فصل
فيما يزول به حجر الصبي
قال جماعة : ينقطع حجر الصبي بالبلوغ رشيدا . ومنهم من يقول : حجر الصبي [ ص: 178 ] ينقطع بمجرد البلوغ ، وليس هذا اختلافا محققا ، بل من قال بالأول ، أراد الإطلاق الكلي ، ومن قال بالثاني ، بالحجر أراد الحجر المخصوص بالصبي ، وهذا أولى ؛ لأن الصبي سبب مستقل بالحجر ، وكذلك التبذير . وأحكامهما متغايرة . ومن بلغ مبذرا ، فحكم تصرفه حكم تصرف السفيه ، لا حكم تصرف الصبي .
فرع
للبلوغ أسباب . منها مشترك بين الرجال والنساء ، ومختص بالنساء . أما المشترك ، فمنه السن . فإذا استكمل المولود خمس عشرة سنة قمرية ، فقد بلغ . وفي وجه : يبلغ بالطعن في الخامسة عشرة ، وهو شاذ ضعيف .
السبب الثاني : خروج المني ويدخل وقت إمكانه باستكمال تسع سنين ، ولا عبرة بما ينفصل قبلها ، هذا هو الصحيح المعتمد . وفي وجه : إنما يدخل بمضي نصف السنة العاشرة . وفي وجه : باستكمال العاشرة . ولنا وجه : أن المني لا يكون بلوغا في النساء ؛ لأنه نادر فيهن . وعلى هذا ، قال الإمام : الذي يتجه عندي : أنه لا يلزمها الغسل . وهذا الوجه شاذ ، وفيما قاله الإمام نظر .
السبب الثالث : إنبات العانة يقتضي الحكم بالبلوغ في الكفار . وهل هو حقيقة البلوغ ، أم دليله ؟ قولان . أظهرهما : الثاني . فإن قلنا بالأول ، فهو بلوغ في المسلمين أيضا . وإن قلنا بالثاني ، فالأصح أنه ليس ببلوغ .
قلت : اختلف أصحابنا فيما يفتى به في حق المسلمين ، واختار الإمام الرافعي في " المحرر " أنه لا يكون بلوغا . - والله أعلم - .
[ ص: 179 ] ثم المعتبر شعر خشن يحتاج في إزالته إلى حلق ، فأما الزغب والشعر الضعيف الذي قد يوجد في الصغر ، فلا أثر له . وأما شعر الإبط ، واللحية ، والشارب ، فقيل : كالعانة . وقيل : لا أثر لها قطعا . وألحق صاحب " التهذيب " الإبط بالعانة دون اللحية والشارب .
قلت : ويجوز النظر إلى منبت عانة من احتجنا إلى معرفة بلوغه بها للضرورة ، هذا هو الصحيح . وقيل : تمس من فوق حائل . يلصق بها شمع ونحوه ليعتبر بلصوقه به وكلاهما خطأ ، إذ يحتمل أنه حلقه ، أو نبت شيء يسير . - والله أعلم -
وأما ثقل الصوت ، ونهود الثدي ، ونتوء طرف الحلقوم ، وانفراق الأرنبة ، فلا أثر لها على المذهب . وطرد في " التتمة " فيها الخلاف . وأما ما يختص بالنساء ، فاثنان . أحدهما : الحيض فهو لوقت الإمكان ، بلوغ . والثاني : الحبل ، فإنه مسبوق بالإنزال ، لكن لا نستيقن الولد إلا بالوضع . فإذا وضعت ، حكمنا بحصول البلوغ قبل الوضع بستة أشهر وشيء . فإن كانت مطلقة ، وأتت بولد يلحق الزوج ، حكمنا ببلوغها قبل الطلاق .
فرع
الخنثى المشكل ، إذا خرج من ذكره ما هو بصفة المني ، ومن فرجه ما هو بصفة الحيض ، حكم ببلوغه على الأصح . لأنه ذكر أمنى ، أو أنثى حاضت . والثاني : لا للتعارض . وإن وجد أحد الأمرين فقط ، أو أمنى وحاض بالفرج ، فقطع الجمهور بأنه ليس ببلوغ ، لجواز أن يظهر من الفرج الآخر ما يعارضه . والحق ، ما قاله [ ص: 180 ] الإمام ، أنه ينبغي أن يحكم ببلوغه بأحدهما ، كما يحكم بذكورته وأنوثته . إن ظهر خلافه ، غيرنا الحكم .
قلت : قال صاحب " التتمة " إذا أنزل الخنثى من ذكره أو خرج الدم من فرجه مرة ، لم يحكم ببلوغه . فإن تكرر ، حكم به . وهذا الذي قاله حسن وإن كان غريبا . - والله أعلم - .
فرع
وأما الرشد ، فقد قال - رضي الله عنه - : هو إصلاح الدين والمال ، والمراد بالصلاح في الدين : أن لا يرتكب محرما يسقط العدالة ، وفي المال : أن لا يبذر . فمن التبذير تضييع المال بإلقائه في البحر ، أو احتمال الغبن الفاحش في المعاملات ونحوها ، وكذا الإنفاق في المحرمات . وأما الصرف في الأطعمة النفيسة التي لا تليق بحاله ، فقال الإمام ، الشافعي : هو تبذير . وقال الأكثرون : لا ؛ لأن المال يتخذ لينتفع فيه ويلتذ . وكذا القول في التجمل بالثياب الفاخرة ، والإكثار من شراء الجواري ، والاستمتاع بهن ، وما أشبه ذلك . وأما الصرف إلى وجوه الخير ، كالصدقات ، وفك الرقاب ، وبناء المساجد والمدارس ، وشبه ذلك ، فليس بتبذير ، فلا سرف في الخير ، كما لا خير في السرف وقال الشيخ أبو محمد : إن بلغ الصبي وهو مفرط بالإنفاق في هذه الوجوه ، فهو مبذر . وإن عرض ذلك بعد بلوغه مقتصدا ، لم يصر مبذرا ، والمعروف للأصحاب ما سبق . وبالجملة التبذير على ما نقله معظم الأصحاب محصور في التضييعات وصرفه في المحرمات . والغزالي
[ ص: 181 ] فرع
لا بد من اختبار الصبي ليعرف حاله في الرشد وعدمه . ويختلف بطبقات الناس ، فولد التاجر يختبر في البيع والشراء والمماكسة فيهما ، وولد الزارع في أمر الزراعة والإنفاق على القوام بها ، والمحترف فيما يتعلق بحرفته ، والمرأة في أمر القطن والغزل وحفظ الأقمشة وصون الأطعمة عن الهرة والفأرة وشبهها من مصالح البيت . ولا تكفي المرة الواحدة في الاختبار ، بل لا بد من مرتين فأكثر بحيث يفيد غلبة الظن برشده . وفي وقت الاختبار . وجهان . أحدهما : بعد البلوغ . وأصحهما : قبله . وعلى هذا في كيفيته وجهان . أصحهما : يدفع إليه قدر من المال ، ويمتحن في المماكسة والمساومة . فإذا آن الأمر إلى العقد ، عقد الولي . والثاني : يعقد الصبي ويصح منه هذا العقد للحاجة . ولو تلف في يده المال المدفوع إليه للاختبار ، فلا ضمان على الولي .
قلت : والصبي الكافر كالمسلم في هذا الباب ، فيعتبر في صلاح دينه وماله ما هو صلاح عندهم ، صرح به القاضي أبو الطيب وغيره . - والله أعلم - .