مسألة : قال الشافعي ، رضي الله عنه : " فإذا فرغ من صلاته بعد التشهد سجد ، واحتج في ذلك بحديث سجدتي السهو قبل التسليم أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، وبحديث ابن بحينة ، " . عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد قبل التسليم
قال الماوردي : وهذا كما قال لا خلاف بين الفقهاء أن سجود السهو جائز قبل السلام ، وبعده ، وإنما اختلفوا في المسنون والأولى فمذهب الشافعي وما نص عليه في القديم ، والجديد : أن الأولى فعله قبل السلام في الزيادة والنقصان ، وبه قال من الصحابة ، أبو هريرة ، ومن التابعين : سعيد بن المسيب ، والزهري ، ومن الفقهاء ربيعة ، والأوزاعي ، والليث بن سعد .
وقال أبو حنيفة ، والثوري : الأولى فعله بعد السلام في الزيادة والنقصان ، وبه قال علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وعمار بن ياسر ، رضي الله عنهم .
وقال مالك : إن كان عن نقصان فالأولى فعله قبل السلام ، وإن كان عن زيادة فالأولى فعله بعد السلام ، وقد أشار إليه الشافعي في كتاب " اختلافه مع مالك " ، والمشهور من مذهبه في القديم والجديد ما حكيناه في فعل ذلك قبل السلام في الزيادة والنقصان .
فأما أبو حنيفة فاستدل برواية ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : . لكل سهو سجدتان بعد السلام
وبما رواه أبو هريرة في قصة ذي اليدين
قال : ولأن سجود السهو إنما أخر فعله عن سببه لكي ينوب عن جميع السهو ، فاقتضى أن يكون فعله بعد السلام أولى لتصح نيابته عن جميع السهو ، لأنه إذا فعله قبل السلام لم يخل هذا السهو من أحد أمرين ، إما أن يقتضي سجودا ثانيا ، أو لا يقتضي ، فإن اقتضى سجودا ثانيا لم يكن الأول نائبا عن جميع السهو . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى على صلاته وسجد للسهو بعد السلام .
[ ص: 215 ] وأما مالك فاستدل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد في قصة ذي اليدين بعد السلام ، وكان سببه زيادة الكلام ، وسجد في حديث ابن بحينة عندما ترك التشهد الأول قبل السلام ، وكان سببه النقصان ، فدل على اختلاف محله لاختلاف سببه ، قال : ولأن سجود السهو جبران ، فإذا كان لنقصان اقتضى فعله قبل السلام لتكمل به الصلاة ، وإن كان لزيادة أوقعه بعد السلام لكمال الصلاة .
والدلالة عليهما رواية أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : . إذا شك أحدكم في صلاته ، فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا ، فليبن على ما استيقن ، ويسجد لسجدتي السهو قبل السلام
وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : . إذا سها أحدكم في صلاته ، فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا فليتم ركوعه ، ويقعد ويتشهد ويسجد سجدتي السهو ثم يسلم فإن كانت خمسا شفعتها السجدتان ، وإن كانت أربعا كانت السجدتان ترغيما للشيطان
وروى عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، عن عبد الله ابن بحينة الأسدي حليف بني عبد مناف ولأنه سجود عن سبب وقع في صلاته ، فوجب أن يكون محله في الصلاة قياسا على سجود التلاوة ، ولأنه سجود لو فعله في الصلاة سجد عند موجبه ، فوجب أن يكون محله في الصلاة قياسا على سائر سجدات الصلاة ، ولأنه جبران للصلاة فوجب أن يكون محله في الصلاة كمن نسي سجدة ، ولأن كل ما كان شرطا في سجود الصلاة كان شرطا في أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الجلوس الأول في صلاة الظهر ، أو قال : العصر ، إلى أن قام فمضى في صلاته فلما جلس وتشهد سجد سجدتي السهو قبل أن يسلم كالطهارة والمباشرة ، ولأنه لو كان محله بعد السلام لوجب إن فعله ناسيا قبل السلام أن يسجد لأجله بعد السلام ، وفي إجماعهم على ترك السجود له بعد السلام دليل على أن محله قبل السلام ، ولأنه سجود للسهو وجبران للصلاة ، وما كان جبرانا للشيء كان واقعا فيه . سجود السهو
وأما ما رووه من الأخبار ففيه جوابان :
أحدهما : أنها منسوخة .
والثاني : مستعملة . فأما نسخها فمن وجهين :
أحدهما : ما رواه الزهري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد للسهو قبل السلام ، وسجد له بعد السلام . وكان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم سجود السهو قبل السلام
والثاني : تأخر أخبارنا وتقدم أخبارهم ، لأن ابن مسعود روى سجود السهو بعد السلام وهو متقدم الإسلام قد هاجر الهجرتين ، وابن عباس وأبو سعيد الخدري رويا سجود السهو قبل السلام ، وكان لابن عباس حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة ، وقيل : سبع سنين وكان أبو سعيد من أحداث الأنصار ، وأصاغرهم .
[ ص: 216 ] وأما استعمالها فمن وجهين :
أحدهما : أنها مستعملة على ما بعد السلام في التشهد وهو قول : سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .
والثاني : أنها محمولة على أنه نسي السهو ثم ذكره بعد سلامه فأتى به ، وأما قولهم أنه إذا فعله قبل السلام ثم سها بعده لم يخل حاله من أحد أمرين :
قلنا : فقد اختلف أصحابنا فيه على وجهين :
أحدهما : أنه سجود واقع عن السهو الذي قبله ، والذي بعده .
والثاني : وهو قول أبي إسحاق إنه يسجد لهذا السهو ، ولا يؤدي ذلك إلا أن السجود الأول لا ينوب عن جميع السهو ، لأنا نقول : إن سجدتي السهو تنوب عن جميع السهو في الغالب ، ووقوع نادر فجاز السجود له ، وأما استعمال السهو بعد السجود وقبل السلام مالك فلا يصح ، لأن حديث ابن عباس يوجب سجود السهو قبل السلام مع الزيادة والنقصان ، وأما قوله إن الزيادة تمنع من سجود السهو قبل السلام فغلط ، لأن الزيادة فيها نقصان بدليل أنه لو ترك منها ركعة عامدا أو زاد عليها ركعة عامدا أبطلت صلاته فيها ، وإن كان ذلك نقصانا وجب أن يكون السجود له في الصلاة جبرا .