[ ص: 87 ] باب  نية الوضوء   
قال  الشافعي   رضي الله عنه : ولا يجزئ طهارة من غسل ولا وضوء إلا بنية ، واحتج على من أجاز  الوضوء بغير نية   بقوله :  إنما الأعمال بالنيات  ،  ولا يجوز التيمم إلا بنية   وهما طهارتان فكيف يفترقان .  
قال  الماوردي      : وهذا كما قال : الطهارة ضربان من نجس وحدث .  
فأما  طهارة النجس فلا تفتقر إلى نية   إجماعا لأمرين :  
أحدهما : أن إزالة النجاسة إنما هو تعبد مفارقة وترك ، والتروك لا تفتقر إلى نية كسائر ما أمر باجتنابه في عباداته .  
والثاني : أنه لما طهر ما أصابته النجاسة من الأرض والثوب بمرور السيل عليه وإصابة الماء له علم أن القصد فيه غير معتبر ، وأن النية في إزالته غير واجبة .  
فأما  طهارة الحدث فلا تصح إلا بنية   سواء كانت بمائع كالوضوء والغسل ، أو بجامد كالتراب وبه قال  مالك   ،  وأحمد   ،  وإسحاق   ، وجمهور  أهل الحجاز      . وقال  الأوزاعي   ،  والحسن بن صالح الكوفي   تصح بغير نية سواء كانت بمائع أو جامد .  
وقال  أبو حنيفة   وسفيان الثوري      :  الطهارة بالماء لا تفتقر إلى نية   ،  والتيمم بالتراب يفتقر إلى نية   استدلالا بقوله تعالى :  ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم      [ المائدة : 6 ] . فأمر بغسل هذه الأعضاء ولم يذكر النية .  
وفي إيجابها ما يخرج الغسل المذكور في الآية أن يتعلق به جواز الصلاة ، وذلك نسخ لأنه إبطال حكمه ، وفي إجماع الأمة على أن آية الطهارة غير منسوخة ما يوجب منع      [ ص: 88 ] الزيادة عليها ، وبما روي  أن أعرابيا قال : كيف أتوضأ يا رسول الله فقال : توضأ كما أمرك الله ، اغسل وجهك وذراعيك وامسح برأسك واغسل رجليك     .  
فأجابه على ما تضمنته الآية من غسل هذه الأعضاء دون النية .  
قالوا : ولأنها طهارة بالماء فوجب ألا تفتقر إلى نية كإزالة النجاسة .  
قالوا : ولأنه أصل يستباح به الصلاة فوجب ألا يفتقر إلى نية كستر العورة .  
قالوا : ولأن النية لو كانت من شروط صحة الطهارة لما صح  غسل الذمية من الحيض   ، ولما استباح الزوج المسلم وطأها ، وفي إجماعهم على صحة غسلها وجواز وطئها دليل على أن النية ليست شرطا في صحة طهارتها .  
ودليلنا قوله تعالى :  وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين      [ البينة : 5 ] [ فأمروا ] بالإخلاص في العبادة ، والإخلاص عمل القلب .  
وقال تعالى :  إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم      [ المائدة : 6 ] . ومنها دليلان :  
أحدهما : أن قوله :  فاغسلوا وجوهكم      [ المائدة : 6 ] . يعني : للصلاة فحذف ذكرها اكتفاء بما تقدم منه كما يقال : إذا رأيت الأمير فقم . يعني للأمير . وإذا رأيت الأسد فتأهب . يعني للأسد ، ومثله قوله تعالى :  والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما      [ المائدة : 38 ] . يعني للسرقة .  
والثاني : أن قوله :  إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا      [ المائدة : 6 ] . يعني : قبل قيامكم فاغسلوا وجوهكم لإرادة الصلاة .  
ومن السنة ما رواه  الشافعي   ، عن  سفيان   ، عن  يحيى بن سعيد   ، عن  محمد بن إبراهيم التيمي   ، عن  علقمة بن وقاص الليثي   قال : سمعت  عمر بن الخطاب   على المنبر يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :    " إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى      [ ص: 89 ] الله ورسوله فهجرته إلى ما هاجر إليه ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه     . والدلالة فيه من وجهين :  
أحدهما : قوله : إنما الأعمال بالنيات . ولم يرد بذلك إثبات وجودها ، لأنها قد توجد بغير نية ، وإنما المراد بها إثبات حكمها .  
والثاني : قوله وإنما لكل امرئ ما نوى ، فكان دليل خطابه أن ليس له ما لم ينوه ، على أن قولهم إنما هي موضوعة في اللغة لإثبات ما اتصل بها ونفي ما انفصل عنها .  
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "  لا يقبل الله قولا إلا بعمل ولا قوة ولا عملا إلا بنية     .  
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :    " إن الله تعالى لا ينظر إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى نياتكم     " .  
ثم الدليل من طريق المعنى أنها طهارة من حدث فوجب أن تفتقر إلى النية كالتيمم ، فإن قيل : قياس الوضوء على التيمم غير جائز ، لأن الوضوء أصل والتيمم فرع ولا يجوز أن يؤخذ حكم الأصل من الفرع .  
قيل : التيمم بدل من الوضوء وليس بفرع له ، لأن فرع الأصل ما كان حكمه مأخوذا من ذلك الأصل .  
وليس حكم التيمم مأخوذا من الوضوء ، وليس يمتنع أن يكون حكم المبدل مأخوذا من بدله إذا كان البدل مجتمعا على حكمه ، ولأنها عبادة ترجع في حال العذر إلى شرطها . فوجب أن تكون النية شطرها كالصلاة ، فإن منعوا أن يكون الوضوء عبادة كان نزاعا مطرحا ، لأن العبادة ما ورد التعبد به قربة لله ، وهذه صفة الوضوء على أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :    " الوضوء شطر الإيمان     " ومن كانت هذه حالته فمن المحال ألا تكون عبادة ، ولأن كل عمل كانت النية شرطا في بدله كانت النية شرطا في مبدله كالكفارات ، ولأن كل ما افتقر نقله إلى النية افتقر فرضه إلى النية كالصلاة والصوم . 
 [ ص: 90 ] وبيانه : أن  أبا حنيفة   أوجب  النية في تجديد الوضوء   فاقتضى أن تجب النية في فرضه .  
وأما الجواب عن استدلالهم بالآية فهو أن وجهي استدلالنا يمنع من الاستدلال علينا بها .  
وأما الجواب عن استدلالهم بحديث الأعرابي فهو : أن في قوله : توضأ كما أمرك الله ، وقد ثبت بما ذكرنا أن الله تعالى قد أمر بالنية دليل على أن أمر الأعرابي متضمن النية .  
وأما الجواب عن قياسهم على إزالة النجاسة فمن ثلاثة أوجه :  
أحدها : أن قوله طهارة بالماء لا تأثير له في الأصل ، لأن إزالة النجاسة بالجامد والمانع سواء في سقوط النية ، وإذا لم يكن له تأثير في الأصل سقط اعتباره وانتقضت النية بالتيمم .  
والثاني : أنا نقلبه عليهم ، فنقول فوجب أن يستوي الطهارة بالمائع والجامد في اعتبار النية قياسا على إزالة الأنجاس .  
والثالث : أن إزالة الأنجاس طريقها الترك ، والتروك لا تفتقر إلى نية . كترك الربا والقتل والغصب ، والوضوء فعل ، والفعل من شرطه النية كالصلاة والحج والصوم ، مخصوص من سائر التروك بإيجاب النية فيه ، والقياس على الجملة دون المخصوص على أن المعنى في النجاسة أنها طهارة لا تتعدى إلى محل موجبها . والحدث يتعدى محل موجبه كالتيمم . وأما الجواب عن قياسهم ، على ستر العورة فمن وجهين :  
أحدهما : أن  ستر العورة   لا يختص بالصلاة ، لأنه واجب في الصلاة وغير الصلاة ، وليس كذلك الطهارة لاختصاصها بالصلاة .  
والثاني : أن  ستر العورة للصلاة   مقارن للصلاة من أولها إلى آخرها ، فاكتفى بنية الصلاة كاستقبال القبلة ، وليس كذلك حال الوضوء ، لأن فعله يتقدم الصلاة ، وإنما يستصحب حكمه في الصلاة فلم يجزه نية الصلاة .  
وأما الجواب عن استدلالهم بطهارة الذمية فهو : أن طهارتها غير مجزئة ، وكذلك لزمها إعادة الطهارة إذا أسلمت ، وإنما أجزنا غسلها في حق الزوج ، لأن حق الزوج مضيق ، وفي منعه من وطئها إلا بعد إسلامها تفويت لحقه ومنع من تزويج أهل الذمة ، فصارت كالمجنونة التي يستبيح زوجها وطأها إذا  اغتسلت في جنونها بغير نية   للضرورة الداعية ، ولو أفاقت لم يجز وطؤها إذا اغتسلت إلا بنية ، كذلك الذمية يجوز وطؤها إذا اغتسلت من حيضها بغير نية ، ولو أسلمت لم يجز وطؤها إذا اغتسلت إلا بنية .  
				
						
						
