مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ويحتمل قول عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء يعطي بيد ويأخذ بأخرى فيكون الأخذ مع الإعطاء ويحتمل أن لا يتفرق المتبايعان من مكانهما حتى يتقابضا ، فلما قال ذلك " عمر لمالك بن أوس لا تفارقه حتى تعطيه ورقه أو ترد إليه ذهبه وهو راوي الحديث دل على أن مخرج " هاء وهاء " تقابضهما قبل أن يتفرقا " .
قال الماوردي : وهذا كما قال . كل شيئين ثبت فيهما الربا بعلة واحدة لم يصح دخول الأجل في العقد عليهما ، ولا الافتراق قبل تقابضهما ، سواء كانا من جنس واحد كالبر بالبر ، أو من جنسين كالشعير بالبر ، حتى يتقابضا قبل الافتراق في الصرف وغيره . وقال أبو حنيفة في الذهب والورق كقولنا لا يصح فيهما العقد إلا بالقبض قبل الافتراق ، ولا يثبت فيهما الأجل ولا خيار الشرط .
وأجاز فيما سوى الذهب والورق تأخير القبض ، وخيار الشرط ، وإن لم يدخل فيه الأجل . استدلالا بأنه عقد لم يتضمن صرفا فلم يكن التقابض فيه قبل الافتراق شرطا كالثياب بالثياب .
[ ص: 78 ] قال : ولأن القبض يراد لتعيين ما تضمنه العقد ، فلما كان الذهب والورق لا يتعين بالعقد لزم فيه تعجيل القبض : ليصير المعقود عليه معينا ، ولما كان ما سوى الذهب والورق من البر والشعير وغيرهما يتعين بالعقد لم يلزم فيه تعجيل القبض : لأن المعقود عليه قد صار معينا .
والدلالة عليه : حديث عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : . فشرط في بيع ذلك كله تعجيل القبض بقوله : " إلا يدا بيد " . " لا تبيعوا الذهب بالذهب ، ولا الورق بالورق ، ولا البر بالبر ، ولا الشعير بالشعير ، ولا التمر بالتمر ، ولا الملح بالملح إلا سواء بسواء ، عينا بعين ، يدا بيد ، ولكن بيعوا الذهب بالورق ، والورق بالذهب ، والبر بالشعير ، والشعير بالبر ، والتمر بالملح ، والملح بالتمر يدا بيد كيف شئتم "
فإن قيل : فقوله يدا بيد نفيا لدخول الأجل فيه وأن يكون العقد عليه بالنقد ، وليس بشرط في تعجيل القبض . قيل يبطل هذا التأويل بثلاثة أشياء :
أحدها : أنه جمع في الخبر بين الذهب والورق ، وبين البر والشعير ، فلما كان قوله " إلا يدا بيد " محمولا في الذهب والورق على تعجيل القبض وجب أن يكون في البر والشعير مثله : لأنها جملة معطوف عليها حكم .
والثاني : أن نفي الأجل مستفاد من هذا الحديث بقوله : إلا عينا بعين : لأن المؤجل لا يكون عينا إذ العين لا يدخل فيها الأجل ، وإنما يكون عينا بدين . فوجب أن يكون قوله إلا يدا بيد محمولا على غير نفي الأجل ، وهو تعجيل القبض ليكون الخبر مقيدا لحكمين متغايرين ، واختلاف اللفظين محمولا على اختلاف معنيين .
والثالث : أن قوله : " إلا يدا بيد " مستعمل في اللغة على تعجيل القبض لأجل أن القبض يكون باليد ، وليس بمستعمل في نفي الأجل إلا على وجه المجاز ، فكان حمل الكلمة على حقيقتها في اللغة أولى من حملها على المجاز . ومما يدل على أصل هذه المسألة ونفي هذا التأويل أيضا : ما استدل به الشافعي من حديث عمر رواه مالك عن ابن شهاب عن مالك بن أوس عن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " " . الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء ، والورق بالورق ربا إلا هاء وهاء ، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء ، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء ، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء
قال الشافعي فاحتمل قوله : " إلا هاء وهاء " معنيين :
أحدهما : أن يعطي بيد ويأخذ بأخرى فيكون الأخذ مع الإعطاء ، واحتمل ألا يتفرق المتبايعان عن مكانهما حتى يتقابضا ، فلما روي أن مالك بن أوس بن الحدثان صارف طلحة بن عبيد الله بمائة دينار باعها عليه بدراهم فقال طلحة لمالك : حتى يأتي خازني من الغابة وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يسمع ، فقال عمر لمالك : لا والله لا تفارقه حتى تأخذ منه ورقك أو يرد عليك ذهبك . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " " . الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء
[ ص: 79 ] دل على أن المراد بهذا الحديث من المعنيين المحتملين التقابض قبل الافتراق لأمرين :
أحدهما : أن راوي الحديث إذا فسره على أحد معنيين كان محمولا عليه .
والثاني : أن في تكليف الناس الإعطاء بيد والأخذ بأخرى مشقة غالبة ، والشريعة موضوعة على التوسعة والسماحة فامتنع أن يكون هذا مرادا .
ثم الدليل على ذلك من طريق المعنى : أنه عقد معاوضة يمنع من ثبوت الأجل ، فوجب أن يمنع من التفرق قبل القبض كالصرف : ولأن كل ما كان شرطا معتبرا في عقد الصرف كان شرطا معتبرا فيما دخله الربا من غير الصرف كالأجل .
وأما الجواب عن قياسهم على بيع الثياب بالثياب فمنتقض بالسلم : حيث لزم فيه القبض ، ثم المعنى في بيع الثياب بالثياب عدم الربا فيها فجاز تأخير قبضهما ، وما ثبت الربا فيه لم يجز تأخير قبضه كالصرف .
وأما الجواب عن استدلالهم بأن القبض إنما يراد لتعيين ما تضمنه العقد ، والبر والشعير مما يتعين بالعقد فلم يفتقر إلى القبض ، فهو أن هذا يفسد ببيع الحلي بالحلي يلزم فيه تعجيل القبض وإن كان متعينا بالعقد . ثم لو سلم من هذا الكسر لكان عكس هذا الاعتبار أشبه بالأصول : لأن السلم يتعين فيه الثمن ولا يتعين فيه المثمن ، ثم يلزم فيه تعجيل قبض الثمن وإن كان معينا ، ولا يلزم فيه تعجيل قبض الثمن وإن لم يكن معينا ، فكان اعتبار هذا يوجب تعجيل القبض فيما كان معينا ، ولا يوجبه فيما ليس بمعين ، ولما انعكس هذا الاعتبار عليه بطل أن يكون له دليل فيه .
فصل : فإذا ثبت أن ، وأن حكم ما فيه الربا وإن لم يكن صرفا ، كحكم ما فيه الربا إذا كان صرفا ، فتصارف الرجلان مائة دينار بألف درهم وتقابضا الدراهم ولم يتقابضا الدنانير أو تقابضا الدنانير ولم يتقابضا الدراهم حتى تفارقا ، فلا صرف بينهما ولزم رد المقبوض منهما سواء علما فساد العقد بتأخير القبض أو جهلا . القبض قبل الافتراق شرط في صحة العقود التي لا تدخلها الآجال ويلحقها الربا من صرف وغيره
فلو لم يتفرقا ولكن خير أحدهما صاحبه فاختار الإمضاء القائم مقام الافتراق قبل أن يتقابضا كان هذا التخير باطلا ، ولم يبطل العقد : لأن اختيار الإمضاء إنما يكون بعد تقضي علق العقد ، وبقاء القبض يمنع من نقض علقه ، فمنع من اختيار إمضائه ، فإن تقابضا بعد ذلك وقبل الافتراق صح العقد واستقر وكانا بالخيار ما لم يتفرقا أو يتخايرا . فلو وكل أحدهما في القبض له والإقباض عنه ، فإن قبض الوكيل وأقبض قبل افتراق موكله والعاقد الآخر صح العقد ، وإن أقبض بعد افتراقهما لم يجز وكان العقد باطلا : لافتراق المتعاقدين قبل القبض ، [ ص: 80 ] فلو تقابض المتصارفان ما تصارفا عليه في مداد قبل الافتراق جاز ، ولم يلزم دفع جميعه مرة واحدة ، وإنما يلزم قبض جميعه قبل الافتراق وسواء طالت مدة اجتماعهما أو قصرت .
فلو اختلفا بعد الافتراق فقال أحدهما تفارقنا عن قبض ، وقال الآخر بخلافه ، كان القول قول من أنكر القبض ويكون الصرف باطلا .
فإن قيل : أليس لو اختلفا بعد الافتراق في الإمضاء والفسخ ، فقال أحدهما افترقنا عن فسخ ، وقال الآخر عن إمضاء ، كان القول في أحد الوجهين قول من ادعى الإمضاء والبيع لازم ، فهلا كان اختلافهما في القبض مثله . قيل : الفرق بينهما أن مدعي الفسخ ينافي بدعواه مقتضى العقد : لأن مقتضاه اللزوم والصحة إلا أن يتفقا على الفسخ فكان الظاهر موافقا لقول من ادعى الإمضاء دون الفسخ ، وليس كذلك من ادعى القبض : لأن الأصل عدم القبض ، على أن أصح الوجهين هناك أن القول قول مدعي الفسخ إذا تصارفا مائة دينار بألف درهم فتقابضا من المائة خمسين دينارا ، ثم افترقا وقد بقي خمسون دينارا كان الصرف في الخمسين الباقية باطلا .
ومذهب الشافعي جوازه في الخمسين المقبوضة قولا واحدا لسلامة العقد وحدوث الفساد فيما بعد ، وكان أبو إسحاق المروزي يخرج الصرف في الخمسين المقبوضة على قولين من تفريق الصفقة . وليس هذا التخريج صحيحا : لأن القولين في العقد الواحد إذا جمع جائزا وغير جائز في حال العقد .
وإذا صح الصرف في الخمسين المقبوضة ، فالمذهب أنها لازمة بنصف الثمن وهو خمسمائة درهم وليس للبائع ولا للمشتري خيار في الفسخ لأجل تفريق الصفقة : لأن افتراقهما عن قبض البعض رضا منهما بإمضاء الصرف فيه وفسخه في باقيه . وكان بعض أصحابنا يخرج قولا ثانيا أنها مقبوضة بجميع الثمن . وكلا التخريجين فاسد والتعليل في فسادهما واحد .