فصل : وأما فمنع منها القرعة التي تتميز بها الحرية من الرق ، أبو حنيفة استدلالا بأمرين :
أحدهما : أن القرعة رجم بالغيب تنقل الحرية إلى الرق ، والرق إلى الحرية ، فجرت مجرى الأزلام التي منع منها الشرع بقوله تعالى " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون " ( المائدة : 90 ) والجواب عنه من وجهين :
أحدهما : أن القرعة إنما دخلت لتمييز عتق مطلق غير معين فلم تنقل الحرية إلى [ ص: 36 ] رق ، ولا رقا إلى حرية ، ألا ترى لو عين العتق في اثنين منهم لم ينقل بالقرعة إلى غيرهم .
وإنما يقرع إذا أطلق العتق في الستة ، واستحق في اثنين منهم دخلت لتمييز ما يعتق ، ويرق .
والثاني : أن القرعة خارجة عن حكم الأزلام التي هي رجم بالغيب ؛ لأنهم كانوا يعتقدون في الأزلام أنها هي الآمرة ، وهي الناهية ، وكانوا يكتبون على أحدهما : أمرني ربي ، وعلى الآخر : نهاني ربي ، وآخر يجعلونه عقلا ، ويجرونها مجاري النجوم التي يعتقد المنجم أنها هي الفاعلة ، فنهى الله تعالى عنها ، ولم يرد الشرع بإباحة شيء منها .
والقرعة مميزة لحكم وجب بالشرع ؛ لأنها قد عمل بها الرسول صلى الله عليه وسلم في الشرع ، ووافق عليها في كثير من الأحكام ، فلم يجز أن تجعل القرعة التي ورد الشرع بها مجرى الأزلام التي نهى الشرع عنها .
والاستدلال الثاني : أن قالوا لو كانت القرعة دليلا لم تتناقض ، لأن أدلة الله لا تتناقض ، واستعمال القرعة موجب للتناقض ؛ لأنها لو أعيدت ثانية لخرجت بغير ما خرج به الأول ، فلم يجز أن تستعمل ، والجواب عنه من وجهين :
أحدهما : أنه لما لم يمنع هذا المعنى من دخول القرعة في قسمة الأملاك لم يمنع منها في العتق .
والثاني : أنه لا تناقض فيها ؛ لأنها لا تستعمل إلا مرة ، فكانت دليلا في الأول ، ولم تكن دليلا في الثاني فلم يدخلها إذا كانت دليلا تناقض وإن دخلها إذا لم تكن دليلا تناقض .