مسألة : قال الشافعي : " وكل ما قاله وكان يشبه القذف إذا احتمل غيره لم يكن قذفا وقد فزارة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن امرأتي ولدت غلاما أسود فلم يجعله - صلى الله عليه وسلم - قذفا وقال الله تعالى : أتى رجل من ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء فكان خلافا للتصريح " .
[ ص: 131 ] قال الماوردي : وهذا كما قال : . كنايات القذف ومعاريضه لا تكون قذفا إلا بالإرادة في الغضب والرضى جميعا
وبه قال أبو حنيفة وأكثر الفقهاء ، وقال مالك وأحمد وإسحاق : أكثر المعاريض قذف في الغضب دون الرضى كقوله : أنا ما زنيت ، أو يا حلال ابن الحلال .
حكي أن رجلا أتى مالكا فقال : ما تقول في رجل قال لرجل : يا زان ابن الزانية ، قال : هو قاذف ، قال : فإن قال : يا حلال ابن الحلال ، قال : هو قاذف ، فقال الرجل : يكون قاذفا إذا قال : يا حلال ابن الحلال وإذا قال : يا زاني ابن الزانية ، فقال مالك : قد يأتيه [ الباطل ] بلفظ الحق واستدلوا على ذلك بقوله تعالى : وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين [ سبأ : 24 ] . فكان صريح الآية أن أحدهما على هدى والآخر على ضلال ، ودليلها في موضع الخطاب والتعريض بالذم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته على هدى ، وأن المشركين على ضلال مبين ، فكذلك حكم المعاريض كلها .
وروى سالم عن أبيه : أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حد في التعريض بالزنا ، وليس له مخالف ، فكان إجماعا ، ولأن احتمال التعريض يصرفه الغضب إلى الصريح ، لأن شاهد الحال أظهر من الاعتقاد .
ودليلنا ما رواه الشافعي ، عن مالك ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة : فزارة أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله ، إن امرأتي ولدت غلاما أسود . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ألك إبل ؟ قال نعم : قال ما ألوانها ؟ قال : حمر كلها ، قال : هل فيها من أورق ؟ قال : نعم ، قال : أنى ترى ذلك ؟ قال : لعل عرقا نزع ، قال : كذلك هذا لعل عرقا نزع . أن رجلا من
فلم يجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا التعريض بالقذف صريحا . فإن قيل : إنما يكون صريحا في الغضب ولم يظهر منه غضب ، قيل : حاله يشهد بغضبه ؛ لأنه أنكر من زوجته وهما أبيضان أن تلد غلاما أسود يخالفهما في الشبه .
ويدل عليه ما روي ، وهذا تعريض بالقذف ولم يجعله قاذفا . أن رجلا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، إن امرأتي لا ترد يد لامس ، فقال : طلقها ، فقال : إني أحبها ، قال : أمسكها
فإن قيل : المراد بقوله : " يد لامس " ، أريد به ملتمس ، أي طالب لما له لتبذيرها له في كل سائل وطالب ، ولم يرد التماس الفاحشة فيكون تعريضا ، قيل : لا يجوز حمله على هذا التأويل المخالف لأمرين :
[ ص: 132 ] أحدهما : أنه لو أراد هذا القول لقال : لا ترد يد ملتمس ، ولم يقل : يد لامس .
والثاني : أنه لو قصد هذا لم يؤمر بطلاقها ، ولأمر بحبس ماله عنها .
وروي أن اليهود كانت تقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مذمما عصينا ، وأمره أبينا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أما ترون كيف عصمني الله منهم ، إنهم يسبون مذمما وأنا محمد ، فلم يجعل تعريضهم به صريحا ، ولأن الله تعالى أحل التعريض بالخطبة وقد حرم صريحها ، فدل على اختلاف حكم التعريض والتصريح ، ويدل عليه عن طريق المعنى : أن كل ما كان كناية في الرضا كان كناية في الغضب كالكنايات في الطلاق ، وأن كل ما لو نسبه إلى نفسه لم يكن إقرارا بالزنا وجب إذا نسبه إلى غيره أن لا يكون قذفا بالزنا قياسا على حال الرضا ؛ لأنه لو قال لنفسه : أنا ما زنيت لم يكن إقرارا ، كذلك إذا قال لغيره : أنا ما زنيت لم يكن قذفا .
فأما الاستدلال بالآية ، فهي على الفرق بين التعريض والتصريح أدل ؛ لأنه عدل عن قوله : نحن على هدى ، وأنتم على ضلال مبين ، لما فيه من التنفير [ إلى ما هو ألطف ] في القول تأليفا لهم وإن كان في معناه ، فقال : وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين فلو كان التعريض كالتصريح لعدل عن اللفظ المحتمل إلى ما هو أوضح منه وأبين .
أما استدلالهم بالإجماع بأن عمر - رضي الله عنه - حد في التعريض ، فعنه جوابان :
أحدهما : أن عمر - رضي الله عنه - قد خولف فيه فقد روت عمرة أن شابا خاصم غيره في زمان عمر - رضي الله عنه - فقال : ما زنى أبي ولا أمي ، فرفع إلى عمر - رضي الله عنه - فاستشار الصحابة ، فقالوا : مدح أباه وأمه ، فحده عمر - رضي الله عنه - فثبت اختلافهم فيه .
والثاني : ما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال : إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب .
وأما استدلالهم بأن شاهد الحال ينفي احتمال المعاريض فليس بصحيح ؛ لأن صريح القذف في حالة الرضا والبر لا يزول عن حكمه ، وكذلك التعريض في حال الغضب والعقوق .
[ ص: 133 ]