[ ص: 149 ] الباب العشرون
في جميع أدلة المجتهدين ، وتصرفات المكلفين
وفيه فصلان
الفصل الأول : في الأدلة ، وهي على قسمين : أدلة مشروعيتها ، وأدلة وقوعها .
فأما أدلة مشروعيتها : فتسعة عشر بالاستقراء .
وأما أدلة وقوعها ، فلا يحصرها عدد ، فلنتكلم أولا على أدلة مشروعيتها ، فنقول :
هي الكتاب ، والسنة ، وإجماع الأمة ، وإجماع أهل المدينة ، والقياس ، وقول الصحابي ، والمصلحة المرسلة ، والاستصحاب ، والبراءة الأصلية ، والعوائد ، والاستقراء ، وسد الذرائع ، والاستدلال ، والاستحسان ، والأخذ بالأخف ، والعصمة ، وإجماع أهل الكوفة ، وإجماع العشرة ، وإجماع الخلفاء الأربعة .
فأما الخمسة الأولى ، فقد تقدم الكلام عليها .
وأما ، فهو حجة عند قول الصحابي مالك ، في قوله القديم مطلقا لقوله عليه السلام : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم . والشافعي
[ ص: 150 ] ومنهم من قال : إن خالف القياس ، فهو حجة ، وإلا فلا .
ومنهم من قال : قول أبي بكر ، وعمر رضي الله عنهما حجة دون غيرهما .
وقيل : حجة إذا اتفقوا . قول الخلفاء الأربعة
: والمصالح بالإضافة إلى شهادة الشرع لها بالاعتبار على ثلاثة أقسام : المصلحة المرسلة
ما شهد الشرع باعتباره ، وهو القياس الذي تقدم .
وما شهد الشرع بعدم اعتباره نحو المنع من زراعة العنب لئلا يعصر منه الخمر .
وما لم يشهد له باعتبار ، ولا بإلغاء ، وهو المصلحة المرسلة ، وهي عند مالك - رحمه الله - حجة .
وقال : إن وقعت في محل الحاجة ، أو التتمة ، فلا تعتبر ، وإن وقعت في محل الضرورة ، فيجوز أن يؤدي إليها اجتهاد مجتهد . الغزالي
ومثاله : تترس الكفار بجماعة من المسلمين ، فلو كففنا عنهم لصدمونا ، واستولوا علينا وقتلوا المسلمين كافة ، ولو رميناهم لقتلنا الترس معهم .
قال : فيشترط في هذه المصلحة أن تكون كلية قطعية ضرورية .
فالكلية : احتراز عما إذا تترسوا في قلعة بمسلمين ، فلا يحل رمي المسلمين إذ لا يلزم من ترك تلك القلعة فساد عام .
والقطعية : احتراز عما إذا لم يقطع باستيلاء الكفار علينا إذا لم نقصد الترس ، وعن المضطر يأكل قطعة من فخذه .
والضرورية : احتراز عن المناسب الكائن في محل الحاجة ، والتتمة .
[ ص: 151 ] لنا : أن الله تعالى إنما بعث الرسل لتحصيل مصالح العباد عملا بالاستقراء ، فمهما وجدنا مصلحة غلب على الظن أنها مطلوبة للشرع .
: الاستصحاب
ومعناه : أن اعتقاد كون الشيء في الماضي أو الحاضر يوجب ظن ثبوته في الحال أو الاستقبال .
وهذا الظن عند مالك والإمام فخر الدين والمزني وأبي بكر الصيرفي رحمة الله عليهم حجة خلافا لجمهور الحنفية ، والمتكلمين .
لنا : أنه قضاء بالطرف الراجح ، فيصح كأروش الجنايات ، واتباع الشهادات .
: البراءة الأصلية
وهي استصحاب حكم العقل في عدم الأحكام خلافا للمعتزلة ، والأبهري ، وأبي الفرج منا ، وثبوت عدم الحكم في الماضي يوجب ظن عدمه في الحال ، فيجب الاعتماد على هذا الظن بعد الفحص عن رافعه ، وعدم وجوده عندنا ، وعند طائفة من الفقهاء .
: العوائد
والعادة : غلبة معنى من المعاني على الناس ، وقد تكون هذه الغلبة في سائر الأقاليم كالحاجة للغذاء ، والتنفس في الهواء ، وقد تكون خاصة ببعض البلاد كالنقود ، والعيوب ، وقد تكون خاصة ببعض الفرق كالأذان للإسلام ، والناقوس للنصارى ، فهذه العادة يقضى بها عندنا لما تقدم في الاستصحاب .
: الاستقراء
وهو : تتبع الحكم في جزئياته على حالة يغلب على الظن أنه في صورة [ ص: 152 ] النزاع على تلك الحالة كاستقرائنا الفرض في جزئياته بأنه لا يؤدى على الراحلة ، فيغلب على الظن أن الوتر لو كان فرضا لما أدي على الراحلة ، وهذا الظن حجة عندنا ، وعند الفقهاء .
: سد الذرائع
الذريعة : الوسيلة للشيء ، ومعنى ذلك حسم مادة وسائل الفساد دفعا له ، فمتى كان الفعل السالم من المفسدة وسيلة إلى المفسدة منعنا من ذلك الفعل ، وهو مذهب مالك - رحمه الله - عليه .
تنبيه :
ينقل عن مذهبنا : أن من خواصه اعتبار العوائد والمصلحة المرسلة وسد الذرائع ، وليس كذلك .
أما العرف ، فمشترك بين المذاهب ، ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها .
وأما المصلحة المرسلة : فغيرنا يصرح بإنكارها ، ولكنهم عند التفريع تجدهم يعللون بمطلق المصلحة ، ولا يطالبون أنفسهم عند الفوارق والجوامع بإبداء الشاهد لها بالاعتبار بل يعتمدون على مجرد المناسبة ، وهذا هو المصلحة المرسلة .
وأما الذرائع : فقد أجمعت الأمة على أنها على ثلاثة أقسام :
أحدها : معتبر إجماعا كحفر الآبار في طرق المسلمين ، وإلقاء السم في أطعمتهم ، وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله تعالى حينئذ .
وثانيها : ملغى إجماعا كزراعة العنب ، فإنه لا يمنع خشية الخمر ، والشركة في سكنى الآدر خشية الزنا .
وثالثها : مختلف فيه كبيوع الآجال اعتبرنا نحن الذريعة فيها ، وخالفنا غيرنا .
[ ص: 153 ] فحاصل القضية : أنا قلنا بسد الذرائع أكثر من غيرنا لا أنها خاصة بنا .
واعلم : أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها ، ويكره ، ويندب ، ويباح ، فإن الذريعة هي الوسيلة ، فكما أن وسيلة المحرم محرمة ، فوسيلة الواجب واجبة كالسعي للجمعة والحج .
وموارد الأحكام على قسمين :
مقاصد : وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها .
ووسائل : وهي الطرق المفضية إليها ، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم أو تحليل غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها .
فالوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل ، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل ، وإلى ما هو متوسط متوسطة .
وينبه على اعتبار الوسائل قوله تعالى : ( ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح ) . فأثابهم على الظمأ والنصب ، وإن لم يكونا من فعلهم لأنهما حصلا لهم بسبب التوسل إلى الجهاد الذي هو وسيلة لإعزاز الدين ، وصون المسلمين ، فالاستعداد وسيلة إلى الوسيلة .
قاعدة :
كلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة ، فإنها تبع ، وقد خولفت هذه القاعدة في الحج في إمرار الموسى على رأس من لا شعر له مع أنه وسيلة إلى إزالة الشعر ، فيحتاج إلى ما يدل على أنه مقصود في نفسه ، وإلا فهو مشكل .
تنبيه :
قد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة [ ص: 154 ] كالتوسل إلى فداء الأسرى بدفع المال إلى العدو الذي حرم عليهم الانتفاع به لكونهم مخاطبين بفروع الشريعة عندنا ، وكدفع مال لرجل يأكله حراما حتى لا يزني بامرأة إذا عجز عن ذلك إلا به ، وكدفع المال للمحارب حتى لا يقتتل هو وصاحب المال ، واشترط مالك فيه اليسارة .
ومما يشنع به على مالك - رحمه الله عليه - مخالفته لحديث بيع الخيار مع روايته له ، وهو مهيع متسع ، ومسلك غير ممتنع ، فلا يوجد عالم إلا وقد خالف من كتاب الله تعالى وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - أدلة كثيرة ، ولكن لمعارض راجح عليها عند مخالفها .
وكذلك ترك مالك هذا الحديث لمعارض راجح عنده ، وهو عمل أهل المدينة ، فليس هذا بابا اخترعه ، ولا بدعا ابتدعه .
ومن هذا الباب ما يروى عن - رضي الله عنه - أنه قال : إذا صح الحديث ، فهو مذهبي ، أو فاضربوا بمذهبي عرض الحائط ، فإن كان مراده مع عدم المعارض ، فهذا مذهب العلماء كافة ، وليس خاصا به ، وإن كان مع وجود المعارض ، فهو خلاف الإجماع ، وليس هذا القول خاصا بمذهبه كما ظنه بعضهم . الشافعي