مسألة : قال الشافعي : " وتقبل الوكالة في تثبيت البينة على الحدود ، فإذا أراد أن يقيم الحد أو يأخذ اللعان أحضر المأخوذ له الحد واللعان ، وأما حدود الله سبحانه وتعالى فتدرأ بالشبهات " . قال الماوردي : أما ، فجائزة لأمرين : أحدهما : أن ما صح أن يباشر تثبيته ، صح أن يوكل فيه كسائر الحقوق . والثاني : أنه ربما عجز مستحقها عن تثبيت الحجة فيها وتجوز عنها ، فجاز التوكيل في الحالين كما يجوز في سائر الحقوق ، فإذا صحت الوكالة في تثبيت الحد والقصاص لم يكن للوكيل أن يستوفيهما ما لم يوكل في الاستيفاء ، لأن فعل الوكيل مقصور على ما أذن له فيه فلم يتجاوز بالتثبيت الاستيفاء ؛ لأنه غير مأذون فيه ، فإن وكله في الاستيفاء فظاهر ما قاله هاهنا وفي كتاب الوكالة : أنه لا يجوز ، وظاهر ما قاله في الجنايات جوازه . فاختلف أصحابنا فيه على وجهين : أحدهما : أنه على اختلاف قولين : أحدهما : لا يجوز التوكيل في استيفاء الحدود والقصاص إلا بمشهد من الوكيل ، فإن غاب لم يجز لأمرين : أحدهما : أن الدماء والأعراض لا تستباح إلا بيقين ، ويجوز أن يعفو الموكل إذا غاب ولا يعلم الوكيل . [ ص: 148 ] والثاني : أن مستحق ذلك مندوب إلى العفو ، وقد يرجى بحضوره أن يرق قلبه فيعفو ، فلم يجز أن يغيب عنه . والقول الثاني : يجوز التوكيل في استيفائه مع غيبة الموكل لما قدمناه من المعنيين في جواز التوكيل ، فهذا أحد وجهي أصحابنا وهو قول أكثرهم . والوجه الثاني : أنه ليس على اختلاف قولين ، إنما هو على اختلاف حالين ، فالموضع الذي جوزه فيه إذا استأنف التوكيل في استيفائه بعد ثبوته . والموضع الذي منع من جوازه فيه إذا جمع في التوكيل بين تثبيته واستيفائه ؛ لأن الظاهر من الجمع بينهما ظهور القدرة ليعفو عن قدره ، فلم يجز الاستيفاء إلا بحضوره ، وإذا وكل بعد ثبوته فقد عرفت قدرته وليس من عفوه ولم يبق له قصد غير الاستيفاء فصح أن ينفرد به وكيله ، وقد لوح بهذا الفرق الوكالة في تثبيت الحد والقصاص أبو علي بن أبي هريرة ، فأما اللعان فلا يصح فيه التوكيل والاستنابة ؛ لأنه يمين أو شهادة ، والنيابة لا تصح في واحد منهما ، وأما حد الزنا فيجوز للإمام أن يستنيب في تثبيته واستيفائه ؛ لأن عفوه عنه بعد ثبوته لا يصح ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنيس ، اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها وبالله التوفيق . [ ص: 149 ] باب يا ونفي ولد الأمة من كتابي لعان قديم وجديد قال الوقت في نفي الولد ومن ليس له أن ينفيه الشافعي رحمه الله : " وإذا علم الزوج بالولد فأمكنه الحاكم أو من يلقاه له إمكانا بينا فترك اللعان ، لم يكن له أن ينفيه كما يكون بيع الشقص فيه الشفعة ، وإن ترك الشفيع في تلك المدة لم تكن الشفعة له ، ولو جاز أن يعلم بالولد فيكون له نفيه حتى يقر به جاز بعد أن يكون الولد شيخا وهو مختلف معه اختلاف الولد ، ولو قال قائل : يكون له نفيه ثلاثا وإن كان حاضرا كان مذهبا ، وقد منع الله من قضى بعذابه ثلاثا ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للمهاجر بعد قضاء نسكه في مقام ثلاث بمكة وقال في القديم : إن لم يشهد من حضره بذلك في يوم أو يومين لم يكن له نفيه ( قال المزني ) : لو جاز في يومين جاز في ثلاثة وأربعة في معنى ثلاثة ، وقد قال لمن جعل له نفيه في تسع وثلاثين وأباه في أربعين : ما الفرق بين الصمتين ؟ فقوله في أول الثانية أشبه عندي بمعناه ، وبالله التوفيق . قال الماوردي : وقد مضى الكلام مع أبي حنيفة - رحمه الله - في المدة التي يجوز نفي الولد فيها ، وحكي عن شريح والشعبي أنهما جوزا له نفيه ما لم يقر به وإن صار شيخا فجعل الإقرار به شرطا في لحوق نسبه . وفي هذا إبطال لقول النبي صلى الله عليه وسلم : لأنهما يجعلان الولد للإقرار دون الفراش . وقال الولد للفراش وللعاهر الحجر أبو يوسف بنفيه إلى ستة أشهر وهي مدة أقل الحمل . وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - بنفيه إلى أربعين يوما هي أكثر مدة النفاس عنده وفيه على مذهب الشافعي - رضي الله عنه - قولان : أحدهما : له نفيه إلى مدة ثلاثة أيام بعد علمه ، وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة - رحمه الله - لأنه لا يستغني عن الارتياء والتفكير ، ولقاء حاكم وفقيه حتى لا يستلحق ولدا ليس منه ، ولا ينفي ولدا هو منه ، فأجل قليل الزمان المعتبر في استحقاق الخيار ، وهو ثلاثة أيام . [ ص: 150 ] والقول الثاني : أن نفيه بعد العلم به معتبر بالإمكان على الفور من غير تأخير ، لأن كل ما لزم بالسكوت ، فمدة لزومه معتبرة بالإمكان بعد علمه كالرد بالعيب والأخذ بالشفعة ، ولأن كل خيار تعلق بالنكاح كان معتبرا بالفور كالخيار بالعيوب .