فصل : بم يكون الدباغ
فإذا تقرر أن جلد الميتة نجس وأنه بعد الدباغة طاهر انتقل الكلام فيه إلى فقد جاء الخبر بالنص على الشث والقرظ فاختلف الفقهاء فيه فذهب أهل الظاهر [ ص: 63 ] إلى أن حكم الدباغة مقصور عليه ، وأنه لا يصح إلا به : لأن الدباغة رخصة فاقتضى أن يكون حكمها موقوفا على النص . ما تكون به الدباغة
وقال أبو حنيفة : المعنى في الشث والقرظ أنه منشف مجفف بكل شيء كان فيه تنشيف الجلد وتجفيفه جازت به الدباغة حتى بالشمس والنار ، وذهب الشافعي - رحمه الله - أن المعنى في الشث والقرظ أنه يحدث في الجلد أربعة أوصاف :
أحدها : تنشيف فضوله الطاهرة ورطوبته الباطنة .
والثاني : تطييب ريحه وإزالة ما ظهر عليه من سهوكة ونتن .
والثالث : نقل اسمه من الإهاب إلى الأديم والسبت والدارش .
والرابع : بقاؤه على هذه الأحوال بعد الاستعمال ، فكل شيء أثر في الجلد هذه الأوصاف الأربعة من العفص وقشور الرمان جازت به الدباغة ، لأنه في معنى الشث والقرظ وهذا صحيح من وجهين :
أحدهما : أنه لما أثر الشث والقرظ هذه الأوصاف الأربعة لم يكن اعتبار بعضها بالدباغة بأولى من بعض فصار جميعها معتبرا ولم يكن حكمها على الشث والقرظ مقصودا ؛ لأنها في غيرها موجودة .
والثاني : أن الدباغة عرف في العرب ولم يكن في عرفهم مقصورا على الشث والقرظ ، كما قال أهل الظاهر لاختلاف عادتهم في البلاد ولا اقتصروا فيها على مجرد التجفيف بالشمس كما قال أبو حنيفة فصار كلا المذهبين مدفوعين بعرف الكافة ومعهود الجميع ، فثبت بهذا جواز إذا حدث في الجلد ما وصفنا من الأوصاف الأربعة ، واختلف أصحابنا الدباغة بما سوى الشث والقرظ فيها ؟ على وجهين : هل يكون استعمال الماء شرطا
أحدهما : ليس استعمال الماء شرطا فيها ويجري الاقتصار فيها على مذرورات الدباغة من الأشياء المنشقة ، فإذا دبغ الجلد طهر وجاز استعماله من غير غسل لقوله - عليه السلام - : " أوليس في الشث والقرظ ما يذهب رجسه ونجسه " فجعل مجرد الشث والقرظ مذهبا لرجسه ونجسه ولأن كل شيء يطهر بانقلابه ، فليس لطهارته إلا وجه واحد يطهر به كالخمر إذا انقلب خلا .
والوجه الثاني : أن استعمال الماء في الدباغة شرط في صحتها لرواية ميمونة [ ص: 64 ] قالت : مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحمار . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " " فأحال تطهيره على الماء والقرظ ، ولأن جلد الميتة أغلظ تنجيسا والماء أقوى تطهيرا ، فكان استعماله فيه أخص ، فعلى هذا في لو أخذتم إهابها فقالوا : إنها ميتة . فقال : يطهر الماء والقرظ وجهان : كيفية استعمال الماء
أحدهما : أنه يستعمل في إناء الدباغة ليلين الجلد بالماء ، فيصل عمل الشث والقرظ إلى جميع أجزاء الجلد ، فيكون أبلغ في تنشيفها وتطهيرها ، فيصير دباغة الجلد وتطهيره بها جميعا معا .
والوجه الثاني : أنه يستعمل الماء بعد الدباغة ليختص الشث والقرظ بدباغته ويختص الماء بتطهيره ، فيصير بعد الدباغة وقبل الغسل كالثوب النجس يطهر بالغسل .