فصل : والدليل على صحة ما ذهبنا إليه في الأمرين من التجزئة والقرعة من وجهين : نص واستدلال .
فأما النص : فوارد من طريقين اثنين :
أحدهما : عن عمران بن الحصين : رواه الشافعي عن عبد الوهاب بن عبد الحميد عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن الحصين : " . أن رجلا من الأنصار أعتق عند موته ستة مملوكين ليس له مال غيرهم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم " فقال قولا شديدا ثم دعاهم ، فجزأهم ثلاثة أجزاء ، فأقرع بينهم ، فأعتق اثنين ، وأرق أربعة
والطريق الثانية : عن أبي سعيد الخدري رواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد الخدري : " . أن رجلا أعتق ستة مملوكين عند موته ، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأقرع بينهم ، فأعتق اثنين ، ورد أربعة إلى الرق
[ ص: 37 ] فدل هذا الحديث على ثلاثة أحكام خالف فيها أبو حنيفة :
أحدها : أنه جزأهم ثلاثة أجزاء ، لتتكامل الحرية والرق ، وأبو حنيفة لا يجزئهم .
والثاني : أنه أقرع بينهم لتمييز الحرية من الرق ، وأبو حنيفة لا يقرع بينهم .
والثالث : أنه كمل الحرية في اثنين ، والرق في أربعة ، وأبو حنيفة يعتق من كل واحد ثلثه ، ويرق ثلثيه ، وما خالف النص كان مدفوعا .
فإن قالوا : معنى هذا الحديث مستعمل في غير ما قلتموه ، وهو أن قوله : ( جزأهم ثلاثة أجزاء ) أي جعل جزءا حرية ، وجزأين رقا .
وقوله : " أقرع بينهم " أي استقصاء في اعتبار القيمة اشتقاقا من المقارعة ، لا من القرعة مأخوذ من قولهم : قرع فلان فلانا إذا استقصى عليه . وقوله : أعتق اثنين ، وأرق أربعة أي أعتق سهمين ، وأرق أربعة أسهم .
قيل : هذا تأويل معدول به عن الظاهر بغير دليل ، ويبطل بالدليل . أما قولهم : إن معنى جزأهم أي جعل جزءا حرية ، وجزأين رقا ، فليس بصحيح ؛ لأن هذه تجزئة الأحكام دون الأعيان ، وحمل التجزئة على الأعيان أولى من حملها على الأحكام ؟ لأمرين :
أحدهما : أن تجزئة الأحكام معلومة بالعتق ، فاستغنت عن تجزئة الرسول صلى الله عليه وسلم .
والثاني : أنها فعل ، والفعل متوجه إلى الأعيان دون الأحكام .
وأما قولهم : إن معنى أقرع أي استقصى في القيمة ، فليس بصحيح من وجهين : أحدهما : أنه لو أعتق من كل واحد ثلثه ، لم يحتج إلى اعتبار القيمة .
والثاني : أن القرعة بينهم لا تكون قرعة في قيمتهم .
وأما قولهم : " أعتق اثنين ( أي سهمين ) وأرق أربعة " أسهم فليس بصحيح من وجهين :
أحدهما : أنه لو كان ما قالوه لكان العتق بينهما والرق سهمين .
والثاني : أن التجزئة مغنية عن هذا فلم يجز أن يحمل على ما لا يفيد ، وهذا مغن عن التجزئة ، فلم يجز أن يفعل ما لا يفيد .
وأما الاستدلال عليهم فمن وجهين :
أحدهما : على جواز التجزئة لتكميل الحرية ، وتكميل الرق .
[ ص: 38 ] والثاني : على جواز . القرعة لتمييز الحرية من الرق
وأما الدليل على جواز التجزئة لتكميل الحرية والرق ، فمن وجهين :
أحدهما : أن التجزئة موافقة لأصول الوصايا ألا يمضي في الوصايا إلا ما يحصل للورثة إلا مثلاه ، فإذا جزئوا أثلاثا ، وعتق منهم اثنان ، رق أربعة للورثة ، فصار لهم مثلا ما خرج بالعتق ، وإذا أعتق ثلثهم على ما قالوا ، واستسعوا في باقيهم خرج بالعتق ما لم يحصل للورثة مثلاه ، وتردد مال السعاية بين أن يحصل ، فيتأخر به حقوق الورثة ، وبين ألا يحصل ، فتبطل به حقوق الورثة ، وما أدى إلى واحد منهما كانت الأصول مانعة منه .
والاستدلال الثاني : أن في التجزئة إيصال الورثة إلى حقوقهم من غير التركة ، فيصير المعتق مستوعبا لتركته وحقه في ثلثها ، والوارث ممنوع منها ، وقد استحق ثلثيها .
وما أدى إلى هذا كان الشرع مانعا منه .
وأما الدليل على جواز القرعة لتمييز الحرية من الرق ، فمن وجهين :
أحدهما : ما روي أن عمر بن عبد العزيز ، رضي الله عنه ، استشار خارجة بن زيد بن ثابت ، وأبان بن عثمان بن عفان في القرعة بين العبيد في الحرية والرق ، فأشارا عليه باستعمالها فيه ، فعمل بها ، ولم يظهر في عصره مخالف فيها ، فصار قول ثلاثة من التابعين انعقد بهم الإجماع .
والاستدلال الثاني : أنه لما استعملت القرعة في قسمة الأملاك المشتركة ليتميز بها نقل أملاك عن أملاك ، كان استعمالها في ملك الواحد ليتميز بها حرية ملكه من رقه أولى من وجهين :
أحدهما : أنه في ملك واحد ، وذلك في ملك جماعة .
والثاني : أن في العتق حقا لله تعالى ، فكان بنفي التهمة أحق .