المسألة السابعة
فالمشقات التي هي مظان التخفيفات في نظر الناظر على ضربين :
أحدهما :
nindex.php?page=treesubj&link=20656أن تكون حقيقية ، وهو معظم ما وقع فيه الترخص كوجود المشقة المرضية والسفرية ، وشبه ذلك مما له سبب معين واقع .
والثاني :
nindex.php?page=treesubj&link=20656أن تكون توهمية مجردة ، بحيث لم يوجد السبب المرخص [ ص: 512 ] لأجله ، ولا وجدت حكمته ، وهي المشقة ، وإن وجد منها شيء ، لكن غير خارج عن مجاري العادات .
فأما الضرب الأول ; فإما أن يكون بقاؤه على العزيمة يدخل عليه فسادا لا يطيقه طبعا أو شرعا ، ويكون ذلك محققا لا مظنونا ولا متوهما أو لا ; فإن كان الأول ; فرجوعه إلى الرخصة مطلوب ، ورجع إلى القسم الذي لم يقع الكلام فيه ; لأن الرخصة هنا حق لله ، وإن كان الثاني ـ وهو أن يكون مظنونا ـ ; فالظنون تختلف ، والأصل البقاء على أصل العزيمة ، ومتى قوي الظن ضعف مقتضى العزيمة ، ومتى ضعف الظن قوي ; كالظان أنه غير قادر على الصوم مع وجود المرض الذي مثله يفطر فيه ، ولكن إما أن يكون ذلك الظن مستندا إلى سبب معين ، وهو أنه دخل في الصوم مثلا فلم يطق الإتمام أو الصلاة مثلا فلم يقدر على القيام فقعد فهذا هو الأول ; إذ ليس عليه ما لا يقدر عليه ، وإما
[ ص: 513 ] أن يكون مستندا إلى سبب مأخوذ من الكثرة ، والسبب موجود عينا بمعنى أن المرض حاضر ، ومثله لا يقدر معه على الصيام ، ولا على الصلاة قائما أو على استعمال الماء عادة من غير أن يجرب نفسه في شيء من ذلك ، فهذا قد يلحق بما قبله ، ولا يقوى قوته ، أما لحوقه به فمن جهة وجود السبب ، وأما مفارقته له فمن جهة أن عدم القدرة لم يوجد عنده ; لأنه إنما يظهر عند التلبس بالعبادة ، وهو لم يتلبس بها على الوجه المطلوب في العزيمة حتى يتبين له قدرته عليها وعدم قدرته ; فيكون الأولى هنا الأخذ بالعزيمة إلى أن يظهر بعد ما يبتنى عليه .
وأما الضرب الثاني ، وهو أن تكون توهمية ، بحيث لم يوجد السبب ولا الحكمة ، فلا يخلو أن يكون للسبب عادة مطردة في أنه يوجد بعد أو لا ، فإن كان الأول ; فلا يخلو أن يوجد أو لا ; فإن وجد فوقعت الرخصة موقعها ففيه خلاف ، أعني في إجزاء العمل بالرخصة لا في جواز الإقدام ابتداء ; إذ لا يصح أن يبنى حكم على سبب لم يوجد بعد ، بل لا يصح البناء على سبب لم يوجد شرطه ، وإن وجد السبب ، وهو المقتضي للحكم ; فكيف إذا لم يوجد نفس السبب ، وإنما الكلام في نحو الظان أنه تأتيه الحمى غدا بناء على عادته في أدوارها فيفطر قبل مجيئها ، وكذلك الطاهر إذا بنت على الفطر ظنا أن حيضتها ستأتي ذلك اليوم ، وهذا كله أمر ضعيف جدا ، وقد استدل بعض العلماء على
[ ص: 514 ] صحة هذا الاعتبار في إسقاط الكفارة عنها بقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=68لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم [ الأنفال : 68 ] .
فإن هذا إسقاط للعقوبة للعلم بأن الغنائم ستباح لهم ، وهذا غير ما نحن فيه ; لأن كلامنا فيما يترتب على المكلف من الأحكام الشرعية ، وترتب العذاب هنا ليس براجع إلى ترتب شرعي ، بل هو أمر إلهي كسائر العقوبات اللاحقة للإنسان من الله تعالى بسبب ذنوبه من قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=30وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم [ الشورى : 30 ] .
وأما إن لم يكن للسبب عادة مطردة فلا إشكال هنا .
والحاصل من هذا التقسيم أن الظنون والتقديرات غير المحققة راجعة إلى قسم التوهمات ، وهي مختلفة ، وكذلك أهواء النفوس ; فإنها تقدر أشياء لا حقيقة لها ، فالصواب الوقوف مع أصل العزيمة إلا في المشقة المخلة الفادحة ; فإن الصبر أولى ما لم يؤد ذلك إلى دخل في عقل الإنسان أو دينه ، وحقيقة ذلك أن لا يقدر على الصبر ; لأنه لا يؤمر بالصبر إلا من يطيقه ، فأنت ترى بالاستقراء أن المشقة الفادحة لا يلحق بها توهمها ، بل حكمها أضعف ، بناء على أن التوهم غير صادق في كثير من الأحوال ، فإذا ليست المشقة بحقيقية ، والمشقة الحقيقية هي العلة الموضوعة للرخصة ، فإذا لم توجد كان الحكم غير لازم إلا إذا قامت المظنة ـ وهي السبب ـ مقام الحكمة ; فحينئذ يكون
[ ص: 515 ] السبب منتهضا على الجواز لا على اللزوم ; لأن المظنة لا تستلزم الحكمة التي هي العلة على كمالها ، فالأحرى البقاء مع الأصل ، وأيضا ; فالمشقة التوهمية راجعة إلى الاحتياط على المشقة الحقيقية ، والحقيقية ليست في الوقوع على وزان واحد ، فلم يكن بناء الحكم عليها متمكنا .
وأما الراجعة إلى أهواء النفوس خصوصا ; فإنها ضد الأولى ; إذ قد تقرر أن قصد الشارع من وضع الشرائع إخراج النفوس عن أهوائها وعوائدها ، فلا تعتبر في شرعية الرخصة بالنسبة إلى كل من هويت نفسه أمرا ، ألا ترى كيف ذم الله تعالى من اعتذر بما يتعلق بأهواء النفوس ليترخص ؟ كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=49ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني الآية [ التوبة : 49 ] ; لأن
الجد بن قيس قال : ائذن لي في التخلف عن الغزو ، ولا تفتني ببنات الأصفر ; فإني لا أقدر على الصبر عنهن ، وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=81وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا الآية [ التوبة : 81 ] ، ثم بين العذر الصحيح في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=91ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله الآيات [ التوبة : 91 ] ; فبين أهل الأعذار هنا وهم الذين لا يطيقون الجهاد ، وهم الزمنى ، والصبيان ، والشيوخ ، والمجانين ، والعميان ، ونحوهم ، وكذلك من لم يجد نفقة أصلا ، ولا وجد من يحمله ، وقال فيه :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=91إذا نصحوا لله ورسوله ، ومن جملة النصيحة لله ورسوله أن لا يبقوا من أنفسهم بقية في طاعة الله ، ألا ترى إلى قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=41انفروا خفافا وثقالا [ التوبة : 41 ] ، وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=39إلا تنفروا يعذبكم الآية [ التوبة : 39 ] ; فما ظنك بمن كان
[ ص: 516 ] عذره هوى نفسه ؟ !
نعم ، وضع الشريعة على أن تكون أهواء النفوس تابعة لمقصود الشارع فيها ، وقد وسع الله تعالى على العباد في شهواتهم ، وأحوالهم ، وتنعماتهم على وجه لا يفضي إلى مفسدة ، ولا يحصل بها المكلف على مشقة ، ولا ينقطع بها عنه التمتع إذا أخذه على الوجه المحدود له ; فلذلك شرع له ابتداء رخصة السلم ، والقراض ، والمساقاة ، وغير ذلك مما هو توسعة عليه ، وإن كان فيه مانع في قاعدة أخرى ، وأحل له من متاع الدنيا أشياء كثيرة ، فمتى جمحت نفسه إلى هوى قد جعل الشرع له منه مخرجا ، وإليه سبيلا ، فلم يأته من بابه ; كان هذا هوى شيطانيا واجبا عليه الانفكاك عنه ; كالمولع بمعصية من المعاصي فلا رخصة له ألبتة ; لأن الرخصة هنا هي عين مخالفة الشرع بخلاف الرخص المتقدمة ; فإن لها في الشرع موافقة إذا وزنت بميزانها .
فقد تبين من هذا أن مشقة مخالفة الهوى لا رخصة فيها ألبتة ، والمشقة الحقيقية فيها الرخصة بشرطها ، وإذا لم يوجد شرطها ، فالأحرى بمن يريد براءة ذمته وخلاص نفسه الرجوع إلى أصل العزيمة ، إلا أن هذه الأحروية تارة تكون من باب الندب ، وتارة تكون من باب الوجوب ، والله أعلم .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ
فَالْمَشَقَّاتُ الَّتِي هِيَ مَظَانُّ التَّخْفِيفَاتِ فِي نَظَرِ النَّاظِرِ عَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا :
nindex.php?page=treesubj&link=20656أَنْ تَكُونَ حَقِيقِيَّةً ، وَهُوَ مُعْظَمُ مَا وَقَعَ فِيهِ التَّرَخُّصُ كَوُجُودِ الْمَشَقَّةِ الْمَرَضِيَّةِ وَالسَّفَرِيَّةِ ، وَشِبْهِ ذَلِكَ مِمَّا لَهُ سَبَبٌ مُعَيَّنٌ وَاقِعٌ .
وَالثَّانِي :
nindex.php?page=treesubj&link=20656أَنْ تَكُونَ تَوَهُّمِيَّةً مُجَرَّدَةً ، بِحَيْثُ لَمْ يُوجَدِ السَّبَبُ الْمُرَخَّصُ [ ص: 512 ] لِأَجْلِهِ ، وَلَا وُجِدَتْ حِكْمَتُهُ ، وَهِيَ الْمَشَقَّةُ ، وَإِنْ وُجِدَ مِنْهَا شَيْءٌ ، لَكِنْ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ مَجَارِي الْعَادَاتِ .
فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ ; فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَقَاؤُهُ عَلَى الْعَزِيمَةِ يُدْخِلُ عَلَيْهِ فَسَادًا لَا يُطِيقُهُ طَبْعًا أَوْ شَرْعًا ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مُحَقَّقًا لَا مَظْنُونًا وَلَا مُتَوَهَّمًا أَوْ لَا ; فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ ; فَرُجُوعُهُ إِلَى الرُّخْصَةِ مَطْلُوبٌ ، وَرَجَعَ إِلَى الْقِسْمِ الَّذِي لَمْ يَقَعِ الْكَلَامُ فِيهِ ; لِأَنَّ الرُّخْصَةَ هُنَا حَقٌّ لِلَّهِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي ـ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَظْنُونًا ـ ; فَالظُّنُونُ تَخْتَلِفُ ، وَالْأَصْلُ الْبَقَاءُ عَلَى أَصْلِ الْعَزِيمَةِ ، وَمَتَى قَوِيَ الظَّنُّ ضَعُفَ مُقْتَضَى الْعَزِيمَةِ ، وَمَتَى ضَعُفَ الظَّنُّ قَوِيَ ; كَالظَّانِّ أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الصَّوْمِ مَعَ وُجُودِ الْمَرَضِ الَّذِي مِثْلُهُ يُفْطِرُ فِيهِ ، وَلَكِنْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الظَّنُّ مُسْتَنِدًا إِلَى سَبَبٍ مُعَيَّنٍ ، وَهُوَ أَنَّهُ دَخَلَ فِي الصَّوْمِ مَثَلًا فَلَمْ يُطِقِ الْإِتْمَامَ أَوِ الصَّلَاةِ مَثَلًا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ فَقَعَدَ فَهَذَا هُوَ الْأَوَّلُ ; إِذْ لَيْسَ عَلَيْهِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَإِمَّا
[ ص: 513 ] أَنْ يَكُونَ مُسْتَنِدًا إِلَى سَبَبٍ مَأْخُوذٍ مِنَ الْكَثْرَةِ ، وَالسَّبَبُ مَوْجُودٌ عَيْنًا بِمَعْنَى أَنَّ الْمَرَضَ حَاضِرٌ ، وَمِثْلُهُ لَا يَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى الصِّيَامِ ، وَلَا عَلَى الصَّلَاةِ قَائِمًا أَوْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ عَادَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجَرِّبَ نَفْسَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، فَهَذَا قَدْ يَلْحَقُ بِمَا قَبْلَهُ ، وَلَا يَقْوَى قُوَّتَهُ ، أَمَّا لُحُوقُهُ بِهِ فَمِنْ جِهَةِ وُجُودِ السَّبَبِ ، وَأَمَّا مُفَارَقَتُهُ لَهُ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ عَدَمَ الْقُدْرَةِ لَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ التَّلَبُّسِ بِالْعِبَادَةِ ، وَهُوَ لَمْ يَتَلَبَّسْ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ فِي الْعَزِيمَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ قُدْرَتُهُ عَلَيْهَا وَعَدَمُ قُدْرَتِهِ ; فَيَكُونُ الْأَوْلَى هُنَا الْأَخْذَ بِالْعَزِيمَةِ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ بَعْدَ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ تَوَهُّمِيَّةً ، بِحَيْثُ لَمْ يُوجَدِ السَّبَبُ وَلَا الْحِكْمَةُ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لِلسَّبَبِ عَادَةٌ مُطَّرِدَةٌ فِي أَنَّهُ يُوجَدُ بَعْدُ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ ; فَلَا يَخْلُو أَنْ يُوجَدَ أَوْ لَا ; فَإِنْ وُجِدَ فَوَقَعَتِ الرُّخْصَةُ مَوْقِعَهَا فَفِيهِ خِلَافٌ ، أَعْنِي فِي إِجْزَاءِ الْعَمَلِ بِالرُّخْصَةِ لَا فِي جَوَازِ الْإِقْدَامِ ابْتِدَاءً ; إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُبْنَى حُكْمٌ عَلَى سَبَبٍ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ ، بَلْ لَا يَصِحُّ الْبِنَاءُ عَلَى سَبَبٍ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُهُ ، وَإِنْ وُجِدَ السَّبَبُ ، وَهُوَ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ ; فَكَيْفَ إِذَا لَمْ يُوجَدْ نَفْسُ السَّبَبِ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي نَحْوِ الظَّانِّ أَنَّهُ تَأْتِيهِ الْحُمَّى غَدًا بِنَاءً عَلَى عَادَتِهِ فِي أَدْوَارِهَا فَيُفْطِرُ قَبْلَ مَجِيئِهَا ، وَكَذَلِكَ الطَّاهِرُ إِذَا بَنَتْ عَلَى الْفِطْرِ ظَنًّا أَنَّ حَيْضَتَهَا سَتَأْتِي ذَلِكَ الْيَوْمَ ، وَهَذَا كُلُّهُ أَمْرٌ ضَعِيفٌ جِدًّا ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى
[ ص: 514 ] صِحَّةِ هَذَا الِاعْتِبَارِ فِي إِسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ عَنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=68لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [ الْأَنْفَالِ : 68 ] .
فَإِنَّ هَذَا إِسْقَاطٌ لِلْعُقُوبَةِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْغَنَائِمَ سَتُبَاحُ لَهُمْ ، وَهَذَا غَيْرُ مَا نَحْنُ فِيهِ ; لِأَنَّ كَلَامَنَا فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَتَرَتُّبُ الْعَذَابِ هُنَا لَيْسَ بِرَاجِعٍ إِلَى تَرَتُّبٍ شَرْعِيٍّ ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ إِلَهِيٌّ كَسَائِرِ الْعُقُوبَاتِ اللَّاحِقَةِ لِلْإِنْسَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ ذُنُوبِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=30وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [ الشُّورَى : 30 ] .
وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلسَّبَبِ عَادَةٌ مُطَّرِدَةٌ فَلَا إِشْكَالَ هُنَا .
وَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا التَّقْسِيمِ أَنَّ الظُّنُونَ وَالتَّقْدِيرَاتِ غَيْرَ الْمُحَقَّقَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى قِسْمِ التَّوَهُّمَاتِ ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ ، وَكَذَلِكَ أَهْوَاءُ النُّفُوسِ ; فَإِنَّهَا تُقَدِّرُ أَشْيَاءَ لَا حَقِيقَةَ لَهَا ، فَالصَّوَابُ الْوُقُوفُ مَعَ أَصْلِ الْعَزِيمَةِ إِلَّا فِي الْمَشَقَّةِ الْمُخِلَّةِ الْفَادِحَةِ ; فَإِنَّ الصَّبْرَ أَوْلَى مَا لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إِلَى دَخْلٍ فِي عَقْلِ الْإِنْسَانِ أَوْ دِينِهِ ، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى الصَّبْرِ ; لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ بِالصَّبْرِ إِلَّا مَنْ يُطِيقُهُ ، فَأَنْتَ تَرَى بِالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّ الْمَشَقَّةَ الْفَادِحَةَ لَا يَلْحَقُ بِهَا تَوَهُّمُهَا ، بَلْ حُكْمُهَا أَضْعَفُ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّوَهُّمَ غَيْرُ صَادِقٍ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْوَالِ ، فَإِذًا لَيْسَتِ الْمَشَقَّةُ بِحَقِيقِيَّةٍ ، وَالْمَشَقَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ الْعِلَّةُ الْمَوْضُوعَةُ لِلرُّخْصَةِ ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ كَانَ الْحُكْمُ غَيْرَ لَازِمٍ إِلَّا إِذَا قَامَتِ الْمَظِنَّةُ ـ وَهِيَ السَّبَبُ ـ مَقَامَ الْحِكْمَةِ ; فَحِينَئِذٍ يَكُونُ
[ ص: 515 ] السَّبَبُ مُنْتَهِضًا عَلَى الْجَوَازِ لَا عَلَى اللُّزُومِ ; لِأَنَّ الْمَظِنَّةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْحِكْمَةَ الَّتِي هِيَ الْعِلَّةُ عَلَى كَمَالِهَا ، فَالْأَحْرَى الْبَقَاءُ مَعَ الْأَصْلِ ، وَأَيْضًا ; فَالْمَشَقَّةُ التَّوَهُّمِيَّةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الِاحْتِيَاطِ عَلَى الْمَشَقَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ ، وَالْحَقِيقِيَّةُ لَيْسَتْ فِي الْوُقُوعِ عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ ، فَلَمْ يَكُنْ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا مُتَمَكِّنًا .
وَأَمَّا الرَّاجِعَةُ إِلَى أَهْوَاءِ النُّفُوسِ خُصُوصًا ; فَإِنَّهَا ضِدُّ الْأُولَى ; إِذْ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ مِنْ وَضْعِ الشَّرَائِعِ إِخْرَاجُ النُّفُوسِ عَنْ أَهْوَائِهَا وَعَوَائِدِهَا ، فَلَا تُعْتَبَرُ فِي شَرْعِيَّةِ الرُّخْصَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَنْ هَوِيَتْ نَفْسُهُ أَمْرًا ، أَلَا تَرَى كَيْفَ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنِ اعْتَذَرَ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِأَهْوَاءِ النُّفُوسِ لِيَتَرَخَّصَ ؟ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=49وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي الْآيَةَ [ التَّوْبَةِ : 49 ] ; لِأَنَّ
الْجَدَّ بْنَ قَيْسٍ قَالَ : ائْذَنْ لِي فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ ، وَلَا تَفْتِنِّي بِبَنَاتِ الْأَصْفَرِ ; فَإِنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَى الصَّبْرِ عَنْهُنَّ ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=81وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا الْآيَةَ [ التَّوْبَةِ : 81 ] ، ثُمَّ بَيَّنَ الْعُذْرَ الصَّحِيحَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=91لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الْآيَاتِ [ التَّوْبَةِ : 91 ] ; فَبَيَّنَ أَهْلَ الْأَعْذَارِ هُنَا وَهُمُ الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَ الْجِهَادَ ، وَهُمُ الزَّمْنَى ، وَالصِّبْيَانُ ، وَالشُّيُوخُ ، وَالْمَجَانِينُ ، وَالْعُمْيَانُ ، وَنَحْوُهُمْ ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَجِدْ نَفَقَةً أَصْلًا ، وَلَا وَجَدَ مَنْ يَحْمِلُهُ ، وَقَالَ فِيهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=91إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَمِنْ جُمْلَةِ النَّصِيحَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ لَا يُبْقُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ بَقِيَّةً فِي طَاعَةِ اللَّهِ ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=41انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا [ التَّوْبَةِ : 41 ] ، وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=39إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ الْآيَةَ [ التَّوْبَةِ : 39 ] ; فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ كَانَ
[ ص: 516 ] عُذْرُهُ هَوَى نَفْسِهِ ؟ !
نَعَمْ ، وَضْعُ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَنْ تَكُونَ أَهْوَاءُ النُّفُوسِ تَابِعَةً لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ فِيهَا ، وَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ فِي شَهَوَاتِهِمْ ، وَأَحْوَالِهِمْ ، وَتَنَعُّمَاتِهِمْ عَلَى وَجْهٍ لَا يُفْضِي إِلَى مَفْسَدَةٍ ، وَلَا يَحْصُلُ بِهَا الْمُكَلَّفُ عَلَى مَشَقَّةٍ ، وَلَا يَنْقَطِعُ بِهَا عَنْهُ التَّمَتُّعُ إِذَا أَخَذَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَحْدُودِ لَهُ ; فَلِذَلِكَ شَرَعَ لَهُ ابْتِدَاءً رُخْصَةَ السَّلَمِ ، وَالْقِرَاضِ ، وَالْمُسَاقَاةِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ تَوْسِعَةٌ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَانِعٌ فِي قَاعِدَةٍ أُخْرَى ، وَأَحَلَّ لَهُ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً ، فَمَتَى جَمَحَتْ نَفْسُهُ إِلَى هَوًى قَدْ جَعَلَ الشَّرْعُ لَهُ مِنْهُ مَخْرَجًا ، وَإِلَيْهِ سَبِيلًا ، فَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ بَابِهِ ; كَانَ هَذَا هَوًى شَيْطَانِيًّا وَاجِبًا عَلَيْهِ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ ; كَالْمُولَعِ بِمَعْصِيَةٍ مِنَ الْمَعَاصِي فَلَا رُخْصَةَ لَهُ أَلْبَتَّةَ ; لِأَنَّ الرُّخْصَةَ هُنَا هِيَ عَيْنُ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ بِخِلَافِ الرُّخَصِ الْمُتَقَدِّمَةِ ; فَإِنَّ لَهَا فِي الشَّرْعِ مُوَافِقَةً إِذَا وُزِنَتْ بِمِيزَانِهَا .
فَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَشَقَّةَ مُخَالَفَةِ الْهَوَى لَا رُخْصَةَ فِيهَا أَلْبَتَّةَ ، وَالْمَشَقَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ فِيهَا الرُّخْصَةُ بِشَرْطِهَا ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ شَرْطُهَا ، فَالْأَحْرَى بِمَنْ يُرِيدُ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ وَخَلَاصَ نَفْسِهِ الرُّجُوعُ إِلَى أَصْلِ الْعَزِيمَةِ ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْأَحْرَوِيَّةَ تَارَةً تَكُونُ مِنْ بَابِ النَّدْبِ ، وَتَارَةً تَكُونُ مِنْ بَابِ الْوُجُوبِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .