[ ص: 229 ] كتاب الحجر
والحجر : المنع ، ومنه قوله تعالى : " ويقولون حجرا محجورا " . أي : تحريما محرما ، ومنه حجرة الدار لمنعها من الدخول إليها ، ويسمى الحجر عقلا لمنعه صاحبه من الرذائل ، وهو في الشرع المنع من التصرف ، قاله في التنبيهات .
ثمانية : الصبا ، والجنون ، والتبذير ، والرق ، والفلس ، والمرض ، والنكاح ، والردة ، وقد تقدم الكلام على المرض في الوصايا والتفليس ، وهاهنا الكلام على سببه : وأسبابه
السبب الأول : . قال الله تعالى : " الصبا وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم " . فشرط الرشد مع البلوغ ، وفي الكتاب : لا يخرج المولى عليه بأب أو وصي - وإن - من الولاية إلا بالرشد . قال حاضت الجارية وتزوجت واحتلم الغلام ابن يونس : قال بعض البغداديين : لا يزول حتى تبلغ وتتزوج ويدخل بها زوجها ، وتكون مصلحة لمالها . وقال الأئمة : ينفك الحجر بمجرد البلوغ لعموم الآية . حجر الصغيرة
لنا : أن مقصود الرشد : معرفة المصالح ، وقيل : اختيار الأزواج يكون الجهل [ ص: 230 ] والنقص في المعرفة حاصلين . وعن شريح قال : [ كتب ] إلي عمر - رضي الله عنه - : أن لا أجيز للجارية عطية حتى تحول في بيت زوجها وتلد ولدا ; ولأن الإجبار للأب باق وهو حجر فيعم الحجر ، ومنعوا صحة الأول ، وفرقوا في الثاني : بأن مصلحة النكاح إنما تعلم بالمباشرة وهي متعذرة ، ومباشرة البيع والمعاملة غير متعذرة ، ومنعنا نحن التمسك بالآية أيضا ; لأن قوله تعالى : " فإن آنستم منهم رشدا " معناه إصلاح المال إجماعا ، ونحن نمنع تحققه قبل الغاية المذكورة .
وأما لا يخرجان من الولاية إلا بالرشد ؛ قاله الجارية والغلام اللذان لا وصي لهما ، ولا جعلهما القاضي تحت ولاية غيرهما فبلغا ابن القاسم طردا للعلة ، تقدم الحجر أم لا . وعند أكثر أصحاب مالك : أفعالهما نافذة بمجرد البلوغ ; لعدم تقدم الحجر ، والبلوغ مظنة الرشد وكمال العقل .
قال اللخمي : اختلف في : ففي الموازية : بعد البلوغ ; لأن تصرفه قبله غير صحيح ، والاختبار بعد وجوده ، وعند وقت الابتلاء لمن كان في ولاء الأبهري وغيره : يصح قبل البلوغ . وقاله ( ش ) ، ; لقوله تعالى : " وابن حنبل وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح " فجعل البلوغ غاية للابتلاء وبعده وعقب البلوغ بالرفع بصيغة ألفا . وقال أصحاب : يختبر أولاد التجار بتعريضهم للبيع ، وأولاد الكبراء بدفع نفقة مدة ، والمرأة بالتوكيل في شراء الكتان ، وفي كل أحد بما يليق به ، وما ينبغي مخالفتهم في هذا . واختلف في اختباره بماله : فظاهر قول ابن حنبل مالك المنع ; لقوله : إذا فعل ذلك ولحقه دين لم يلحق ذلك الدين المال الذي في يده . وجوزه عبد الوهاب لوليه إذا قارب البلوغ بقدر معين يختبره به إذا رأى دليل الرشد ، فمن جعل ذلك لوليه اكتفى بعلمه ، ومن جعله للحاكم لم يكتف بقول وليه دون أن تشهد البينة عنده بذلك ; لأنه حكم حكمي ، واختلف في الشهادة فقيل : يكفي شاهدان ، وقال أصبغ : لا بد في الذكر والأنثى من الاشتهار مع الشهادة . قال اللخمي : وهو صواب في الذكر لتيسر الاشتهار في حقه ، والأنثى لا يطلع عليها إلا القليل .
واختلف في الرشد . في الكتاب : إصلاح المال وصونه عن المعاصي ، قاله [ ص: 231 ] أشهب ، ولا يعتبر سفه الدين . وقال ( ش ) : لا بد في من إصلاح المال والدين معا ، ووافقه الرشد ، وخالفه ( ح ) ، ابن المواز ; لأن من ضعف حزمه عن دينه الذي هو أعظم من ماله لا يوثق به في ماله . وابن حنبل
وجوابه : أن وازع المال طبيعي ، ووازع الدين شرعي ، والطبيعي أقوى بدليل قبول إقرار الفاسق الفاجر ; لأن وازعه طبيعي ، ورد شهادته ; لأن الوازع فيها شرعي ، فاشترطت العدالة فيها دون الإقرار .
تمسكوا بأن قوله تعالى : " فإن آنستم منهم رشدا " نكرة في سياق الثبوت فيكون مطلقا ، وقد أجمعنا على اعتباره في إصلاح المال والدين وأنه إذا أصلحهما كان رشيدا ، والمطلق إذا عمل في صورة سقط الاستدلال به فيما عداها .
جوابهم : أن النكرة في سياق الشرط تعم ، وإنما تكون مطلقة إذا لم يكن شرط ، نحو : في الدار رجل ، وإذا عمت تناولت صورة النزاع ، سلمنا عدم العموم ، لكن أجمعنا على أن إصلاح المال مراد ، واختلف هل غيره مراد أم لا ؟ والأصل عدم إرادته ، بل الآية تقتضي عدم اشتراطه لقوله : " حتى إذا بلغوا النكاح " والبلوغ مظنة كمال العقل ، ونقص الدين بحصول الشهوة وتوفر الداعية على الملاذ حينئذ . فلما اقتصر على هذه الغاية علمنا أن المراد إصلاح المال فقط ، ولأنا نجد الفاسق شديد الحرص على ماله في كثير من الناس . قال اللخمي : إذا لا يضره ; لأن الولي إذا أمسك المال عنده لم ينمه ، ولإجماعنا على أن العجز عن التجر لا يوجب الحجر ، وهذا إذا كان عينا وما لا يخشى فساده ، وأما الربع يخشى خرابه معه فلا يدفع إليه ; لأنه في معنى عدم الإحراز . وفساد الدين إن كان لا يفسد المال كالكذب وشهادة الزور لا يمنع ; لإجماعنا على أنه لا يستأنف عليه بذلك حجرا وهو يشرب الخمر ، ولا يدفع إليه ماله ; لأنه يستعين به على ذلك . أحرز ماله ولم يحسن التنمية
وكل بعد تقدم حجر عليه فهو على السفه حتى يختبر ؛ لظاهر القرآن ، أما من له أب أو يتيم لم يحجر عليه ؛ ففي المدونة : إذا من بلغ من الأيتام ذهب [ ص: 232 ] حيث شاء ولا يمنعه الأب ، وحمله على الرشد لوجود مظنته . وقاله احتلم الغلام ابن حبيب في اليتيم غير المحجور ، ولأن غالب بني آدم " مجبولون على " حب الدنيا ، والحرص عليها ، فيلحق النادر بالغالب ، وقيل : هما على السفه قياسا على المحجور عليه ; لأن الحجر لا يخل بالعقل ، وقيل : يكفي في الإناث الدخول ، وعن مالك في كتاب الحبس : يكفي البلوغ ، قيل : هي على السفه حتى يثبت رشدها ، وعن والبكر التي لا أب لها : هي كالصبي ، ويمكن رد الخلاف إلى الخلاف في السفيه المهمل ، ومشهور المذهب إذا لم يتقدم عليها حجر أن أفعالها على الجواز ، قال صاحب المقدمات : الأحوال أربعة : حالة يحكم فيها بالسفه وإن ظهر الرشد ; لأن الغالب السفه فيها ، وحالة يحكم فيها بالرشد وإن علم السفه ، وحالة يحتملها والأظهر السفه فيحكم به ما لم يظهر الرشد ، وحالة يحتملهما والأظهر الرشد فيحكم به ما لم يظهر السفه . سحنون
أما الحالة الأولى : فلا يختلف مالك وأصحابه أن الإنسان قبل البلوغ محمول على السفه وإن ظهر رشده ، وأن تصرفاته من الصدقة وغيرها من المعروف مردودة وإن فيها الأب أو الوصي ، وتصرف المعاوضة موقوف على إجازة الولي إن رآه مصلحة وإلا رده ، وإن لم يكن له ولي يجعل له ولي ، وإن غفل عن ذلك حتى ولي أمر نفسه فله الإمضاء والرد كالولي ; لأنه الآن قام مقامه ، وما كان يتعين على الولي إمضاؤه من السداد ، هل ينقضه إذا حال سوقه أو نما بعد ريعه إياه ، والمشهور أن ذلك له ; لأنه مقتضى النظر الآن ، وقيل : لا نظرا للحالة السابقة . أما ما كسر وأفسد ففي ماله ما لم يؤتمن عليه ، واختلف فيما اؤتمن عليه ، ولا يلزمه بعد بلوغه ورشده عتق ما حلف بحريته وحنث فيه حالة صغره ; لأنه معروف في المال ، والمشهور أنه لا يلزمه إن حنث بعد رشده نظرا لوقوع السبب في حالة عدم الاعتبار ، وقال : يلزمه نظرا لحالة الحنث ، والمشهور لا يحلف إذا ادعي عليه ، وكذلك إن ادعى مع شاهد على المشهور ، ويحلف المدعى عليه فإن نكل غرم ، ولا يحلف الصغير ، وإن حلف برئ إلى بلوغ الصغير فيحلف ويأخذ ، [ ص: 233 ] وإن نكلا فلا ; لأن الوازع الديني في الصغير منفي ، والأصل اعتبار الشاهد ، ولا يحلف المدعى عليه ثانية ، وعن ابن كنانة مالك : يحلف مع شاهده فيملك به كما يملك بالأسباب الفعلية كالاصطياد والاحتطاب وغيرهما ، ولا شيء عليه فيما بينه وبين الله من الحقوق والأحكام ; لرفع القلم عنه في الحديث النبوي .
وأما الحالة الثانية : التي يحكم فيها بالرشد ، وإن علم السفه . فهي حالة عند المهمل مالك وأكثر أصحابه ، خلافا لابن القاسم ، وحالة اليتيمة البكر المهملة عند . سحنون
وأما الحالة الثالثة : التي يحكم فيها بالسفه والظاهر الرشد ، فحالة على المشهور ، وذات الأب البكر أو اليتيمة لا وصي لها إذا تزوجت ودخلت من غير حد ولا تفرقة بين ذات الأب وبينها على رواية الابن بعد بلوغه في حياة أبيه ابن القاسم ، خلافا لمن حدد أو فرق بين ذات الأب وغيرها .
وأما الحالة الرابعة : التي يحكم فيها بالرشد ما لم يظهر السفه ، عند من يعتبر تعنيسها ، واختلف في حده ، أو التي دخل بها زوجها العام أو العامين أو السبعة على الخلاف ، أو الابن بعد بلوغه وذات الأب بعد بلوغها على رواية زياد عن فالمعنسة البكر مالك . ومتى بلغ الصبي معلوم الرشد ليس للأب رد فعله وإن لم يشهد على خروجه من الولاية ، فقد خرج منها ببلوغه مع رشده ، أو معلوم السفه رد فعله ، أو مجهول الحال فعن ابن القاسم : يحمل على السفه استصحابا له حتى يرشده . وقاله مالك ، وعن مالك : يحمل على الرشد حتى يثبت السفه ، وكلاهما في المدونة ، وقيل : لا بد بعد البلوغ من عام ، أما الصغير فلا ينفذ تصرفه وإن أذن أبوه ، وأما الموصى عليه من قبل أبيه أو السلطان وهو صغير ففعله مردود ، وإن علم [ ص: 234 ] رشده حتى يخرجه الوصي ، أو السلطان ، أو القاضي إن كان الوصي من قبله ، قاله ابن زرب ، وقيل : يطلقه من غير إذن القاضي بنظره قياسا على الأب ، وقيل : لا بد من القاضي إلا أن يعلم رشده بعقد شهود . وأما وصي الأب يجوز إطلاقه ويقبل قوله ، وقيل : لا . إلا أن يتبين رشده ، قاله ابن القاسم ، ورد أفعاله حتى يطلق وإن علم رشده - هو المشهور ، وقيل : حاله معه كحاله مع الأب ، روي عن مالك ، ومذهب ابن القاسم لا تعتبر الولاية إذا ثبت الرشد ، ولا يؤثر عدمها إذا علم السفه في اليتيم لا في البكر . وروي عن مالك ، وعن ابن القاسم : أن ظهور الرشد لا يعتبر مع الولاية كقول مالك .
ومنشأ الخلاف : هل رد التصرف لوصف السفه أو للولاية والحجر ؟ وإذا فأربعة أقوال : نفوذ تصرفه وإن أعلن بالسفه استصحب السفه ، أو طرأ بعد أن أنس منه الرشد ؛ قاله بلغ المهمل من الولاية مالك نظرا لعدم الولاية مع البلوغ . وقال عبد الملك : إن اتصل السفه رد تصرفه نظرا للسفه ، وإن سفه بعد أن أنس رشده جاز فعله لضعف السفه بطرو الرشد ما لم يبع بيع خديعة بينة كما يساوي ألفا بمائة فلا ينفذ ، ولا يتبع بالثمن إن أفسده ، ولم يعتبر إعلانه بالسفه ، وقال أصبغ : ينفذ تصرفه إلا أن يعلم ، اتصل سفهه أم لا ؟ لأن الإعلان دليل قوة السفه ، وقال ابن القاسم : تعتبر حالة البيع والشراء إن كان رشيدا نفذ وإلا فلا ، واتفق الجميع على جواز فعله ونفوذه إذا جهل حاله ; لأن الغالب على الناس الحرص على الدنيا وضبطها .
وفي ثمانية أقوال : تخرج من الولاية بالبلوغ والرشد عن ذات الأب مالك ، وعنه : حتى يدخل بها زوجها ، ويشهد العدول بصلاح حالها ، قاله في المدونة : فأفعالها قبل ذلك مردودة وإن علم رشدها ، وتخرج من الولاية ولو بقرب الدخول على هذا القول ، واستحب مالك تأخيرها العام من غير إيجاب ، الثالث : كذلك ما لم تعنس ، فتحمل على الرشد إلا أن يعلم السفه ، وقبله على السفه وإن [ ص: 235 ] علم الرشد ، وإن دخلت قبل التعنيس بيتها فهي على التعنيس على السفه حتى يتبين الرشد ، وبعد على الرشد حتى يعلم السفه ، واختلف في حده فقيل : أربعون عاما ، وقيل : من الخمسين إلى الستين فتكمل خمسة أقوال ، والسادس : سنة بعد الدخول قاله التعنيس مطرف ، والسابع : عامان ، والثامن : سبعة أعوام ؛ قاله ابن القاسم ، وبه جرى العمل عندنا . وأما فلا تخرج من الولاية وإن عنست أو تزوجت وطال زمان الدخول وحسن حالها ما لم تطلق من وثاق الحجر بما يصح إطلاقها به كما تقدم . ذات الوصي من قبل الأب أو السلطان فيها قولان : تخرج بالبلوغ ، لا تخرج إلا بالتعنيس ، وفي تعنيسها خمسة أقوال : ثلاثون سنة ، قاله واليتيمة المهملة عبد الملك . وقال ابن نافع : أقل من الثلاثين ، وعند مالك : أربعون ، وقال ابن القاسم : من الخمسين إلى الستين ، وعن مالك : حتى تقعد عن المحيض أو تقيم بعد الدخول مدة تقتضي الرشد .