فصل
في
الصيد ضربان ، مثلي وهو ما له مثل من النعم ، وغير مثلي . فالمثلي : جزاؤه على التخيير والتعديل ، فيتخير بين أن يذبح مثله فيتصدق به على مساكين بيان الجزاء الحرم ، إما بأن يفرق اللحم عليهم ، وإما بأن يملكهم جملته مذبوحا . ولا يجوز أن يدفعه حيا ، وبين أن يقوم المثل دراهم . ثم لا يجوز أن يتصدق بالدراهم ، لكن إن شاء اشترى بها طعاما وتصدق به على مساكين الحرم ، وإن شاء صام عن كل مد من الطعام يوما حيث كان .
وأما غير المثلي ، ففيه قيمته ، ولا يتصدق بها دراهم ، بل يجعلها طعاما ، ثم إن شاء تصدق به ، وإن شاء صام عن كل مد يوما . فإن انكسر مد في الضربين صام يوما . فحصل من هذا أنه في المثلي مخير بين الحيوان والطعام والصيام ، وفي غيره مخير بين الطعام والصوم ، هذا هو المذهب ، والمقطوع به في كتب والأصحاب . وروى الشافعي قولا : أنها على الترتيب . وإذا لم يكن الصيد مثليا ، فالمعتبر قيمته بمحل الإتلاف ، وإلا فقيمته أبو ثور بمكة ويومئذ ؛ لأن محل ذبحه مكة . فإذا عدل عن ذبحه ، وجبت قيمته بمحل الذبح . هذا نصه في المسألتين ، وهو المذهب . وقيل : فيهما قولان . وحيث اعتبرنا محل الإتلاف ، فللإمام احتمالان ، في أنه يعتبر في العدول إلى الطعام سعر الطعام في ذلك المكان ، أم سعره بمكة ؟ والظاهر منهما : الثاني .
[ ص: 157 ] فرع
في بيان المثلي
اعلم أن المثل ليس معتبرا على التحقيق ، بل يعتبر على التقريب . وليس معتبرا في القيمة ، بل في الصورة والخلقة . والكلام في الدواب ثم الطيور .
أما الدواب : فما ورد فيه نص - أو حكم فيه صحابيان ، أو عدلان من التابعين ، أو من بعدهم - من النعم أنه مثل الصيد المقتول ، اتبع ، ولا حاجة إلى تحكيم غيرهم . وقد وحكمت الصحابة رضي الله عنهم في النعامة ببدنة ، وفي حمار الوحش وبقرته ببقرة ، وفي الغزال بعنز ، وفي الأرنب بعناق ، وفي اليربوع بجفرة . حكم النبي صلى الله عليه وسلم في الضبع بكبش
وعن عثمان رضي الله عنه : أنه حكم في أم حبين بحلان . وعن عطاء ومجاهد : أنهما حكما في الوبر بشاة . قال رحمه الله تعالى : إن كانت العرب تأكله ففيه جفرة ؛ لأنه ليس أكبر بدنا منها . وعن الشافعي عطاء : في الثعلب شاة . وعن عمر رضي الله عنه : في الضب جدي . وعن بعضهم : في الإبل بقرة .
أما العناق : فالأنثى من المعز من حين تولد إلى حين ترعى . والجفرة : الأنثى من ولد المعز تفطم وتفصل عن أمها ، فتأخذ في الرعي ، وذلك بعد أربعة أشهر . والذكر جفر ، هذا معناها في اللغة . لكن يجب أن يكون المراد بالجفر هنا ما دون العناق ، فإن الأرنب خير من اليربوع .
أما أم حبين ، فدابة على خلقة الحرباء عظيمة البطن . وفي حل أكلها خلاف مذكور في الأطعمة . ووجوب الجزاء يخرج على الخلاف .
وأما الحلان ، ويقال الحلام . فقيل : هو الجدي . وقيل : الخروف .
[ ص: 158 ] ووقع في بعض كتب الأصحاب : في الظبي كبش . وفي الغزال عنز . وكذا قاله أبو القاسم الكرخي ، وزعم أن الظبي : ذكر الغزلان ، وأن الأنثى غزال . قال الإمام : وهذا وهم ، بل الصحيح : أن في الظبي عنزا ، وهو شديد الشبه بها ، فإنه أجرد الشعر ، متقلص الذنب .
وأما ، فولد الظبي ، فيجب فيه ما يجب في الصغار . الغزال
قلت : قول الإمام هو الصواب . قال أهل اللغة : الغزال ولد الظبية إلى حين يقوى ويطلع قرناه ، ثم هي ظبية ، والذكر : ظبي . والله أعلم .
هذا بيان ما فيه حكم . أما ما لا نقل فيه عن السلف ، فيرجع فيه إلى قول عدلين فقيهين فطنين . وهل يجوز أن يكون قاتل الصيد أحد الحكمين ، أو يكون قاتلاه الحكمين ؟ نظر ، إن كان القتل عدوانا فلا ؛ لأنه يفسق . وإن كان خطأ ، أو مضطرا إليه ، جاز على الأصح ، ولو حكم عدلان أن له مثلا ، وعدلان أن لا مثل له ، فهو مثلي .
قلت : ولو حكم عدلان بمثل ، وعدلان بمثل آخر ، فوجهان في " الحاوي " و " البحر " . أصحهما : يتخير . والثاني : يلزمه الأخذ بأعظمهما ، وهما مبنيان على اختلاف المفتيين . والله أعلم .
وأما الطيور فحمام وغيره . فالحمامة فيها شاة وغيرها إن كان أصغر منها جثة ، كالزرزور ، والصعوة ، والبلبل ، والقبرة ، والوطواط ففيه القيمة . وإن كان أكبر من الحمام أو مثله فقولان : الجديد ، وأحد قولي القديم : الواجب القيمة . والثاني : شاة ، والمراد بالحمام : كل ما عب في الماء ، وهو أن يشربه جرعا ، وغير الحمام يشرب قطرة قطرة . وكذا نص رضي الله عنه في عيون المسائل ، ولا حاجة في وصف الحمام ، إلى ذكر الهدير مع العب ؛ فإنهما متلازمان . ولهذا اقتصر الشافعي رضي الله عنه على العب ، ويدخل في اسم الحمام اليمام التي تألف البيوت ، والقمري ، والفاختة ، والدبسي ، والقطاة . الشافعي
[ ص: 159 ] فرع
، كالعور والعور . وإن اختلف ، كالعور والجرب فلا . وإن كان عور أحدهما في اليمين ، والآخر في اليسار ، ففي إجزائه ، وجهان . الصحيح : الإجزاء ، وبه قطع العراقيون ، لتقاربهما . ولو قابل المريض بالصحيح ، أو المعيب بالسليم ، فهو أفضل . وإن فدى الذكر بالأنثى ، فطرق : أصحها : على قولين . أظهرهما : الإجزاء . والطريق الثاني : القطع بالجواز . والثالث : إن أراد الذبح لم يجز . وإن أراد التقويم جاز ؛ لأن قيمة الأنثى أكثر ، ولحم الذكر أطيب . والرابع : إن لم تلد الأنثى جاز ، وإلا فلا . فإن جوزنا الأنثى فهل هي أفضل ؟ فيه وجهان : يفدى الكبير من الصيد بالكبير من مثله من النعم ، والصغير بالصغير ، والمريض بالمريض ، والمعيب بالمعيب ، إذا اتحد جنس العيب
قلت : أصحهما : تفضيل الذكر ؛ للخروج من الخلاف ، والله أعلم .
وإن فدى الأنثى بالذكر فوجهان . وقيل : قولان قلت : أصحهما الإجزاء ، وصححه البندنيجي . والله أعلم .
فإذا تأملت ما ذكرنا من كلام الأصحاب ، وجدتهم طاردين الخلاف مع نقص اللحم . وقال الإمام : الخلاف فيما إذا لم ينقص اللحم في القيمة ولا في الطيب ، فإن كان واحد من هذين النقصين ، لم يجز بلا خلاف .
[ ص: 160 ] فرع
لو ، قابلناه بمثله حاملا . ولا يذبح الحامل ، بل يقوم المثل حاملا ويتصدق بقيمته طعاما . وفيه وجه : أنه يجوز ذبح حامل نفيسة بقيمة حامل وسط ، ويجعل التفاوت بينهما ، كالتفاوت بين الذكر والأنثى ، ولو قتل صيدا حاملا ، نظر ، إن ماتت الأم أيضا ، فهو كقتل الحامل ، وإلا ، ضمن ما نقصت الأم ، ولا يضمن الجنين ، بخلاف جنين الأمة ، يضمن بعشر قيمة الأم ؛ لأن الحمل يزيد في قيمة البهائم ، وينقص الآدميات ، فلا يمكن اعتبار التفاوت في الآدميات ، وإن ألقت جنينا حيا ، ثم ماتا ، ضمن كل واحد منهما بانفراده . وإن مات الولد وعاشت الأم ، ضمن الولد بانفراد ، وضمن نقص الأم . ضرب بطن صيد حامل ، فألقى جنينا ميتا
فرع
قال رحمه الله في " المختصر " : إن الشافعي ، فعليه عشر قيمة شاة . وقال جرح ظبيا نقص عشر قيمته المزني تخريجا عليه : عشر شاة . قال جمهور الأصحاب : الحكم ما قاله المزني ، وإنما ذكر القيمة ؛ لأنه قد لا يجد شريكا في ذبح شاة ، فأرشده إلى ما هو أسهل ، فإن جزاء الصيد على التخيير . فعلى هذا ، هو مخير ، إن شاء أخرج العشر ، وإن شاء صرف قيمته في طعام وتصدق به ، وإن شاء صام عن كل مد يوما . ومنهم من جرى على ظاهر النص ، وقال : الواجب عشر القيمة . وجعل في المسألة قولين : المنصوص ، وتخريج الشافعي المزني . فعلى هذا إذا قلنا بالمنصوص ، فأوجه : أصحها : تتعين الصدقة بالدراهم . والثاني ، لا تجزئه الدراهم ، بل يتصدق بالطعام ، أو يصوم .
[ ص: 161 ] والثالث : يتخير بين عشر المثل ، وبين إخراج الدراهم . والرابع : إن وجد شريكا في الدم ، أخرجه ولم تجزئه الدراهم ، وإلا ، أجزأته . هذا في الصيد المثلي . وأما غير المثلي ، فالواجب ما نقص من قيمته قطعا .
قلت : لو ، لم يجز على الأصح ذكره في " البحر " . والله أعلم . قتل نعامة فأراد أن يعدل عن البدنة إلى بقرة ، أو سبع شياه
فرع
لو ، فوجهان . أصحهما : يلزمه جزاء كامل ، كما لو أزمن عبدا ، لزمه كل قيمته . والثاني : أرش النقص . وعلى هذا ، يجب قسط من المثل ، أو من قيمة المثل ؟ فيه الخلاف السابق في الفرع قبله . ولو جاء محرم آخر ، فقتله بعد الاندمال ، أو قبله ، فعليه جزاؤه زمنا ، ويبقى الجزاء على الأول بحاله . وقيل : إن أوجبنا جزاء كاملا ، عاد هنا إلى قدر النقص ؛ لأنه يبعد إيجاب جزاءين لمتلف واحد . ولو عاد المزمن فقتله ، نظر ، إن قتله قبل الاندمال ، لزمه جزاء واحد . كما لو قطع يدي رجل ثم قتله ، فعليه دية . جرح صيدا ، فاندمل جرحه وصار زمنا
وفي وجه : أن أرش الطرف ينفرد عن دية النفس ، فيجيء مثله هنا . وإن قتله بعد الاندمال ، أفرد كل واحد بحكمه . ففي القتل جزاؤه زمنا ، وفيما يجب بالإزمان ، الخلاف السابق . وإذا أوجبنا بالإزمان جزاء كاملا ، وكان للصيد امتناعان ، كالنعامة ، تمتنع بالعدو وبالجناح ، فأبطل أحد امتناعيه ، فوجهان . أحدهما : يتعدد الجزاء ، لتعدد الامتناع . وأصحهما : لا ، لاتحاد الممتنع . وعلى هذا ، فما الواجب ؟
قال الإمام : الغالب على الظن ، أنه يعتبر ما نقص ؛ لأن امتناع النعامة في الحقيقة واحد ، إلا أنه يتعلق بالرجل والجناح ، فالزائل ، بعض الامتناع .
[ ص: 162 ] فرع
فهل يلزمه جزاء كامل ، أم أرش الجرح فقط ؟ قولان . جرح صيدا فغاب ، ثم وجد ميتا ولم يدر أمات بجراحته أم بحادث
قلت : أظهرهما : الثاني . والله أعلم .
فرع
إذا اشترك محرمون في قتل صيد ، حرمي أو غيره ، لزمهم جزاء واحد . ولو ، لزمه جزاء واحد . وكذا لو ارتكب محظورا آخر ، فعليه فدية واحدة . ولو قتل القارن صيدا ، لزم المحرم نصف الجزاء ، ولا شيء على الحلال . اشترك محرم وحلال في قتل صيد
فرع
قد سبق ، أنه يحرم على ، وكذا يحرم عليه أكل ما اصطاده له حلال ، أو بإعانته ، أو بدلالته بلا خلاف . فإن أكل منه ، فقولان : الجديد : لا جزاء عليه . والقديم : يلزمه القيمة بقدر ما أكل . ولو أكل المحرم ما ذبحه بنفسه ، لم يلزمه لأكله بعد الذبح شيء آخر بلا خلاف ، كما لا يلزمه في أكل صيد المحرم بعد الذبح شيء آخر . المحرم أكل الصيد الذي ذبحه
[ ص: 163 ] فرع
يجوز ، ولا للمحرم أكل صيد ذبحه الحلال إذا لم يصده له
[ كان ] بدلالته أو إعانته ، ولا جزاء عليه قطعا .