مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " ولو كان هذا رجوعا " . أوصى أن يباع ، أو دبره ، أو وهبه
قال الماوردي : قد ذكرنا أن للموصي الرجوع في وصيته متى شاء ، وأن الرجوع قد يكون بقول أو دلالة أو فعل .
فأما القول فهو أن يقول صريحا : رجعت في وصيتي ، أو قد أبطلتها ، فيكون ذلك رجوعا منه وتبطل به وصيته .
وأما دلالة الفعل فقد ذكر الشافعي في هذا الفصل ثلاث مسائل :
أحدها : أن يوصي ببيعه .
والثانية : أن يدبره .
والثالثة : أن يهبه .
فأما البيع فعلى ضربين :
أحدهما : أن يتولاه في حياته .
والثاني : أن يوصي به بعد موته ، فإن باعه في حياته كان هذا رجوعا ؛ لأن الوصية إنما تصح إذا انتقلت عن ملك الموصي بموته إلى ملك الموصى له بقبوله والبيع قد أزال ملكه عنها فلم يصح بقاء الوصية به .
فلو اشتراه بعد بيعه لم تعد الوصية به لبطلانها بالبيع ، وخالف المفلس إذا اشترى ما أباعه في رجوع البائع به في أحد الوجهين .
والابن إذا اشترى ما باعه في هبة أبيه في رجوع الأب به في أحد الوجهين .
[ ص: 312 ] والفرق بينهما : أن رجوع الأب فيما وهبه لابنه ورجوع البائع على المفلس بعين ماله حق لهما ، ليس للابن ولا للمفلس إبطال ذلك عليهما ، فكذلك لم يكن بيعهما وعوده إلى ملكهما مانعا من الرجوع بذلك عليهما وليس كذلك الوصية ؛ لأن للموصي إبطالها ، فإذا بطلت بالبيع لم تعد بالشراء .
ولكن لو أن الموصي عرض ذلك للبيع ، ففي كونه رجوعا في الوصية وجهان :
أحدهما : يكون رجوعا في الوصية ؛ لأن تعريضه للبيع دليل على قصده للرجوع ، وهذا قول أبي إسحاق المروزي .
والوجه الثاني : لا يكون رجوعا في الوصية لبقائها على ملكه .
فأما إذا أوصى أن يباع بعد موته ، فهذا على ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يقول بيعوه بعد موتي ، ولم يذكر بكم يباع ولا على من يباع ، فالوصية بهذا البيع باطلة والورثة بالخيار إن شاءوا باعوه وإن شاءوا تمسكوا به ؛ لأنه لم يعين من تصح له الوصية فيه ، لكن يستفاد بذلك إبطال الوصية وأن تكون ملكا لورثته .
والقسم الثاني : أن يوصي ببيعه على زيد بثمن ذكره يعلم أن فيه محاباة فالوصية بهذا البيع جائزة ، ثم مذهب الشافعي أن يكون رجوعا عن الوصية الأولى وكان بعض أصحابنا يقول : إنه يحمل على الوصيتين جميعا كما لو أوصى به لزيد ، ثم أوصى به لعمرو .
قال : ويكون بينهما على قدر المحاباة في الثمن ، فإن كانت المحاباة بنصف ثمنه صار كأنه قد أوصى بجميعه لزيد ، ثم أوصى بنصفه لعمرو ، فيكون بينهما أثلاثا وإن كانت المحاباة بثلث ثمنه كانت بينهما أرباعا .
والقسم الثالث : أن يوصي ببيعه على زيد ولا يذكر قدر ثمنه الذي يباع عليه به ، فهو بذلك مبطل لوصيته الأولى وفي صحة وصية بيعه على زيد وجهان :
أحدهما : باطلة ؛ لأنه لم ينص على ثمن تكون المحاباة فيه وصية ويكون الخيار للورثة في بيعه وإمساكه .
والوجه الثاني : أن الوصية جائزة ؛ لأنها تتضمن قصد تملكه إياه ويباع عليه بثمن مثله إن اشتراه .
وأما المسألة الثانية فهو تدبير ما أوصى به ، فإن قلنا : إن التدبير عتق بصفة ، كان تدبيره رجوعا في الوصية وإن قلنا : إنه كالوصية ، فإن قلنا بتقديم الوصية بالعتق على الوصية بالتمليك ، كان التدبير رجوعا في الوصية ، وإن قلنا : إن الوصية بالعتق والتمليك سواء ، ففيه وجهان :
أحدهما وهو قول أبي علي الطبري : أنه يكون نصفه وصية ونصفه مدبرا كما لو أوصى بالثاني بعد أول ، كان بينهما نصفين .
[ ص: 313 ] والوجه الثاني وهو قول أبي إسحاق المروزي : أنه يكون جميعه مدبرا ورجوعا عن الوصية ؛ لأن عتق التدبير ناجز بالموت ، فيقدم على الوصايا ، كالناجز من العطايا .
وإن قدم تدبيره ثم أوصى به ، فإن قلنا : إن التدبير عتق بصفة لا يجوز الرجوع فيه ، كان على تدبيره وكانت الوصية باطلة ، وإن قلنا إنه كالوصايا نظر ، فإن قال : العبد الذي دبرته قد أوصيت به لزيد ، كان رجوعا في تدبيره وموصيا بجميعه ، وإن لم يكفل ذلك ففيه وجهان :
أحدهما وهو قول ابن أبي هريرة : أنه يكون نصفه باقيا على تدبير ونصفه موصى به .
والوجه الثاني وهو قول أبي إسحاق المروزي : أن تدبيره أقوى من الوصية ويكون على التدبير .
ولو أوصى بعتقه ففيه وجهان :
أحدهما : يكون رجوعا عن الوصية الأولى وموصا بعتقه ، وهذا قول أبي إسحاق المروزي .
والوجه الثاني : يكون رجوعا عن الوصية بصفة وموصا بعتق نصفه ، وهذا قول ابن أبي هريرة .
ولو قدم الوصية بعتقه ، ثم أوصى به لزيد ففيه وجهان :
أحدهما : يكون موصى بعتقه والوصية به بعد ذلك باطلة .
والوجه الثاني : أن نصفه يكون موصى بعتقه ونصفه موصى بملكه .