مسألة : قال الشافعي - رضي الله عنه - : " ولا خير في زبد غنم بلبن غنم : لأن الزبد شيء من اللبن ولا خير في سمن غنم بزبد غنم ، وإذا أخرج منه الزبد فلا بأس أن يباع بزبد وسمن " .
قال الماوردي : وهذا صحيح .
وأصل هذا الفصل أن كل شيء كان متخذا من اللبن لم يجز بيعه بمثل ذلك من اللبن .
فلا يجوز ، ولا بالسمن ، ولا بالجبن ، ولا بالمصل ، ولا بالأقط ، ولا بالمخيض : لأن في اللبن الحليب زبدا وسمنا وجبنا ومصلا وأقطا ومخيضا . والتماثل فيهما معدوم . بيع اللبن الحليب بالزبد
قال الشافعي في تعليل المنع من : لأن الزبد شيء من اللبن . واختلف أصحابنا في بيان هذا التعليل . بيع الزبد باللبن
فكان أبو إسحاق المروزي يقول : معناه أن في الزبد شيئا من اللبن يبقى فلا يخرجه إلا النار . فيؤدي ذلك إلى بيع اللبن باللبن متفاضلا .
وقال جمهور أصحابنا : إن معناه أن في اللبن زبدا ، فيؤدي إلى بيع الزبد بالزبد متفاضلا . وهذا أصح المعنيين .
لأن ما في الزبد من اللبن يسير غير مقصود .
وفائدة هذا الخلاف تؤثر في بيع الزبد باللبن المخيض .
فعلى قول أبي إسحاق لا يجوز بيع الزبد باللبن المخيض : لأن في الزبد لبنا .
وعلى قول الجمهور يجوز ، وهو نص الشافعي : لأنه ليس في المخيض زبد . فأما بيع المخيض بالسمن فيجوز على كلا المذهبين : لأنه ليس في السمن لبن ولا في اللبن سمن .
وأما ، فلا يجوز على كلا المذهبين : لأن في كل واحد منهما لبنا . بيع المخيض بالجبن أو المصل أو الأقط
ولا يجوز ، ولا بيع الجبن بالمصل : لأن جميعه من لبن يعدم فيه التماثل . بيع الأقط بالجبن
[ ص: 122 ] وهكذا ، لا يجوز بيع المخيض باللبن الحليب : لأن اللبن الحليب فيه زبد ، والمخيض لبن فيه ماء ، فعدم التماثل بينهما ، لكن يجوز إذا لم يكن زبدهما ممخوضا : لأنه بيع لبن فيه زبد بلبن فيه زبد فصار كبيع الحليب بالحليب . بيع اللبن الحليب باللبن الرائب والحامض
وأما فلا يجوز : لما في الزبد من بقية اللبن التي تمنع من تماثله بالسمن . فهذا الكلام في بيع كل نوع من اللبن بنوع غيره . بيع الزبد بالسمن
فصل : فأما : بيع النوع الواحد بمثله
أما بيع اللبن الحليب باللبن الحليب فيجوز وقد مضى الكلام فيه .
وأما فلا يجوز ، لأن في المخيض ماء قد مخض به لإخراج الزبد منه يمنع من التماثل في اللبن بغير ماء ، فيجوز بيع لبنه بمثله ، إلا أن يكون طريق إخراج الزبد بغير ماء فيجوز بيع لبنه بمثله . بيع اللبن المخيض باللبن المخيض
فصل : وأما فقد اختلف أصحابنا في جوازه على وجهين : بيع الزبد بالزبد
أحدهما : لا يجوز : لأن في الزبد لبنا باقيا يمنع من التماثل .
والوجه الثاني : وهو أصح عندي ، وبه قال ابن أبي هريرة ، أنه يجوز : لأن ما في الزبد من بقايا اللبن يسير غير مقصود فلم يمنع من بيع بعضه ببعض ، كالنوى في التمر ، وكما يجوز بيع الحليب بالحليب ، وإن كان فيهما زبد : لأن غير الزبد هو المقصود .
فصل : فأما فيجوز وإن صفي بالنار : لأن دخول النار فيه لتمييزه وتصفيته . بيع السمن بالسمن
فإن كان ذائبا لم يبع إلا كيلا ، وإن كان جامدا فعلى وجهين :
أحدهما : لا يجوز بيع بعضه ببعض : لأن أصله الكيل .
والثاني : يجوز وزنا : لأن الوزن أحصر والكيل فيه متعذر . والله أعلم .
فصل : فأما فلا يجوز إن كان رطبا أو نديا ، فإن كان يابسا فعلى قولين : بيع الجبن بالجبن
أحدهما : رواه حرملة . يجوز بيعه إذا تناهى بنفسه وزنا لقيمة المماثلة فيه ، وأنه غاية اللبن التي ينتهي إليها ، وهو قول أبي إسحاق المروزي .
والقول الثاني : رواه الربيع وهو الصحيح ، أن بيع بعضه ببعض لا يجوز ، واختلف أصحابنا في العلة المانعة من جوازه .
فقال أبو العباس بن سريج : لأن أصله الكيل وهو فيه متعذر .
وقال غيره : لأن فيه إنفحة تعمل بها تمنع من التماثل فيه فعلى هذا الودق الجبن حتى [ ص: 123 ] عمل فتوتا ، وصار ناعما جاز بيع بعضه ببعض على قول أبي العباس لإمكان كيله ، ولم يجز على قول غيره لبقاء الإنفحة فيه .
فصل : وعلى ما ذكرنا ، لا يجوز : لأن فيه ما به والتماثل معدوم ، وكذا لا يجوز بيع الزيت بالزيتون بيع الشيرج بالسمسم ، ولا بيع دهن الجوز بالجوز ، ولا دهن اللوز باللوز .
وقال أبو حنيفة : يجوز إذا كان الزيت أكثر مما في الزيتون من الزيت ، وإن كان مثله أو أقل لم يجز : ليكون فاضل الزيت في مقابلة عصير الزيتون . بيع الزيت بالزيتون
وكذا يقول في بيع جميع الأدهان بأصولها ، وفيما ذكرنا دليل عليه . وأصل هذه المسألة إذا باع مد تمر ودرهما بمدي تمر وقد مضى الكلام فيه . فإن قيل : لم جوزتم وربما كان دهن أحدهما أكثر من الآخر . بيع السمسم بالسمسم
قلنا : دهن السمسم قبل استخراجه تبع لأصله فلا اعتبار بزيادته ونقصه ، كما أن زبد اللبن قبل استخراجه تبع لأصله ، ولا يمنع من بيع بعضه ببعض مع جواز أن يكون زبد أحدهما أكثر . فأما إذا استخرج دهن السمسم وبقي كسبا وحده فقد حكي عن أبي علي بن أبي هريرة جواز بيع بعضه ببعض ، فجوز بيع الكسب بالكسب وزنا ، وهذا غير صحيح ، بل لا يجوز لأمور : بيع الكسب بالكسب
منها : أن أصله الكيل ، والكيل فيه غير ممكن والوزن فيه غير جائز .
ومنها : أن الكسب يختلف عصره ، فربما كان ما بقي من دهن أحدهما أكثر من الآخر ، فيؤدي إلى التفاضل فيه .
ومنها : أن في الكسب ماء وملحا لا يمكن استخراج الدهن إلا بهما ، وذلك يمنع من المماثلة .
فأما قبل استخراج الدهن منهما ، فلا يجوز باتفاق بيع طحين السمسم بطحين السمسم أبي علي بن أبي هريرة : لأنه ربما كان طحن أحدهما أنعم من الآخر كما قيل في الدقيق ، وهذا حجة عليه في بيع الكسب بالكسب : إذ أصله الكيل وطحنه مختلف .