وبالجملة فوقت التحديث دائر بين الحاجة أو سن مخصوص ، وهل له أمد ينتهي إليه ؟ اختلف فيه أيضا ، فقالعياض : ( وينبغي ) له ، أي : استحبابا ( الإمساك ) عن التحديث ، ( إذ ) أي : حيث ( يخشى الهرم ) الناشئ عنه غالبا التغير ، وخوف الخرف والتخليط بحيث يروي ما ليس من حديثه . وابن الصلاح
قال : والناس في السن الذي يحصل فيه الهرم يتفاوتون بحسب اختلاف أحوالهم . يعني : فلا ضابط حينئذ له . ( و ) لكن ( بالثمانين ) ابن الصلاح أيضا ( جزم ) حيث حده بها ، وعبارته : فإذا تناهى العمر بالمحدث فأعجب إلى أن يمسك في الثمانين ، فإنه حد الهرم . قال : والتسبيح والذكر وتلاوة القرآن أولى بأبناء الثمانين . أبو محمد ( ابن خلاد ) الرامهرمزي
قال : ( فإن يكن ثابت عقل ) مجتمع رأي ، يعرف حديثه ويقوم به ، وتحرى أن يحدث احتسابا ، ( لم يبل ) أي لم يبال بذلك ، بل رجوت له خيرا .
ولذا قال ابن دقيق العيد : وهذا ، أي التقييد بالسن ، عندما تظهر منه [ ص: 234 ] أمارة الاختلال ، ويخاف منها ، فأما من لم يظهر ذلك فيه فلا ينبغي له الامتناع ; لأن هذا الوقت أحوج ما يكون الناس إلى روايته .
يعني كما وقع لجماعة من الصحابة ( ، كأنس ) هو ابن مالك ، حيث حدث كل منهما بعد مجاوزة المائة . وحكيم بن حزام
ولجماعة من التابعين ، ومن أتباعهم كشريح القاضي كالليث ، ( ، ومالك ) هو ابن أنس ، ( ومن فعل ) ذلك غيرهم من هذه الطباق وبعدها ، ومنهم وابن عيينة . الحسن بن عرفة
( و ) ) ، ( و ) أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز ( البغوي ) بالتصغير نسبة أبو إسحاق إبراهيم بن علي ( الهجيمي لهجيم بن عمرو ، ( وفئه ) أي جماعة غيرهم ( كـ ) ) ، القاضي أبي الطيب طاهر بن عبد الله ( الطبري كلهم ( حدثوا بعد المائه ) . والحافظ أبي طاهر السلفي
واختص الهجيمي عمن ذكر حسبما ذكره في فوائد رحلته بأنه كان آلى ألا يحدث إلا بعد استيفاء المائة ; لأنه قد رأى في منامه أنه قد تعمم ورد على رأسه مائة وثلاث دورات ، فعبر له أن يعيش سنين بعددها فكان كذلك . ابن الصلاح
وممن قارب المائة من شيوخنا وهو على جلالته في قوة الحافظة والاستحضار ، القاضي سعد الدين بن الديري ، ولم يتغير واحد من هؤلاء ، بل ساعدهم التوفيق ، وصحبتهم السلامة ، وظهر بذلك مصداق ما روي عن مالك أنه قال : إنما يخرف الكذابون . يعني غالبا ، حتى إن القارئ قرأ يوما على الهجيمي بعد أن جاوز المائة حديث عائشة في قصة الهجرة ، وفيه أن الحمى أصابت أبا [ ص: 235 ] بكر وبلالا أو عامر بن فهيرة ، وكانوا في بيت واحد ، فقالت له عائشة : كيف تجدك يا عامر ؟ فقال :
إني وجدت الموت قبل ذوقه إن الجبان حتفه من فوقه كل امرئ مجاهد بطوقه
كالثور يحمي جسمه بروقه
قال عياض : وإنما كره من كره لأصحاب الثمانين التحديث لكون الغالب على من يبلغ هذا السن اختلال الجسم والذكر ، وضعف الحال وتغير الفهم وحلول الخرف ، فخيف أن يبدأ به التغير والاختلال فلا يفطن له إلا بعد أن جازت عليه أشياء .
وتبعه في هذا التوجيه فقال : من بلغ الثمانين ضعف حاله في الغالب ، وخيف عليه الاختلال والإخلال ، وألا يفطن له إلا بعد أن يخلط ، كما اتفق لغير واحد من الثقات ، منهم ابن الصلاح عبد الرزاق . على أن وسعيد بن أبي عروبة العماد ابن كثير قد فصل بين من يكون اعتماده في حديثه على حفظه وضبطه .
فينبغي الاحتراز من اختلاطه إذا طعن في السن ، أو لا ، بل الاعتماد على كتابه أو الضابط المفيد عنه ، فهذا كلما تقدم في السن كان الناس أرغب في السماع ، منه كالحجار ، فإنه جاز المائة بيقين ; لأنه سمع ( ) على البخاري ابن الزبيدي في سنة ثلاثين وستمائة ، وأسمعه في سنة ثلاثين وسبعمائة ، وكان عاميا لا يضبط شيئا ، ولا يتعقل كثيرا ، ومع هذا تداعى الأئمة والحفاظ فضلا عمن دونهم إلى السماع منه ، لأجل تفرده ، بحيث سمع منه مائة ألف أو يزيدون .
[ ص: 236 ] قلت : وقد أفرد الذهبي كراسة أورد فيها على السنين من جاز المائة ، وكذا جمع شيخنا كتابا في ذلك على الحروف ، ولكن ما وقفت عليه ، بل وما أظنه بيض .
ويوجد فيهما جملة من أمثلة ما نحن فيه ، وفيه رد على أبي أمامة ابن النقاش حيث زعم أنه لا يعيش أحد من هذه الأمة فوق مائة سنة ، متمسكا بحديث جابر في ( الصحيح ) : ( ) حسبما سمعه ما على الأرض نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة البرهان الحلبي من الناظم عنه .
( و ) كذا ( ينبغي ) استحبابا ( ) بنقل الهمزة ، سواء القديم عماه أو الحادث ، عن الرواية ، ( إن يخف ) أن يدخل عليه في حديثه ما ليس منه ; لكونه غير حافظ ، بل ولو كان حافظا ، كما وقع لجماعة حسبما قدمته في الفصل الأول من صفة رواية الحديث وأدائه مع الإمعان فيه وفي الأمي ، ما يغني عن إعادته . إمساك الاعمى
وينبغي استحبابا أيضا حيث بان مع ما بعده من المسائل التي انجر الكلام إليها ألا تحمله الرغبة فيه على كراهة أن يؤخذ عن غيره ، فإن هذه مصيبة يبتلى بها بعض الشيوخ ، وهي دليل واضح على عدم إرادة وجه الله ، ولا على إخفاء من يعلمه من الرواة ممن لا يوازيه . الحض على نشر الحديث