مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولا أجعل للغرماء منعه بدفع الثمن ولا لورثة الميت ، وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم أحق به منهم ( قال المزني ) قلت أنا : وقال في المحبس إذا هلك أهله رجع إلى أقرب الناس إلى المحبس فقد جعل لأقرب الناس بالمحبس في حياته ما لم يجعل للمحبس ، وهذا عندي غير جائز " .
قال الماوردي : وهذا كما قال ، إذا كان عين مال البائع زائد القيمة على ثمنه فبذل له غرماء المفلس جميع الثمن وافيا ليبيعوا السلعة مع زيادتها لم يلزمه ذلك وكان أحق بعين ماله ، وكذلك ورثة الميت إذا بذلوا له الثمن موفرا من أموالهم ، وقال مالك : إذا بذل الغرماء للبائع ثمن سلعته سقط حقه من الرجوع بها استدلالا بأن رجوعه بعين ماله إنما كان لإزالة الضرر عنه بما يدخل عليه من النقص من مشاركة الغرماء ، ولذلك لم يكن له الرجوع بعين ماله في غير المفلس لفقد هذا المعنى ، فإذا بذل له الغرماء الثمن موفرا زال عنه الضرر فسقط حقه من الرجوع كما سقط في غير المفلس ، ولأن تعلق حق المرتهن بالرهن أقوى من تعلق حق البائع بالعين ، لأنهما إذا اجتمعا قدم المرتهن على البائع ، فلما ثبت أن وجب إذا بذلوا للبائع الثمن أن يسقط حقه من العين ، ولأن للمؤجر أن يفسخ الإجارة بفلس المستأجر كما للبائع أن يفسخ البيع بفلس المشتري ، فلما كان الغرماء لو بذلوا للمؤجر الأجرة سقط حقه من الفسخ وجب إذا بذلوا للبائع الثمن أن يسقط حقه من الفسخ ، ودليلنا : عموم قوله صلى الله عليه وسلم " فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه " ، ولأن حدوث العيب في ذمة المشتري كوجود العيب في المبيع ، فلما كان بذل البائع أرش العيب لا يمنع المشتري من الرد وجب أن يكون بذل الغرماء الثمن لا يمنع البائع من استرجاع العين ، ولأن حق البائع في استرجاع العين كحق الشفيع في انتزاع الشقص بالشفعة ، فلما كان بذل الغرماء [ ص: 276 ] الثمن للشفيع لا يسقط حقه من الشفعة كان بذل الغرماء الثمن للبائع لا يسقط حقه من استرجاع العين ، ولأن المال المبذول للبائع لا يخلو من أحد أمرين : الغرماء لو بذلوا للمرتهن دينه سقط حقه من الرهن
إما أن يكون للمفلس أو للغرماء ، فإن كان للمفلس لم يجز بذله لأنه لا يجوز أن يخص بعض الغرماء بالتوفير عليه دون بعض ، وأن البائع لا يأمن ظهور غريم لم يرض ، وإن كان المبذول من مال الغرماء لم يجبر على قبوله لأنه لا معاملة بينه وبينهم ، فأما الجواب عن استدلاله بزوال الضرر عنه فمن وجهين :
أحدهما : فساده ببذل أرش العيب .
والثاني : أن الضرر لم يزل لجواز حدوث غريم لم يرض ، وأما الجواب عن استدلاله بالرهن فهو أن تعلق حق المرتهن بالرهن على سبيل الاستيثاق لا على سبيل التمليك ، فإذا وصل إلى حقه من غير الرهن فقد حصل له الاستيثاق به ، وليس كذلك البائع ؛ لأن تعلق حقه بعين ماله على وجه التمليك له فلم يسقط ببذل الثمن ، ألا ترى أن المرتهن ليس له أخذ الرهن بحقه وللبائع أخذ العين بحقه ، وأما الجواب عن استدلاله بالإجارة فهو أنه متى لم يكن الشيء المستأجر مشغولا بزرع للمفلس فللمؤجر فسخ الإجارة ولا يلزمه الإمساك ببذل الأجرة ، وإن كان مشغولا بزرعه واتفق الغرماء على بذل تسليم الأجرة فللمؤجر الفسخ وأخذ أجرة المثل ولا يسترجع الأرض قبل حصاد الزرع فقد فسخ الإجارة وإن لم يسترجع الأرض ، وإنما لم يجز أن يسترجعها إذا بذل له ثمن مثلها وجاز للبائع استرجاع العين وإن بذل له ثمن مثلها ؛ أن بذل الأجرة من استصلاح مال المفلس فيقع لازما لا خيار فيه لمن غاب من الغرماء كما يبذل من ماله أجور حفاظه ، وليس كذلك بذل ثمن المبيع لأنه لا يقع لازما ولا فيه استصلاح لباقي ماله ، والله أعلم بالصواب .