في حكم الجهر بها والإخفاء ، وفيه مسائل  
( الأولى ) أن المختار عند الأئمة القراء هو الجهر بها عن جميع القراء ، لا نعلم في ذلك خلافا عن أحد منهم إلا ما جاء عن  حمزة  وغيره مما نذكره وفي كل حال من أحوال القراءة كما نذكره ، قال  الحافظ أبو عمرو  في جامعه : لا أعلم خلافا في  الجهر بالاستعاذة   عند افتتاح القرآن ، وعند ابتداء كل قارئ بعرض ، أو درس ، أو تلقين في جميع القرآن إلا ما جاء عن  نافع  وحمزة ،  ثم روى عن  ابن المسيبي  ، أنه سئل عن  استعاذة أهل  المدينة   أيجهرون بها أم يخفونها ؟   قال : ما كنا نجهر ، ولا نخفي ، ما كنا نستعيذ ألبتة . وروى عن أبيه ، عن  نافع  أنه كان يخفي الاستعاذة ويجهر بالبسملة عند افتتاح السور ورءوس الآيات في جميع القرآن . وروي أيضا عنالحلواني  ، قال  خلف     : كنا نقرأ على  سليم  فنخفي التعوذ ، ونجهر بالبسملة في " الحمد " خاصة ، ونخفي التعوذ والبسملة في سائر القرآن نجهر برءوس أثمنتها ، وكانوا يقرءون على  حمزة  فيفعلون ذلك ، قال  الحلواني     : وقرأت على  خلاد  ؛ ففعلت ذلك . قلت : صح إخفاء التعوذ من رواية  المسيبي  عن  نافع  ، وانفرد به  الولي  عن  إسماعيل بن نافع ،  وكذلك  الأهوازي  عن  يونس ،  عن   ورش ،  وقد ورد من طرق كتابنا عن  حمزة  على وجهين : أحدهما إخفاؤه ، وحيث قرأ القارئ مطلقا - أي في أول الفاتحة وغيرها - وهو الذي لم يذكر  أبو العباس المهدوي  عن  حمزة  من      [ ص: 253 ] روايتي  خلف  وخلاد  سواء . وكذا روى  الخزاعي  عن  الحلواني  عن  خلف  وخلاد     . وكذا ذكر  الهذلي  في كامله وهي رواية  إبراهيم بن زربي  ، عن  سليم  ، عن  حمزة     . الثاني : الجهر بالتعوذ في أول الفاتحة فقط ، وإخفاؤه في سائر القرآن ، وهو الذي نص عليه في " المبهج " عن  خلف  ، عن  سليم  ، وفي اختياره وهي رواية  محمد بن لاحق التميمي  ، عن  سليم  ، عن  حمزة  ، ورواه   الحافظ الكبير أبو الحسن الدارقطني  في كتابه ، عن   أبي الحسن بن المنادي  ، عن  الحسن بن العباس  ، عن  الحلواني  ، عن  خلف ،  عن  سليم ،  عن  حمزة ،  أنه كان يجهر بالاستعاذة والبسملة في أول سورة فاتحة الكتاب ، ثم يخفيها بعد ذلك في جميع القرآن ، وقرأت على  خلاد  فلم يغير علي ، وقال لي : كان  سليم  يجهر فيهما جميعا ، ولا ينكر على من جهر ولا على من أخفى ، وقال   أبو القاسم الصفراوي  في " الإعلان " : واختلف عنه - يعني عن  حمزة     - أنه كان يخفيها عند فاتحة الكتاب وكسائر المواضع ، أو يستثني فاتحة الكتاب فيجهر بالتعوذ عندها ، فروي عنه الوجهان جميعا . انتهى . وقد انفرد  أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الطبري ،  عن  الحلواني  ، عن   قالون  بإخفائها في جميع القرآن .  
( الثانية ) أطلقوا اختيار  الجهر في الاستعاذة مطلقا ،   ولا بد من تقييده ، وقد قيده  الإمام أبو شامة     - رحمه الله تعالى - بحضرة من يسمع قراءته ، ولا بد من ذلك ، قال : لأن الجهر بالتعوذ إظهار لشعائر القراءة ، كالجهر بالتلبية وتكبيرات العيد ، ومن فوائده أن السامع ينصت للقراءة من أولها لا يفوته منها شيء ، وإذا أخفى التعوذ لم يعلم السامع بالقراءة إلا بعد أن فاته من المقروء شيء . وهذا المعنى هو الفارق بين القراءة خارج الصلاة وفي الصلاة ، فإن المختار في الصلاة الإخفاء ; لأن المأموم منصت من أول الإحرام بالصلاة ، وقال  الشيخ محيي الدين النووي     - رحمه الله - : إذا تعوذ في الصلاة التي يسر فيها بالقراءة أسر بالتعوذ ، فإن تعوذ في التي يجهر فيها بالقراءة فهل يجهر ؟ فيه خلاف ؛ من أصحابنا من قال : يسر ، وقال الجمهور   والشافعي     : في المسألة قولان : أحدهما يستوي الجهر والإسرار ، وهو نصه      [ ص: 254 ] في الأم ، والثاني يسن الجهر ، وهو نصه في الإملاء . ومنهم من قال : قولان أحدهما يجهر صححه   الشيخ أبو حامد الإسفراييني  إمام أصحابنا العراقيين وصاحبه  المحاملي  وغيره ، وهو الذي كان يفعله   أبو هريرة ،  وإن   ابن عمر     - رضي الله عنهما - يسر ، وهو الأصح عند جمهور أصحابنا ، وهو المختار .  
( قلت ) : حكى صاحب البيان القولين على وجه آخر ، فقال : أحد القولين أنه يتخير بين الجهر والسر ولا ترجيح ، والثاني يستحب فيه الجهر ، ثم نقل عن   أبي علي الطبري  أنه يستحب فيه الإسرار ، وهذا مذهب  أبي حنيفة  وأحمد  ، ومذهب  مالك  في قيام رمضان . ومن  المواضع التي يستحب فيها الإخفاء   إذا قرأ خاليا ، سواء قرأ جهرا أو سرا ، ومنها إذا قرأ سرا فإنه يسر أيضا ، ومنها إذا قرأ في الدور ولم يكن في قراءته مبتدئا يسر بالتعوذ ؛ لتتصل القراءة ولا يتخللها أجنبي ، فإن المعنى الذي من أجله استحب الجهر هو الإنصات فقط في هذه المواضع .  
( الثالثة ) اختلف المتأخرون في  المراد بالإخفاء   ، فقال كثير منهم هو الكتمان وعليه حمل كلام  الشاطبي  أكثر الشراح ، فعلى هذا يكفي فيه الذكر في النفس من غير تلفظ ، وقال الجمهور : المراد به الإسرار ، وعليه حمل  الجعبري  كلام  الشاطبي  ، فلا يكفي فيه التلفظ وإسماع نفسه ، وهذا هو الصواب ; لأن نصوص المتقدمين كلها على جعله ضدا للجهر وكونه ضدا للجهر يقتضي الإسرار به ، والله تعالى أعلم .  
( فأما قول )  ابن المسيبي  ما كنا نجهر ، ولا نخفي ، ما كنا نستعيذ ألبتة - فمراده الترك رأسا كما هو مذهب  مالك     - رحمه الله تعالى - كما سيأتي .  
				
						
						
