فصل : فأما . وقال المدبر فيجزئ عتقه عن الكفارة أبو حنيفة ومالك والأوزاعي رضي الله عنهم لا يجزيه عن الكفارة كأم الولد وبنوا ذلك على أصلهم في أن بيع المدبر لا يجوز إلحاقا بأم الولد . وعندنا يجوز بيعه إلحاقا بالمعتق بصفة، والكلام على بيعه يأتي . والله أعلم .
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو أجزأه " أعتق مرهونا أو جانيا فأدى الرهن والجناية
قال الماوردي : أما فقد ذكرنا فيه ثلاثة أقاويل، قدمنا توجيهها في كتاب الرهن . عتق العبد المرهون عن الكفارة
أحدها : أن عتقه لا يصح مع اليسار والإعسار .
والثاني : يصح مع اليسار والإعسار .
والثالث : يصح مع اليسار ولا يصح مع الإعسار، فإن أبطل العتق فالكفارة باقية والعبد رهن بحاله، وإن صح العتق بطل الرهن وأجزأه عتقه عن الكفارة ؛ لأن المرهون كامل الملك غير مستحق العتق، بخلاف أم الولد ويؤخذ من الراهن المعتق قيمته، فإن كان الحق حالا جعلته قصاصا وإن كان مؤجلا فهو بالخيار بين أن يجعلها رهنا مكانه أو يجعلها قصاصا من الحق فإن أعسر بها أنظر إلى معسرته، ثم غرم من بعد يساره على ما ذكرناه .
فصل : وأما قبل فكاكه من الجناية فقد قال عتق العبد الجاني عن الكفارة الشافعي في موضع ينفذ عتقه، وقال في موضع آخر : لا ينفذ عتقه، فقد ذكر في نفوذ عتقه قولين ، فاختلف أصحابنا في محل القولين على ثلاث طرق فمنهم من قال : القولان في جناية الخطأ ، فأما جناية العمد فينفذ عتقه قولا واحدا . ومنهم من قال : القولان في جناية العمد فأما إذا كانت خطأ فلا ينفذ عتقه قولا واحدا، ومنهم من قال : القولان في العمد والخطأ معا، فإن سوينا بين العمد والخطأ سوينا بين الموسر والمعسر ، وإن فرقنا بين العمد والخطأ ففي تفريقنا بين الموسر والمعسر وجهان :
[ ص: 474 ] أحدهما : لا فرق بين يسار السيد وإعساره إلا في تعجيل الغرم باليسار وإنظاره بالإعسار .
والوجه الثاني : يفرق بين الموسر والمعسر فمن قال بهذا اختلفوا فقال بعضهم :
إن كان موسرا نفذ عتقه قولا واحدا، وإن كان معسرا فعلى قولين ، فإذا صح ما ذكرنا من ترتيب القولين في العمد والخطأ وفي اليسار والإعسار . فإن قيل : إن العتق قد نفذ أجزأه عن الكفارة ؛ لأنه عتق لا يستحق في غير الكفارة، وكان المعتق ضامنا لأرش جنايته ، فإن كانت بقدر قيمته فما دون ضمن جميعها ، وإن كانت أكثر من قيمته ففي قدر ما يضمنه قولان :
أحدهما : قدر قيمته لا غير ؛ لأنه لو بيع لم يستحق المجني عليه أكثر من قيمته .
والقول الثاني : أن يضمن أرش الجناية كله ؛ لأنه لو مكن من بيعه لجاز أن يوجد راغب يشتريه بأكثر من قيمته وإن قيل إن العتق لا ينفذ في الحال فهل يكون موقوفا على أداء الأرش أم لا، على وجهين :
أحدهما : وهو قول أبي إسحاق المروزي ، يكون موقوفا، فإن أدى السيد مال الجناية عتق حينئذ وأجزأه عن كفارته، وإن بيع فيها بطل، وكذلك المرهون، تمسكا بقول الشافعي وإن أدى الرهن والجناية أجزأه .
والوجه الثاني : وهو قول جمهور أصحابنا : أنه لا يكون موقوفا ويكون باطلا مراعاة ؛ لأن العتق الناجز لا يوقف، والموقوف ما علق بالصفات، وهذا غير معلق بصفة، فلم يجز أن يكون موقوفا، وحملوا قول الشافعي فإن أدى أجزأه على إجزاء الأداء دون العتق . والله أعلم .
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : و ( قال ) وإن أعتق عبدا له غائبا فهو على غير يقين أنه أعتق " .
قال الماوردي : لا يخلو حال من أن يكون عالما بحياته أو غير عالم بها ، فإن علم حياته حين أعتقه أجزأه وإن لم يقدر عليه بالغيبة بإباق أو غير إباق : لأن العتق صادف ملكا تاما، ومنافع العبد في الغيبة كاملة، وقد ملكها بالعتق بعد أن تغلب عليها بالإباق، وسواء علم بالعتق أو لم يعلم ؛ لأن علمه ليس بشرط في نفوذ العتق، فلم يكن شرطا في حصول الإجزاء ، وإن كان غير عالم بحياته فعلى ضربين : العبد الغائب إذا أعتقه عن كفارته
أحدهما : أن يعلم بها بعد العتق فيجزيه لما ذكرنا من مصادفتها لملك تام . [ ص: 475 ] والضرب الثاني : أن لا يعلم بحياته بعد العتق، فقد قال الشافعي ها هنا : فهو على غير يقين أنه أعتق، فظاهر هذا الكلام أن عتقه لا يجزيه، وقال في الزكاة أن عليه زكاة فطره . فاختلف أصحابنا في ذلك ؛ فمنهم من نقل كل واحد من الجوابين إلى الآخر وخرج إجزاء عتقه ووجوب زكاته على قولين :
أحدهما : يجزئ عتقه عن الكفارة وتجب عليه زكاة الفطر لأننا على يقين من حياته وفي شك من موته، فحمل الأمرين على يقين الحياة دون الشك في الموت .
والقول الآخر : أنه لا يجزئه عتقه عن الكفارة ولا تجب عليه زكاة الفطر ؛ لأن الأصل في الكفارة وجوبها في ذمته فلم تسقط بالشك ، والأصل في الزكاة براءة ذمته منها فلم تجب بالشك .
وقال آخرون من أصحابنا، وهو قول الأكثرين، أنه لا تجزيه عن الكفارة لجواز أن يكون ميتا وتجب عليه زكاة الفطر لجواز أن يكون حيا ، والفرق بينهما من وجهين :
أحدهما : أن الأصل ارتهان ذمته بالكفارة بالظهار المتحقق، وارتهانها بالزكاة بالملك المتحقق، فلم تسقط الكفارة بالحياة المشكوك فيها، ولا الزكاة بالموت المشكوك فيه .
والثاني : أن سقوط الكفارة حق له، ووجوب الزكاة حق عليه، وهو لو شك في حق له لم يجز أن يقطع باستحقاقه ولو شك في حق عليه لم يجز أن يقطع بسقوطه .
فصل : ولو أعتق عن كفارته عبدا مغصوبا نفذ عتقه ؛ لأنه صادف ملكا تاما .
قال أبو حامد الإسفراييني : ولم يجزه عن كفارته ؛ لأنه بالغصب مسلوب المنفعة، فأشبه الزمن في نفوذ العتق وعدم الإجزاء .
والذي أراه أن الإجزاء معتبر بأن ينظر حال العبد ، فإن قدر على الخلاص من غاصبه بالهرب منه، وإن لم يقدر على العود إلى سيده أجزأه عن كفارته ؛ لأنه قادر على منافع نفسه ، وإن لم يقدر على الخلاص والهرب فالإجزاء موقوف ، فإن قدر بعد ذلك على الخلاص بموت الغاصب أو عجزه أجزأه حينئذ عن الكفارة ، وإن لم يقدر على الخلاص حتى مات لم يجزه، وليس يمتنع أن يكون إجزاؤه موقوفا وإن لم يكن عتقه موقوفا كالغائب إذا علم بحياته بعد عتقه .
فصل : ولو عتق الحمل دون أمه، ولم يجزه عن كفارته ؛ لعلتين ذكرهما أعتق حمل جارية له الشافعي :
[ ص: 476 ] أحدهما : لأنه مشكوك الحال بين أن يكون حملا صحيحا وبين أن يكون غلطا أو ريحا .
والثانية : أنه لم يخرج إلى الدنيا فيجري عليه الإجزاء ولهاتين العلتين لم نوجب عليه زكاة الفطر ، فلو سقط الحمل حيا لم يجزه .
والفرق بين الحمل إذا وضع وبين المغصوب إذا خلص أن المنافع في المغصوب موجودة وإن منع منها، وفي الحمل معدومة ، ولو أعتق الأم عتقت مع حملها ، وكان الإجزاء مختصا بعتق الأم دون الحمل .
والفرق بين عتق الأم حيث سرى إلى حملها وبين عتق الحمل حيث لم يسر إلى أمه أن الحمل تابع والأم متبوعة .
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو لم يجزئه لأنه عتق بملكه " . اشترى من يعتق عليه
قال الماوردي : أما الذين يعتقون عليه بالملك فهم الوالدون من الآباء والأمهات والأجداد والجدات ، والمولودون من البنين والبنات وأولاد البنين وأولاد البنات، ولا يعتق من عدا هذين الطرفين من الأقارب والعصبات ، فإذا اشترى أحد هؤلاء بنية الكفارة عتقوا عليه بالملك ولم يجزه عن الكفارة .
وقال أبو حنيفة رحمه الله إذا اشترى أحدهم بنية الكفارة أجزأه استدلالا بأنها رقبة سليمة صادفت نية الحرية بسبب العتق، فوجب أن تجزئه عن الكفارة كالعبد القن ، ولأن العتق بالملك أقوى من العتق بالمباشرة ؛ لأن الملك متحتم، وبالمباشرة مخير، فلما أجزأه عتق المباشرة كان أولى أن يجزيه عتق الملك ، ولأن العتق بالملك قربة وعتق الكفارة قربة وليس بينهما منافاة فكان اجتماعهما أولى بالإجزاء ، ولأن ترادف القرب في المحل الواحد لا تمنع من الإجزاء ؛ كمن نذر أن يعتكف شهرا بصوم فاعتكف شهر رمضان أجزأه صومه عن رمضان وعن نذره .
ودليلنا قول الله تعالى فتحرير رقبة فأوجب عليه أن يحرر عتق رقبة وهذا عتق بغير تحرير فلم يجزه لإخلاله بشرط العتق ، ولأنه عتق ثبت بحق الاستيلاء فلم يجزه عن الكفارة كأم الولد ، ولأنه عتق مستحق بالقرابة فلم يجزه عن الكفارة كما لو ملكه بالإرث فنوى به الكفارة مع الإرث، ولأن العتق المستحق بسبب إذا صرف بالنية عن ذكر السبب إلى الكفارة لم يجزه عن الكفارة كما لو لم يجزه ، ولأن العتق تكفير [ ص: 477 ] فلم يجز صرفه إلى الوالد كالطعام وأما الجواب عن قياسهم بأنها رقبة سليمة كالعبد القن فهو أنا لا نسلم لهم أنها رقبة سليمة لاستحقاق العتق كما لا نسلم ذلك في أم الولد، ثم ينتقض بمن قال : إن شفى الله مريضي فلله علي إن ملكت سالما أن أعتقه فملكه لم يجز أن يعتقه عن كفارته وهو سليم ، ثم المعنى في العبد القن أنه يجوز أن يستبقيه فجاز أن يعتقه عن كفارته ولا يجوز أن يستبقي أباه عبدا فلم يجز أن يعتقه عن كفارته . قال لعبده : إذا دخلت الدار فأنت حر ثم نوى قبل دخول الدار أن يصير بدخولها حرا عن كفارته
وأما الجواب عن قولهم : إن العتق بالملك أقوى منه بالمباشرة لانحتامه فهو فساده بأم الولد، ثم حق المباشرة بالعتق أقوى ؛ لأنه له أن يصرفه إلى التطوع إن شاء وإلى الواجب إن أحب وليس كالعتق بالملك الذي لا يقف على خياره في التطوع فلم يقف على خياره في الوجوب .
وأما الجواب عن قوله : إنهما قربتان فلم يتنافيا فهو فساده بما ذكرنا فيمن نذر عتق سالم إن اشتراه لم يجز أن يكفر به، وإن اجتمعت فيه قربتان ، وما استشهدوا به فيمن نذر اعتكاف شهر بصوم فاعتكف في شهر رمضان فغير مسلم بأن يكون صومه مجزيا عن رمضان دون نذره .