ، ورواه  أحمد  في " المسند " عن   الربيع بن أنس ،  عن  أبي العالية ،  عن   أبي بن كعب     - رضي الله عنه - قال : آخر آية نزلت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : (  لقد جاءكم رسول من أنفسكم      ) ، ثم قرأ إلى : (  وهو رب العرش العظيم      ) ( التوبة : 129 ) ، قال : هذا آخر ما نزل من القرآن ،      [ ص: 300 ] فختم بما فتح به ، بالذي لا إله إلا هو ، وهو قول الله - تبارك وتعالى - : (  وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون      ) ( الأنبياء : 25 ) .  
وقال بعضهم : روى   البخاري     : آخر ما نزل آية الربا .  
وروى  مسلم     : آخر سورة نزلت جميعا : (  إذا جاء نصر الله      ) .  
قال  القاضي أبو بكر  في " الانتصار " : وهذه الأقوال ليس في شيء منها ما رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ويجوز أن يكون قاله قائله بضرب من الاجتهاد وتغليب الظن ، وليس العلم بذلك من فرائض الدين ، حتى يلزم ما طعن به الطاعنون من عدم الضبط .  
ويحتمل أن كلا منهم أخبر عن آخر ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه ، أو قبل مرضه بقليل ، وغيره سمع منه بعد ذلك ، وإن لم يسمعه هو ; لمفارقته له ، ونزول الوحي عليه بقرآن بعده .  
ويحتمل أيضا أن تنزل الآية - التي هي آخر آية تلاها الرسول صلى الله عليه وسلم - مع آيات نزلت معها ، فيؤمر برسم ما نزل وتلاوتها عليهم بعد رسم ما نزل آخرا وتلاوته ، فيظن سامع ذلك أنه آخر ما نزل في الترتيب .  
				
						
						
