مسألة : قال الشافعي : " فإذا سرق الثالثة ، قطعت يده اليسرى من مفصل الكف ثم حسمت بالنار . فإذا سرق الرابعة ، قطعت رجله اليمنى من مفصل الكعب ثم حسمت بالنار " .
قال الماوردي : وهذا كما قال : ، فتقطع في الثالثة يده اليسرى ، وتقطع في الرابعة رجله اليمنى ، وبه قال يقطع السارق في الثالثة والرابعة مالك وإسحاق . [ ص: 322 ] وقال أبو حنيفة : لا أقطعه بعد الثانية ، ويحبس بعد التعزير حتى يتوب . وبه قال الثوري وأحمد بن حنبل : استدلالا بقول الله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ المائدة : 38 ] ، والإضافة إلى الاثنين بلفظ الجمع تقتضي واحدا من الاثنين ، كما قال تعالى : إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما [ التحريم : 4 ] ، فكان المراد قلبا من كل واحدة .
وروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه أتي بسارق مقطوع اليد والرجل ، فلم يقطعه ، وقال : إني لأستحي من الله أن لا أدع له يدا يأكل بها ، ورجلا يمشي عليها . وأن كل عضو لا يقطع في السرقة الثانية ، لم يقطع في السرقة بحال كاللسان والأنف ، ولأن في قطع اليسرى استيفاء منفعة الجنس ، فوجب أن لا تقطع في السرقة كالسرقة الثانية ، ولأن اليد اليسرى أقرب إلى اليمنى من الرجل اليسرى ، والسرقة الثانية أقرب إلى الأولى من الثالثة ، فلما لم يجز قطعها في الثانية مع قربها من اليمنى ، وقربها من السرقة الأولى كان أولى أن لا تقطع في الثالثة : لأن السرقة إذا تكررت ضعفت ، وإذا تقدمت غلظت .
ودليلنا : قول الله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ المائدة : 38 ] ، فاقتضى هذا الظاهر من لفظ الجمع أن تقطع اليدين : لأمرين :
أحدهما : أنه قد يعبر عن الاثنين بلفظ الجمع .
والثاني : أنهما أقرب إلى الجمع من الواحد ، وليس في قوله : فقد صغت قلوبكما [ التحريم : 4 ] ، دليل : لأنه ليس في الجسد إلا قلب واحد ، فعلمنا أنه ترك الظاهر ، وهذا انفصال ، ويدل عليه حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا سرق السارق فاقطعوا يده ، فإن عاد فاقطعوا رجله ، فإن عاد فاقطعوا يده ، فإن عاد فاقطعوا رجله وهذا نص .
وروى هشام بن عروة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، قال : فإن قيل : ففيه القتل في الخامسة وهو منسوخ ، فلم يصح الاجتماع به . قيل : نسخ بعض الحديث لا يقتضي نسخ باقيه . أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطع يده ، ثم أتي به وقد سرق فقطع رجله ، ثم أتي به وقد سرق فقطع يده ، ثم أتي به وقد سرق فقطع رجله ، ثم أتي به وقد سرق فأمر به فقتل
وروى أيوب ، عن نافع ، أن أقطع اليد والرجل نزل على أبي بكر رضي الله عنه فسرق ، فقطع يده . [ ص: 323 ] وروى عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : شهدت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قطع بعد يد ورجل يدا . ومن القياس : أن كل يد جاز قطعها قودا جاز قطعها حدا كاليمنى ، وكل رجل قطعت قودا جاز قطعها حدا كاليسرى . ولأن الإمام لو أخطأ فقطع اليد اليسرى في السرقة سقط بها قطع اليمنى . فتقول : ما سقط الحد بقطعه جاز أن يكون قطعه مستحقا ، كاليمنى .
ولأن كل حكم ثبت لليد اليمنى والرجل اليسرى ، ثبت لليد اليسرى والرجل اليمنى .
أصله : الدية والقود والطهارة .
فأما الجواب عن حديث علي عليه السلام : فقد عارضه فعل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما .
وأما الجواب عن قياسه على اللسان والأنف مع فساد موضوعه : فهو أنه لو قطع لم يسقط به الحد ، ولم يجز قطعه في الحد بخلاف اليد .
وأما الجواب عن قياسهم بما فيه من استيفاء منفعة الجنس : فمن وجهين :
أحدهما : أنه لم يمنع ذلك في القود ، فلم يمنع في الحد .
والثاني : أنه لما لم يمنع ذلك من القتل ، كان أولى أن لا يمنع ما دون القتل .
وأما الجواب عن قولهم : إنها في الثانية أقرب ، وإذا تكررت السرقة خفت ، فهو إثبات اعتبار الثانية بالقطع في الحرابة من خلاف ، فكان ذلك اعتلالا يدفع عنه هذا التعليل ، كذلك السرقة . وادعاؤهم خفة السرقة إذا تكررت فغير مسلم : لأن قطع الرجل في الثانية أغلظ من قطع اليد في الأولى : لأنها أغلظ مفصلا وأكثر زمانة .