40 - هل سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قالوا : رويتم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سحر ، وجعل سحره في بئر ذي أروان ، وأن عليا - كرم الله وجهه - استخرجه ، وكلما حل منه عقدة وجد النبي - صلى الله عليه وسلم - خفة ، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - كأنما أنشط من عقال . وهذا لا يجوز على نبي الله - صلى الله عليه وسلم - لأن السحر كفر ، وعمل من أعمال الشيطان ، فيما يذكرون . فكيف يصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مع حياطة الله تعالى له وتسديده إياه بملائكته وصونه الوحي عن الشيطان ؟ والله تعالى يقول في القرآن : لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأنتم تزعمون أن الباطل هاهنا هو الشيطان ؟ .
وقال عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا أي : يجعل بين يديه وخلفه رصدا من الملائكة يحفظونه ويصونون الوحي عن أن يدخل فيه الشيطان ما ليس منه . [ ص: 261 ] وذهبوا في السحر إلى أنه حيلة يصرف بها وجه المرء عن أخيه ، ويفرق بها بين المرء وزوجه ، كالتمائم والكذب . وقالوا : هذه رقى ، ومنه السم يسقاه الرجل فيقطعه عن النساء ، ويغير خلقه وينثر شعره ولحيته . وإلى أن سحرة فرعون خيلوا لموسى - صلى الله عليه وسلم - ما أروه ، قالوا : ومثل ذلك أنا نأخذ الزئبق فنفرغه في وعاء كالحية ، ثم نرسله في موضع حار فينساب انسياب الحية .
قالوا : ومن الدليل على ذلك قول الله تعالى : فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى إنما هو تخييل وليس ثم شيء على حقيقته . وقالوا : في قول الله تعالى واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت هو بمعنى النفي ، أي : لم ينزل ذلك ، وقالوا : الملكين بكسر اللام .
وذكروا عن الحسن أنه كان يقرؤها كذلك ويقول : علجان من أهل بابل .
قال أبو محمد : ونحن نقول إن الذي يذهب إلى هذا مخالف للمسلمين واليهود والنصارى وجميع أهل الكتب ، ومخالف للأمم كلها . الهند ، وهي أشدها إيمانا بالرقى ، والروم ، والعرب في الجاهلية وفي الإسلام ، ومخالف للقرآن معاند له بغير تأويل ، لأن الله - جل وعز - قال لرسوله - صلى الله عليه وسلم - قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد [ ص: 262 ] فأعلمنا أن السواحر ينفثن في عقد يعقدنها ، كما يتفل الراقي والمعوذ ، وكانت قريش تسمي السحر العضه ، ولعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العاضهة والمستعضهة ، يعني بالعاضهة : الساحرة ، وبالمستعضهة التي تسألها أن تسحر لها . وقال الشاعر : .
أعوذ بربي من النافثات في عقد العاضه المعضه
يعني : السواحر ، وقد روى عن ابن نمير عن أبيه عن هشام بن عروة عائشة - رضي الله عنها - وهذا طريق مرضي صحيح ، أنه قال حين سحر : لبيد بن الأعصم . قال : في أي شيء ؟ قال : في مشط ومشاطة ، وجف طلعة ذكر . قال : وأين هو ؟ قال : في بئر ذي أروان . جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي ، فقال أحدهما : ما وجع الرجل ؟ قال : مطبوب . فقال : من طبه ؟ قال :وليس هذا مما يجتر الناس به إلى أنفسهم نفعا ولا يصرفون عنها ضرا ، ولا يكسبون به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثناء ومدحا ، ولا حملة هذا الحديث كذابين ولا متهمين ، ولا معادين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وما ينكر أن يكون لبيد بن الأعصم - هذا اليهودي - سحر [ ص: 263 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قتلت اليهود قبله زكريا بن آذن في جوف شجرة ، قطعته قطعا بالمناشير .
وذكر أو غيره أنه - عليه السلام - لما وصل المنشار إلى أضلاعه أن ، فأوحى الله تعالى إليه : إما أن تكف عن أنينك ، وإما أن أهلك الأرض ومن عليها . وهب بن منبه
وقتلت بعده ابنه يحيى بقول بغي ، واحتيالها في ذلك ، وادعت - يعني اليهود - أنها قتلت المسيح وصلبته ، ولو لم يقل الله تعالى وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم لم نعلم نحن أن ذلك شبهه ، لأن اليهود أعداؤه ، وهم يدعون ذلك ، والنصارى أولياؤه وهم يقرون لهم به ، وقتلت الأنبياء وطبختهم وعذبتهم أنواع العذاب ، ولو شاء الله - جل وعز - لعصمهم منهم ، وقد سم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذراع شاة مشوية سمته يهودية ، فلم يزل السم يعاوده حتى مات ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : خيبر تعاودني ، فهذا أوان انقطاع أبهري [ ص: 264 ] فجعل الله تعالى لليهودية عليه السبيل حتى قتلته ، ومن قبل ذلك ما جعل الله لهم السبيل على النبيين . ما زالت أكلة
والسحر أيسر خطبا من القتل والطبخ والتعذيب ، فإن كانوا إنما أنكروا ذلك ، لأن الله تعالى لا يجعل للشيطان على النبي - صلى الله عليه وسلم - سبيلا ، ولا على الأنبياء ، فقد قرأوا في كتاب الله تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته يريد إذا تلا ، ألقى الشيطان في تلاوته ، يعزيه عما ألقاه الشيطان على لسانه حين قرأ في الصلاة : ( تلك الغرانيق العلى * وإن شفاعتهن ترتجى ) غير أنه لا يقدر أن يزيد فيه أو ينقص منه .
أما تسمعه يقول فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته أي : يبطل ما ألقاه الشيطان ، ثم قال : ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض وكذلك قوله في القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أي : لا يقدر الشيطان أن يزيد فيه أولا ولا آخرا .
قال أبو محمد : حدثني أبو الخطاب قال حدثنا عن بشر بن المفضل يونس عن الحسن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن جبريل - عليه السلام - أتاني ، فقال : إن عفريتا من الجن يكيدك ، فإذا أويت إلى فراشك فقل : الله لا إله إلا هو الحي القيوم حتى تختم آية الكرسي .
[ ص: 265 ] وقد حكى الله تعالى عن أيوب - صلى الله عليه وسلم - فقال : أني مسني الشيطان بنصب وعذاب قال أبو محمد : وأما قولهم في السحر الذي رآه موسى - صلى الله عليه وسلم - : إنه تخييل إليه وليس على حقيقته ، فما ننكر هذا ولا ندفعه وإنا لنعلم أن الخلائق كلها لو اجتمعوا على خلق بعوضة لما استطاعوا ، غير أنا لا ندري أهو بالزئبق الذي ادعوا أنهم جعلوه في سلوخ الحيات حتى جرت ، أم بغيره ؟ ولا يعلم هذا إلا من كان ساحرا أو من سمع فيه شيئا من السحرة .
وأما قولهم في قول الله تبارك وتعالى واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ثم قال : يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين إن تأويله : ولم ينزل على الملكين ببابل ، فليس هذا بمنكر من تأويلاتهم المستحيلة المنكوسة .
فإذا كان لم ينزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ، صار الكلام فضلا لا معنى له . وإنما يجوز بأن يدعي مدع أن السحر أنزل على الملكين ، ويكون فيما تقدم ذكر ذلك ، أو دليل عليه فيقول الله تعالى : " اتبعوا ذلك " . ولم ينزل على الملكين كما ذكروا ؟ .
ومثال هذا أن يقول مبتدئا : علمت هذا الرجل القرآن وما أنزل على موسى - عليه السلام - فلا يتوهم سامع هذا أنك أردت أن القرآن لم ينزل على موسى - عليه السلام - ، لأنه لم يتقدمه قول أحد أنه أنزل على موسى - عليه السلام - ، وإنما يتوهم السامع أنك علمته القرآن والتوراة .
[ ص: 266 ] وتأويل هذا عندنا يتبين بمعرفة الخبر المروي فيه . وجملته على ما ذكر أن ابن عباس سليمان - صلى الله عليه وسلم - لما عوقب وخلفه الشيطان في ملكه ، دفنت الشياطين في خزانته وموضع مصلاه سحرا ، وأخذا ونيرنجات .
فلما مات سليمان - صلى الله عليه وسلم - جاءت الشياطين إلى الناس فقالوا : ألا ندلكم على الأمر الذي سخرت به لسليمان الريح والجن ، ودانت له به الإنس ؟ قالوا : بلى ، فأتوا مصلاه وموضع كرسيه فاستخرجوا ذلك منه ، فقال العلماء من بني إسرائيل : ما هذا من دين الله وما كان سليمان ساحرا ، وقال سفلة الناس : سليمان كان أعلم منا ، فسنعمل بهذا كما عمل .
فقال الله تعالى : واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان أي : اتبعت اليهود ما ترويه الشياطين ، والتلاوة والرواية شيء واحد . ثم قال : وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين وهما ملكان أهبطا إلى الأرض حين عمل بنو آدم بالمعاصي ، ليقضيا بين الناس . وألقي في قلوبهما شهوة النساء ، وأمرا أن لا يزنيا ولا يقتلا ولا يشربا خمرا ، فجاءتهما الزهرة تخاصم إليهما فأعجبتهما فأراداها ، فأبت عليهما حتى يعلماها الاسم الذي يصعدان به إلى السماء . فعلماها ثم أراداها فأبت حتى يشربا الخمر ، فشرباها [ ص: 267 ] وقضيا حاجتهما ، ثم خرجا ، فرأيا رجلا فظنا أنه قد ظهر عليهما فقتلاه ، وتكلمت الزهرة بذلك الاسم فصعدت ، فخنست وجعلها الله شهابا . وغضب الله تعالى على الملكين ، فسماهما هاروت وماروت ، وخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا فهما يعلمان الناس ما يفرقون به بين المرء وزوجه .
والذي أنزل الله - عز وجل - على الملكين فيما يرى أهل النظر - والله أعلم - هو الاسم الأعظم الذي صعدت به الزهرة ، وكانا به قبلها وقبل السخط عليهما يصعدان إلى السماء ، فعلمته الشياطين فهي تعلمه أولياءها وتعلمهم السحر . وقد يقال : إن الساحر يتكلم بكلام فيطير بين السماء والأرض ، ويطفو على الماء .
قال أبو محمد : حدثني قال حدثنا زيد بن أخزم الطائي عبد الصمد قال حدثنا همام عن يحيى بن كثير : أن عامل عمان كتب إلى - رضي الله عنه - : ( إنا أتينا بساحرة فألقيناها في الماء فطفت ) . فكتب إليه عمر بن عبد العزيز : ( لسنا من الماء في شيء ، إن قامت البينة ، وإلا فخل سبيلها ) . عمر بن عبد العزيز
[ ص: 268 ] وحدثني قال حدثنا زيد بن أخزم الطائي عبد الصمد قال حدثنا زيد بن أبي ليلى قال حدثنا عميرة بن شكير قال : كنا مع سنان بن سلمة بالبحرين ، فأتي بساحرة فأمر بها فألقيت في الماء ، فطفت ، فأمر بصلبها فنحتنا جذعا فجاء زوجها كأنه سفود محترق ، فقال : مرها فلتطلق عني ، فقال لها : أطلقي عنه ، فقالت : نعم ، ائتوني بباب وغزل ، فقعدت على الباب ، وجعلت ترقي في الغزل وتعقد ، فارتفع الباب . فأخذنا يمينا وشمالا فلم نقدر عليها .
وحدثنا أبو حاتم عن قال : أخبرني الأصمعي محمد بن سليم الطائي في حديث ذكره : إن الشياطين لا تستطيع أن تغير خلقها ولكنها تسحره .
وحدثني أبو حاتم قال : قال عن الأصمعي : ( إن الغول ساحرة الجن ) . وحدثنا أبي عمرو بن العلاء أبو الخطاب قال : حدثنا قال : سمعت المعتمر بن سليمان منصورا يذكر عن عن ربعي بن خراش حذيفة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : . لأنا أعلم بما مع الدجال إن معه نارا تحرق ونهر ماء بارد ، فمن أدركه منكم فلا يهلكن به وليغمض عينه وليقع في التي يراها نارا ، فإنها نهر ماء بارد
وحدثني أبو حاتم عن عن الأصمعي أبي الزناد قال : جاءت امرأة تستفتي فوجدت النبي - صلى الله عليه وسلم - قد توفي ، ولم تجد إلا امرأة من نسائه يقال [ ص: 269 ] إنها عائشة - رضي الله عنها - فقالت لها : يا أم المؤمنين ، قالت لي امرأة : هل لك أن أعمل لك شيئا يصرف وجه زوجك إليك ؟ وأظنه قال : فأتت بكلبين ، فركبت واحدا وركبت الآخر ، فسرنا ما شاء الله ، ثم قالت : أتدرين أين أنت ؟ إنك ببابل . ودخلت على رجل ، أو قالت : رجلين ، فقالا لها : بولي على ذلك الرماد ، قالت فذهبت فلم أبل ، ورجعت إليهما ، فقالا لي : ما رأيت ؟ قالت : ما رأيت شيئا ، قالا : أنت على رأس أمرك ، قالت : فرجعت فتشددت ثم بلت ، فخرج مني مثل الفارس المقنع ، فصعد في السماء . فرجعت إليهما ، فقالا لي : ما رأيت ؟ فأخبرتهما ، فقالا : ذلك إيمانك قد فارقك . .
فخرجت إلى المرأة ، فقلت : والله ما علماني شيئا ، ولا قالا لي كيف أصنع ؟ قالت : فما رأيت قلت كذا ، قالت : أنت أسحر العرب ، اعملي وتمني . قالت : فقطعت جداول ، وقالت : احقل ، فإذا هو زرع يهتز . فقالت : افرك ، فإذا هو قد يبس . قالت : فأخذته ففركته وأعطتنيه ، فقالت : جشي هذا واجعليه سويقا ، واسقيه زوجك ، فلم أفعل شيئا من ذلك ، وانتهى الشأن إلى هذا . فهل لي من توبة ؟ .
قالت : ورأت رجلا من خزاعة ، كان يسكن أمج ، فقالت : يا أم المؤمنين هذا أشبه الناس بهاروت وماروت .
[ ص: 270 ] قال أبو محمد : وقد روى هذا عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عائشة - رضي الله عنها - . قال أبو محمد : وهذا شيء لم نؤمن به من جهة القياس ولا من جهة حجة العقل ، وإنما آمنا به من جهة الكتب وأخبار الأنبياء - صلى الله عليهم وسلم - وتواطؤ الأمم في كل زمان عليه ، خلا هذه العصابة ، التي لا تؤمن إلا بما أوجبه النظر ، ودل عليه القياس ، فيما شاهدوا ورأوا .
وأما قول الحسن : إنهما علجان من أهل بابل وقراءته الملكين بالكسر ، فهذا شيء لم يوافقه أحد من القراء ولا المتأولين فيما أعلم ، وهو أشد استكراها وأبعد مخرجا ، وكيف يجوز أن ينزل على علجين شيء يفرقان به بين المرء وزوجه ؟ ! .