الفصل الثاني
في الجدار
الجدار بين المالكين قسمان .
[ ص: 212 ] الأول : المختص . قولان . القديم : نعم . ويجبر المالك إن امتنع ، والجديد : لا ، ولا يجبر . فهل للجار وضع الجذوع عليه بغير إذن مالكه ؟
قلت : الأظهر : هو الجديد . وممن نص على تصحيحه ، صاحب " المهذب " ، والجرجاني ، والشاشي ، وغيرهم ، وقطع به جماعة . - والله أعلم - .
فعلى القديم : إنما يجبر بشروط .
أحدها : أن لا يحتاج مالك الجدار إلى وضع جذوع عليه .
والثاني : أن لا يزيد الجار في ارتفاع الجدار ، ولا يبني عليه أزجا ، ولا يضع عليه ما يضر الجدار .
والثالث : أن لا يملك شيئا من جدران البقعة التي يريد تسقيفها ، أو لا يملك إلا جدارا ، فإن ملك جدارين ، فليسقف عليهما ، وليس له إجبار صاحب الجدار ، ولم يعتبر الإمام هذا الشرط هكذا . بل قال : يشترط كون الجوانب الثلاثة من البيت لصاحب البيت ، ويحتاج رابعا . فأما إذا كان الكل للغير ، فلا يضع قولا واحدا . قال : ولم يعتبر بعض الأصحاب هذا الشرط ، واعتبر في " التتمة " مثل ما ذكره الإمام ، وحكى الوجهين فيما إذا لم يملك إلا جانبا أو جانبين . والمذهب : ما قدمناه . وإن قلنا بالجديد ، فلا بد من رضى المالك . فإن رضي بلا عوض ، فهو عارية ، يرجع فيها قبل وضع الجذوع والبناء عليها قطعا ، وبعده ، على الأصح كسائر العواري . وإذا رجع ، لا يتمكن من قلعه مجانا . وفي فائدة رجوعه وجهان . أصحهما : أنه يتخير بين أن يبقى بأجره ، وبين أن يقلع ، ويضمن أرش النقص ، كما لو أعار أرضا للبناء . لكن في إعارة الأرض خصلة ثالثة ، وهي تملك البناء بقيمته ، وليس لمالك الجدار ذلك ؛ لأن الأرض أصل ، فجاز أن يستتبع البناء ، والجدار تابع فيستتبع . والثاني : ليس له إلا الأجرة ، ولا يملك القلع أصلا ؛ لأن ضرر القلع يصل إلى ما هو خالص ملك المستعير ، [ ص: 213 ] لأن الجذوع إذا رفعت أطرافها ، لم تستمسك على الجدار الباقي . والوجه الثاني : لا يملك الرجوع أصلا ، ولا يستفيد به القلع ، ولا طلب الأجرة للمستقبل ، وبه قطع العراقيون ؛ لأن مثل هذه الإعارة ، يراد بها التأبيد ، فأشبه الإعارة لدفن ميت ، فإنه لا ينبش ولا أجرة . فعلى هذا ، لو رفع الجذوع صاحبها ، أو سقطت بنفسها ، لم يملك إعادتها بغير إذن جديد على الأصح . وكذا لو سقط الجدار فبناه مالكه بتلك الآلة ؛ لأن الإذن تناول مرة . فإن بناه بغير تلك الآلة ، فلا خلاف أنه لا يعيد إلا بإذن جديد ؛ لأنه جدار آخر .
قلت : الخلاف في جواز الإعادة بلا إذن . فلو منعه المالك ، لم يعد بلا خلاف ، إذ لا ضرر ، كذا صرح به صاحب " التتمة " . وأشار أو صرح بجريان الوجهين في جواز منعه ، فقال في وجه : ليس له منعه لأنه صار له حق لازم ، هذا كله إذا وضع أولا بإذن . فلو ملكا دارين ، ورأيا خشبا على الجدار ، ولا يعلم كيف وضع ، فإذا سقط الحائط ، فليس له منعه ، من إعادة الجذوع بلا خلاف ، كذا صرح به القاضي أبو الطيب وصاحب " المهذب " و " الشامل " وآخرون ، لأنا حكمنا بأنه وضع بحق ، وشككنا في المجوز للرجوع . ولو أراد صاحب الحائط نقضه ، فإن كان مستهدما ، جاز ، وحكم إعادة الجذوع ما سبق . وإن لم يكن مستهدما ، لم يمكن من نقضه قطعا . - والله أعلم - . القاضي أبو الطيب
أما إذا رضي بعوض ، فقد يكون على وجه البيع أو الإجارة ، وسنتكلم فيهما إن شاء الله تعالى . ولو صالحه عنه على المال ، لم يجز على قول الإجبار ؛ لأن من ثبت له حق ، لا يجوز أخذ عوض منه عليه ، وإن قلنا لا ، جاز ، بخلاف الصلح عن الجناح ؛ لأنه هواء مجرد .