مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " ولا بأس ، عادة وغير عادة سواء " . أن يشتري الدراهم من الصراف ويبيعها منه إذا قبضها بأقل من الثمن أو أكثر
قال الماوردي : وهذا كما قال إذا كان ذلك جائزا . سواء جرت له بذلك عادة أم لا . اشترى من صيرفي دينارا بعشرة دراهم صحاحا ، وقبض الدينار وتم الصرف ، ثم باع ذلك الدينار بعشرين درهما غلة
وقال مالك : إن جرت به بذلك عادة لم يجز ، وكان حراما : لأن العرف والعادة كالشرط الملفوظ به ، ثم ثبت أنه لو شرط ذلك لفظا كان ربا حراما ، كذلك إذا كان معتادا . قال : ولأن هذا فعل يضارع الربا الحرام : لأن قصده أن يبيع عشرة صحاحا بعشرين غلة ، وما ضارع الحرام كان حراما .
وهذا خطأ : بدليل ما رواه عبادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : . ولم يفرق بين عادة وغير عادة . " ولكن بيعوا الذهب بالورق ، والورق بالذهب ، كيف شئتم يدا بيد "
ولأنه لا يخلو حال الفعل من أن يكون ربا أو غير ربا ، فإن كان ربا لم يجز أول مرة ، وإن لم يكن ربا جاز وإن تكرر مائة مرة ، فلما جاز أول مرة دل على أنه ليس بربا ، وأنه يجوز ، ولو مائة مرة .
فأما الجواب عما ذكره من أن العادة تجري مجرى الشرط اعتبارا بغالب النقد ، فمن وجهين :
أحدهما : أن عادة البلد تجري مجرى الشرط ، وليس عادة المتعاقدين كالشرط .
والثاني : أن العادة في صفات العقد مخالفة للشرط ، ألا ترى لو أن رجلا عقد نكاحا [ ص: 146 ] وشرط فيه الطلاق فسد ، ولو عقد نكاحا وكان معتادا للطلاق لم يفسد ، فقد وقع الفرق بين العادة والشرط .
وأما الجواب عن قوله : إن هذا الفعل مضارع للربا ، فهو أن هذا قول معلول لما ذكرناه من التقسيم عليه ، وليس بين المنزلتين واسطة ، فلما لم يكن ربا صريحا كان عقدا صحيحا .
فصل : فإذا تقرر جواز ذلك انتقل الكلام إلى شرح المذهب في فنقول : كيفية العقد
أنه إذا اشترى منه دينارا بعشرة دراهم ، وقبض منه الدينار ودفع إليه الدراهم ، ثم افترقا جاز أن يعود فيبيع عليه الدينار بعشرين درهما أو أقل أو أكثر .
وهكذا لو تقابضا ، ثم تخايرا من غير تفرق ، ثم استأنفا العقد الثاني ، جاز : لأن التخاير في العقد يقوم مقام الافتراق في لزوم العقد .
فأما إذا لم يتقابضا حتى عقدا العقد الثاني لم يجز ، وكان العقد الثاني باطلا : لأن بيع ما لم يقبض لا يجوز ، ولو تقابضا ثم عقدا العقد الثاني قبل أن يتفرقا ، فقد اختلف أصحابنا على وجهين :
أحدهما : وهو قول أبي العباس بن سريج يجوز : لأن اتفاقهما على العقد الثاني اختيار منهما لإمضاء العقد الأول فجرى مجرى العقد بعد التخاير .
والوجه الثاني : وهو الصحيح عندي ، أنه لا يجوز ، ويكون العقد الثاني باطلا : لأن العقد الأول لم يستقر بالافتراق ولا بالتخاير . وما ذكره أبو العباس من أن الرضا بالعقد الثاني اختيار لإمضاء العقد الأول فغلط .
والفرق بين التخاير والبيع أنهما إذا اختارا الإمضاء فقد رضي كل واحد منهما بإقرار ملك صاحبه على ما انتقل إليه فاستقر بذلك الملك . وإذا اتفقا على البيع الثاني فكل واحد منهما لم يرض باستقرار ملك صاحبه على ما انتقل إليه ، فلم يستقر بذلك الملك ، فصار حكم التخاير والبيع مختلفا ، فلم يجز أن يكون في لزوم العقد متفقا فهذا آخر الباب .
فصل : وإذ قد مضى مسطور الباب مستوفيا فسنذكر ما استقر من أصوله فروعا بعد عقد ما مضى منشورا : ليكون أمهد لأصوله وأصح لفروعه ، فنقول :
إنما سمي الصرف صرفا لصرف حكمه عن أكثر أحكام البيع . وقيل : بل سمي صرفا لصرف المسامحة عنه في زيادة أو تأخير . وقيل : بل سمي صرفا : لأن الشرع قد أوجب على كل واحد منهما مصارفة صاحبه أي مضايقته .
والصرف إنما يختص ببيع الذهب بالفضة ، أو الفضة بالفضة ، والذهب بالذهب . ثلاثة لازمة ، ورابع يختلف باختلاف الصرف . وشروط الصرف التي لا يتم إلا بها
وأما الثلاثة اللازمة فأحدها : إطلاق العقد من غير أجل مشروط فيه .
فلو شرطا فيه أجلا كان باطلا ، فلو أسقطا الأجل بعد اشتراطه في العقد لم يصح .
[ ص: 147 ] وقال أبو حنيفة وصاحباه : إذا اشترطا إسقاط الأجل قبل الافتراق صح استحسانا .
والشرط الثاني : أن يعقد ناجزا من غير خيار مشروط فيه فإن شرطا فيه خيار الثلاث كان باطلا ، ولو أسقطا الخيار بعد اشتراطه في العقد لم يصح .
وقال أبو حنيفة : إذا أسقطاه قبل الافتراق صح استحسانا .
والشرط الثالث : التقابض قبل الافتراق ، فإن تفرقا قبل القبض كان باطلا فهذه الشروط اللازمة .
وأما الشرط الرابع : وهو المماثلة فإن كان الجنس واحدا كانت المماثلة شرطا معتبرا ، وإن اختلف الجنسان لم يكن شرطا معتبرا .
ثم : الصرف ينقسم أقساما أربعة
فالقسم الأول : : وهو ضربان : بيع العين بالعين
جنس بمثله كالفضة بالفضة والذهب بالذهب ، وجنس بغيره كالفضة بالذهب ، فهذا يصح بشروطه المعتبرة فيه .
والقسم الثاني : . وهذا باطل : للنهي عنه ، كرجل باع دراهم له على زيد دينا بدنانير أو بدراهم للمشتري على عمرو دينا . بيع دين بدين
والقسم الثالث : ، وهذا باطل ، وهو الصرف بالأجل . بيع عين بدين
والقسم الرابع : كرجل له على رجل ألف درهم يبيعها عليه بمائة دينار يأخذها منه عينا . فإن كان الدين حالا صح : لحديث بيع دين بعين عبد الله بن عمر ، وإن كان مؤجلا لم يصح : لأن المؤجل لا يملك المطالبة به فلم تجز المعاوضة عليه .
وإذا صح في الحال كان موقوفا على قبض الدنانير قبل الافتراق إلا أن يأخذ بدل الدراهم ثوبا أو عرضا ، ففي لزوم قبضه قبل الافتراق وجهان :
أحدهما : وهو ظاهر المذهب ، أنه يجوز الافتراق فيه قبل القبض : لأن ما سوى الصرف لا يلزم فيه تعجيل القبض .
والثاني : لا يجوز حتى يتقابضا قبل الافتراق وإلا صار بيع دين بدين .
فلو أخذ بدل الألف درهم خمسين دينارا وعبدا كان على قولين : لأنه عقد جمع بيعا وصرفا .
أحدهما : باطل فيهما ويرجع بالألف .
[ ص: 148 ] والثاني : جائز فيهما ويلزم قبض الدنانير قبل الافتراق . وفي قبض العبد قبله وجهان .
فرع : فلو ، فإن لم يقبضها المستحق لها من المحال عليه في المجلس حتى افترقا بطل الصرف . أحال بالدنانير التي قد استحق قبضها في الصرف قبل الافتراق على رجل حاضر
وإن قبضها في المجلس قبل الافتراق كان على وجهين من اختلاف أصحابنا في الحوالة ، هل تجري مجرى البيع أو هي عقد معونة وإرفاق ؟
فإن قيل : إن الحوالة تجري مجرى البيع لم يجز ، وإن قيل : إنها عقد معونة وإرفاق جاز ، كما لو أمر وكيله بالدفع قبل الافتراق .
فرع : ، جاز : لوجود القبض قبل الافتراق ، ولكن لو اقترضها الصيرفي من المشتري ثم ردها عليه ليكون قبضا عما اشتراه من الدنانير ، على وجهين مبنيين على اختلاف الوجهين في القرض ، متى يملك ؟ فلو لم يحله بها ولكن اقترضها له من غيره ودفعها إليه
وأحد الوجهين : أن القرض يملك بالقبض ، فعلى هذا يجوز هاهنا ، ويصح هذا الصرف : لأنه قبض الدنانير من الصيرفي بعد أن ملكها بالقرض .
والثاني : أن القرض يملك بالتصرف ، وهو قول أبي إسحاق المروزي ، فعلى هذا لا يجوز هاهنا ، ويبطل هذا الصرف : لأنه قبض الدنانير مشتريا لها قبل أن يستقر ملك الصيرفي عليها .
فرع : فلو ، لم يجز سواء حصلت العشرة على الصيرفي قبل الصرف أو بعده . وقال اشترى رجل من صيرفي دينارا بعشرة دراهم وقبض منه الدينار ، وحصل للمشتري على الصيرفي عشرة دراهم . قال : اجعل هذه العشرة بدلا من الثمن أبو حنيفة : إن حصلت قبل الصرف لم يجز ، وإن حصلت بعده جاز . وهذا غلط لأمرين :
أحدهما : أنه يكون صرفا قد عدم فيه القبض .
والثاني : أنه يصير بيع دين بدين إلا أن يأخذ دينارا بالعشرة بعد حصولها عليه فيجوز ، وهو بيع الدين بالعين المذكور من قبل .
فرع : فإذا ، كانت البراءة باطلة ، وإن افترقا قبل قبضها بطل الصرف : لأنه إبراء مما لم يستقر ملكه عليه . اشترى رجل من صيرفي دينارا بعشرة دراهم في ذمته ، ثم إن الصيرفي أبرأ المشتري من العشرة
ولو كانت العشرة معينة فوهبها الصيرفي له ، فإن كانت الهبة قبل قبضها لم يجز : لأن الملك لها لم يستقر ، وإن كانت الهبة بعد قبضها ففيها وجهان كالبيع .
[ ص: 149 ] فرع : وإذا نظر : اشترى منه دينارا فقبضه ، ثم وجده معيبا بعد تلفه فأراد الرجوع بأرش عيبه
فإن كان قد اشترى الدينار بوزنه ذهبا ، لم يجز أن يرجع بأرش العيب : لأن أخذ الأرش يؤدي إلى التفاضل في بيع الذهب بالذهب .
وإن كان قد اشتراه بدراهم ، ففي جواز الرجوع بأرش عينه وجهان :
أحدهما : يجوز . اعتبارا بعيوب سائر المبيعات السالفة ، وهذا أقيس الوجهين ، فعلى هذا يرجع بأرش عيب الدينار دراهم ، ولو كان المبيع المعيب فضة رجع بأرش عيبها ذهبا .
والوجه الثاني : وهو قول الشيوخ من أصحابنا البصريين والجمهور من غيرهم ، لا يجوز الرجوع بأرش عيب الدراهم والدنانير لأمرين :
أحدهما : أن الصرف أضيق حكما من البياعات ، فلم يتسع لدخول الأرش فيه .
والثاني : أن الأرش يعتبر بالأثمان ، فلم يجز أن يكون داخلا في الأثمان .
فعلى هذا لا يخلو عيب الدينار المستهلك إذا لم يخرجه من الجنس من أحد أمرين :
إما أن يكون عيبا يصح أن يكون صفة لما يثبت في الذمة أو لا يصح ، فإن كان العيب مما يصح أن يكون صفة في الذمة مثل أن يشتري منه دينارا قاسانيا فيتبين بعد تلفه مغربيا . فإن كان كذلك فعلى المشتري أن يرد بدله دينارا مثله مغربيا .
وإن كان المعيب مبهرجا مما لا يصح أن يكون صفة لما في الذمة مثل أن يشتري دينارا قاسانيا فيتبين الدينار مبهرجا ، فعليه إذا لم يرض بعيبه أن يرد قيمته دراهم ، ولا يصح أن يرد مثله : لأن المبهرج لا مثل له .
فإذا رد مثل الدينار المعيب فيما له مثل أو رد قيمته ورقا فيما ليس له مثل ، نظر : فإن كان قد اشترى الدينار الذي بان عيبه بعينه لم تكن له المطالبة ببدله وكان له استرجاع ما دفع من ثمنه .
وإن كان اشتراه في الذمة من غير تعيين ، فهل له الرجوع ببدله سليما من عيب أم لا ؟ على القولين الماضيين .
فرع : وإذا ، لم يستحق صاحب الدراهم وغيرها ولم يجز أن يطالبه بقيمتها . وقال حصلت في ذمة رجل دراهم موصوفة وكانت نقدا يتعامل الناس به ، فحظر السلطان المعاملة بها وحرمها عليهم أحمد بن حنبل : له المطالبة بقيمتها ذهبا في آخر يوم حرمت . وهذا خطأ .
لأن أكثر ما في تحريم المعاملة بها أن يكون موكسا لقيمتها ، وما ثبت في الذمة لا يستحق بدله لنقصان قيمته كالبر والشعير وغيره .
[ ص: 150 ] فإذا ثبت أن له أخذ تلك الدراهم بعينها بعد التحريم كما كان له أخذها قبل التحريم فعدمت تلك الدراهم ولم توجد ، كان له حينئذ أخذ قيمتها ذهبا : لتعذرها واعتبار زمان القيمة في آخر أوقات وجودها والقدرة عليها : لأنه آخر وقت كانت عينها فيه مستحقة .
فلو ابتاع دينارا وثوبا بعشرة دراهم معينة من هذا النقد المذكور فحظر السلطان المعاملة بها قبل قبضها لم يكن ذلك عيبا يستحق به الفسخ : لأن العيوب ما اختصت بالصفات اللازمة ، فأما تحريم السلطان فعارض يختص بالسعر ونقصه ، ونقصان الأسعار لا يكون عيبا يستحق به الفسخ .
فرع : وإذا نظر : فإن تبايعاها جزافا من غير أن يشترطا الموازنة ، كان البيع باطلا ويترادان ، فلو وزنتا جميعا فكانتا سواء لم يصح الصرف . تبايعا ذهبه بذهبه
وقال أبو حنيفة : إن علما ذلك قبل التفرق صح الصرف ، وإن علماه بعده لم يصح .
وقال زفر : يصح بكل حال . وكلا القولين خطأ ، ومذهبنا فيه أصح .
لأن الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل ، ثم كان العلم بالتفاضل معتبرا وقت العقد ، كذا الجهل بالتماثل معتبرا وقت العقد .
فأما إن تبايعاها موازنة لم يفسد العقد وكان معتبرا بما يخرجه الوزن من تماثلهما أو تفاضلهما ، فإن كانتا سواء صح الصرف ، وإن تفاضلتا فقولان حكاهما ابن سريج :
أحدهما : أن الصرف باطل : لظهور الفضل فيه .
والثاني : أن الصرف جائز بإسقاط الفضل : لاشتراط التماثل ، وللذي نقصت ذهبته الخيار دون الآخر لنقصان ما عقد عليه ، وكذا القول في بيع صبرة طعام بصبرة طعام .
فرع : وإذا باع رجل ثوبا بمائة درهم على أنها من صرف عشرين درهما بدينار ، كان البيع والصرف باطلين : لأن السعر ليس بصفة يختص بالعين ولا يثبت في الذمة .
فرع : ولو ، كان البيع والصرف باطلين : لأنهما بيعتان في بيعة إلا أن يكون هذا الشرط بعد تمام البيع فيصح البيع ولا يلزم الشرط ، ويكون المشتري بالخيار في دفع الدنانير ، والبائع بالخيار في قبضها ، والمستحق دفع الدراهم التي كان بها العقد . باعه ثوبا بمائة درهم على أن يأخذ بقيمتها دنانير من صرف عشرين درهما بدينار
فرع : فإذا باعه ثوبا بألف درهم من نقد سوق وكذا ، نظر في نقد تلك ، فإن كان مختلفا كان البيع باطلا ، وإن كان غير مختلف كان في صحة البيع وجهان :
أحدهما : يجوز وهو أظهر : لأنها صفة يمتاز بها الموصوف عن غيره . والثاني : يجوز : لأنها صفة في غير الموصوف يجوز انتقالها عنه .
فرع : فإذا ، فالصرف باطل في ذلك كله : لأنها شروط تنافي العقد ومثله واقع . اشترى دينارا بعشرة دراهم على أنه يساوي العشرة ، أو على ألا غبينة عليه [ ص: 151 ] في ثمنه ، أو على أنه مستقصى به
فرع : وإذا فإن جهلا أو أحدهما قيمة الدينار في الحال ، كان البيع باطلا : للجهل بالثمن . وإن علما قيمة الدينار ففي البيع وجهان : أحدهما : باطل : لأن الاستثناء من غير جنس الثمن لا يجوز . باعه ثوبا بدينار إلا درهما
والثاني : أن البيع جائز : لأنهما إذا علما أن قيمة الدينار عشرة دراهم وقد باعه بدينار إلا درهما كان بمثابة قوله بعتك بدينار إلا عشر دينار ، فيصير البيع بتسعة أعشار دينار ، والأول أصح على الوجهين : لأنه استثنى درهما ولم يستثن قيمة درهم ، فلا يلزم المشتري دفع الدينار كله لموضع الاستثناء ، ولا يلزم البائع دفع درهم : لأنه ليس بمشتر فيتعذر استيفاء العقد فبطل .
فرع : فإذا جاز للصيرفي أن يهب القيراط الزائد للمشتري ، وجاز أن يودعه إياه فيصير الصيرفي شريكا للمشتري في الدينار بالقيراط الزائد . ابتاع دينارا بعشرة دراهم فدفع إليه الصيرفي دينارا ورجح الدينار قيراطا
فإن دفع إليه المشتري قيراطا من غير الدينار لم يلزمه قبوله إلا باختياره ويكون استئناف صرف آخر في قيراط بقيراط .
فلو كان الصيرفي حين زاد الدينار قيراطا أخذ من المشتري ثمن القيراط الزائد ورقا ، جاز بأكثر من السعر الأول وبأقل : لأنه استئناف صرف ثان .
ولو أخذ منه الصيرفي بدل القيراط الزائد قيراطا من ذهب جاز أيضا : لأنهما عقدان ، ولكن لو تبايعا في الابتداء عشرة دراهم وقيراطا بدينار وقيراط كان باطلا : لأنه عقد واحد كمد عجوة ودرهم بمدي عجوة .
فرع : وإذا جاز : لأنهما قد استأنفا صرفا في ذهب بذهب متماثل مع الجهل بالقدر ، وهذا لا يمنع من صحة الصرف ، ألا ترى أنه لو باع سبيكة ذهب لا يعلم وزنها بوزنها ذهبا جاز لحصول التماثل ، وإن جهلا القدر . اشترى ثوبا بدينار ، ووزن المشتري الدينار فرجح في الميزان فأعطاه بائع الثوب حزاما أفضل من الدينار ذهبا وهما لا يعلمان قدر الزيادة
فرع : وإذا ، لم يجز وكان الصرف باطلا : لأنه لم يتناول عينا حاضرة ترى ولا صفة في الذمة تعرف ، ولكن لو كان المودع قد ضمنها بالاستهلاك ، ثم ابتاعها بألف درهم صح ، وكان هذا بيع عين بدين . أودع رجل رجلا مائة دينار ، ثم إن صاحب الدنانير لقي المودع فباع عليه الدنانير الوديعة بألف درهم والدنانير غير حاضرة
فلو كان قد ضمنها بالتعدي مع بقاء عينها فابتاعها بألف درهم لم يجز : لأن بقاء عينها يمنع من استقرارها في الذمة ، إلا أن تكون الدنانير وقت العقد حاضرة فيصح الصرف .
[ ص: 152 ] فرع : وإذا كان على رجل دنانير يعطي صاحبها دراهم على ما يتفق عنده ويحصل بيده من غير مصارفة وتقرير سعر بالدنانير ، لم يكن هذا صرفا ، ولم يصر قصاصا من الدنانير ، وكانت الدراهم المدفوعة في حكم القرض ، لصاحبها استرجاعها متى شاء ، وعليه دفع ما في ذمته من الدنانير . فلو أراد صاحب الدنانير أن يحبس ما قبض من الدراهم على قبض ما له من الدنانير لم يجز : لأن المقبوض عن بيع فاسد لا يجوز حبسه على استرجاع ثمنه .
ولو اتفقا بعد قبض الدراهم على أن يتبايعا الدراهم بالدنانير ، فإن كانت الدراهم حاضرة لم يستهلكها القابض جاز بيعها : لأنه بيع دراهم حاضرة بدنانير في الذمة .
وإن كانت الدراهم قد استهلكها القابض وصارت في ذمته لم يجز : لأنه يصير بيع دين بدين ، إلا أن يتطارحا ويتباريا من غير شرط ، فيقول قابض الدراهم لدافعها : قد أبرأتك من كذا دينارا . ويقول صاحب الدراهم لقابضها : قد أبرأته من كذا درهما . فيصح الإبراء منهما جميعا ، إلا أن يكون الإبراء مشروطا فلا يصح ، مثل أن يقول صاحب الدنانير لصاحب الدراهم : قد أبرأتك من كذا دينارا على أن تبرئني من كذا درهما . ويقول صاحب الدراهم لصاحب الدنانير : قد أبرأته من كذا درهما على أن تبرئني من كذا دينارا . فيكون الإبراء منهما جميعا باطلا ، لأن البراءة تبطل بالشرط وإنما تصح مع الإطلاق .
فلو أن أحدهما أبرأه صاحبه براءة مطلقة من غير شرط ولم يبرئه الآخر من شيء جاز ، وكان له مطالبته بحقه ، وليس للمبرئ مطالبة الآخر بشيء .
فرع : وإذا ، كان على المشتري أن يدفع دينارا بنصفين ، ولا يلزمه أن يدفع دينارا صحيحا إلا أن يبتاعهما معا بدينار ، فيلزمه أن يدفع دينارا صحيحا ، ولا يلزم البائع أن يأخذ دينارا بنصفين ، فلو ابتاع ثوبا بنصف دينار ، وابتاع ثوبا آخر بنصف دينار على أن يدفع إليه ثمن الثوبين دينارا صحيحا ، كان هذا الشرط مع البيع الثاني باطلا ، وصح بيع الثوب الأول بنصف دينار : لأن ما اقترن بالبيع الثاني من الشرط ينافيه . ابتاع ثوبا بنصف دينار ثم ابتاع ثوبا ثانيا بنصف دينار
ولو ابتاع ثوبا بنصف دينار ثم ابتاع آخر بنصف دينار على أن له عليه دينارا ، كان البيع الأول والثاني جائزين : لأن الشرط المقترن بالثاني لا ينافيه .
فرع : فإذا لا يجوز ، فإن الضمان جائز إلحاقا بضمان الدرك ، وإن كان مترددا بين الوجوب والإسقاء ، وهذه من منصوصات ابن سريج . فإن وجد القابض زائفا أو مبهرجا فهو بالخيار في إبدالها على القاضي إن شاءه أو على الضامن إن شاء . قبض رجل من رجل ألف درهم من دين له عليه فضمن له رجل آخر بدل ما كان فيها من زائف أو بهرجة أو درهم
[ ص: 153 ] فلو أبدلها على القاضي برئ الضامن أيضا ، ولو أبدلها على الضامن رجع الضامن على القاضي بها إن ضمنها عنه بأمره .
فإن قال الضامن : أعطوني المردود بعينه لأعطيكم بدله لم يعطه إياه وقيل له : الواجب أن يفسخ القضاء في المردود ويرد على المضمون له ما ضمنه ، وهذا المردود وغيره من مال المضمون عنه ، ولك الرجوع بمثل ما أديت ، فلو أحضر القابض دراهم رديئة ليبدلها ، وقال هي مما قبضته ، وأنكراه جميعا ، فإن كان الرد دراهم معيبة ، فالقول قولهما مع أيمانهما وعلى القابض البينة .
لأنه قد ملك ما قبض وبرئا منه بالقبض ، فلم يقبل قوله في رجوع الحق .
وإن كان الرد نحاسا أو غير فضة ، فالقول قوله مع يمينه : لأن أصل الدين ثابت ، وإنما يقر بقبض النحاس قضاء ، والنحاس لا يكون قضاء عن الفضة .
ألا ترى أنه لو اشترى دراهم فكانت نحاسا كان البيع باطلا ، ولو كانت فضة معيبة كان البيع جائزا ، ولو اشترى غلاما فكان جارية كان البيع باطلا . والله أعلم بالصواب . قال رحمه الله ، انتهى .