المسألة الثامنة
، فقصد الشارع بذلك المخرج أن يتحراه المكلف إن شاء ; كما جاء في الرخص شرعية المخرج من المشاق ، فإذا توخى المكلف الخروج من ذلك على الوجه الذي شرع له ; كان ممتثلا لأمر الشارع آخذا بالحزم في أمره ، وإن لم يفعل ذلك ; وقع في [ ص: 532 ] محظورين : أحدهما : مخالفته لقصد الشارع ، كانت تلك المخالفة في واجب أو مندوب أو مباح . كل أمر شاق جعل الشارع فيه للمكلف مخرجا
والثاني : سد أبواب التيسير عليه ، وفقد المخرج عن ذلك الأمر الشاق ، الذي طلب الخروج عنه بما لم يشرع له ، وبيان ذلك من أوجه : أحدها : إن الشارع لما تقرر أنه جاء بالشريعة لمصالح العباد ، وكانت الأمور المشروعة ابتداء قد يعوق عنها عوائق من الأمراض والمشاق الخارجة عن المعتاد ، شرع له أيضا توابع وتكميلات ومخارج بها ينزاح عن المكلف تلك المشقات حتى يصير التكليف بالنسبة إليه عاديا ومتيسرا ، ولولا أنها كذلك ; لم يكن في شرعها زيادة على الأمور الابتدائية ، ومن نظر في التكليفات أدرك هذا بأيسر تأمل ، فإذا كان كذلك ; فالمكلف في طلب التخفيف مأمور أن يطلبه من وجهه المشروع ; لأن ما يطلب من التخفيف حاصل فيه حالا ومآلا على القطع في الجملة ; فلو طلب ذلك من غير هذا الطريق ; لم يكن ما طلب من التخفيف مقطوعا به ولا مظنونا لا حالا ولا مآلا لا على الجملة ولا على التفصيل ; إذ لو كان كذلك ; لكان مشروعا أيضا ، والفرض أنه ليس بمشروع ; فثبت أن طالب التخفيف من غير طريق الشرع لا مخرج له .
والثاني : إن هذا الطالب إذا طلب التخفيف من الوجه المشروع ; فيكفيه في حصول التخفيف طلبه من وجهه ، والقصد إلى ذلك يمن وبركة كما أن من طلبه من غير وجهه المشروع يكفيه في عدم حصول مقصوده شؤم قصده ، ويدل على هذا من الكتاب قوله تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب [ الطلاق : 2 - 3 ] ، ومفهوم الشرط أن من لا يتقي الله لا يجعل له مخرجا .
[ ص: 533 ] خرج عن إسماعيل القاضي ; قال سالم بن أبي الجعد جاء رجل من أشجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم ـ فذكر الجهد فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اذهب فاصبر ، وكان ابنه أسيرا في أيدي المشركين فأفلت من أيديهم فأتاه بغنيمة فأتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبره ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم ـ طيبة فنزلت الآية ، ومن يتق الله الآية [ الطلاق : 2 ] .
وعن ; أنه جاءه رجل فقال له : إن عمي طلق امرأته ثلاثا فقال : " إن عمك عصى الله ; فأندمه ، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا " فقال : أرأيت إن أحلها له رجل فقال : " من يخادع يخدعه الله " . ابن عباس
وعن في قوله : الربيع بن خثيم ومن يتق الله يجعل له مخرجا [ الطلاق : 2 ] ، قال : " من كل شيء ضاق على الناس " .
[ ص: 534 ] وعن : من يتق الله ; ينجه من كل كرب في الدنيا والآخرة . وقيل : من يتق الله والمعصية يجعل له مخرجا إلى الحلال . ابن عباس
وخرج عن الطحاوي أبي موسى ; قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم : رجل أعطى ماله سفيها ، وقد قال الله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم [ النساء : 5 ] ، ورجل داين بدين ولم يشهد ، ورجل له امرأة سيئة الخلق فلا يطلقها ، ومعنى هذا أن الله لما أمر بالإشهاد على البيع ، وأن [ ص: 535 ] لا نؤتي السفهاء أموالنا حفظا لها ، وعلمنا أن الطلاق شرع عند الحاجة إليه ; كان التارك لما أرشده الله إليه قد يقع فيما يكره ، ولم يجب دعاؤه لأنه لم يأت الأمر من بابه .
والآثار في هذا كثيرة تدل بظواهرها ومفهوماتها على هذا المعنى ، وقد روي عن ; أنه سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثا ; فتلا : ابن عباس إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن حتى بلغ : يجعل له مخرجا [ الطلاق : 1 - 2 ] ، وأنت لم تتق الله ، لم أجد لك مخرجا .
وخرج مالك في البلاغات في هذا المعنى أن رجلا أتى إلى ; فقال : إني طلقت امرأتي ثمان تطليقات . فقال عبد الله بن مسعود : فماذا قيل لك ؟ قال : قيل لي إنها قد بانت مني . فقال ابن مسعود : صدقوا ، من طلق كما أمره الله ; فقد بين الله له ، ومن لبس على نفسه لبسا جعلنا لبسه به ، لا تلبسوا على أنفسكم ، ونتحمله عنكم ، هو كما تقولون . ابن مسعود
[ ص: 536 ] وتأمل حكاية حين أراد أن يدعو الله أن يرفع عنه شهوة النساء ، ثم تذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم ـ لم يفعل ذلك فأمسك عنه ; فرفع عنه ذلك حتى كان لا يفرق بين المرأة والحجر . أبي يزيد البسطامي
والثالث : أن طالب المخرج من وجهه طالب لما ضمن له الشارع النجح فيه ، وطالبه من غير وجهه قاصد لتعدي طريق المخرج ; فكان قاصدا لضد ما طلب من حيث صد عن سبيله ، ولا يتأتى من قبل ضد المقصود إلا ضد المقصود ; فهو إذا طالب لعدم المخرج ، وهذا مقتضى ما دلت عليه الآيات المذكور فيها الاستهزاء والمكر والخداع ; كقوله : ومكروا ومكر الله [ آل عمران : 54 ] .
[ ص: 537 ] وقوله : الله يستهزئ بهم [ البقرة : 15 ] .
وقوله : يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون [ البقرة : 9 ] .
ومنه قوله تعالى : ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه [ الطلاق : 1 ] .
وقوله : فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما [ الفتح : 10 ] .
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها [ فصلت : 46 ] .
إلى سوى ذلك مما في هذا المعنى ، وجميعه محقق كما تقدم ، من أن المتعدي على طريق المصلحة المشروع ساع في ضد تلك المصلحة ، وهو المطلوب .
والرابع : إن المصالح التي تقوم بها أحوال العبد لا يعرفها حق معرفتها إلا خالقها وواضعها ، وليس للعبد بها علم إلا من بعض الوجوه ، والذي يخفى عليه منها أكثر من الذي يبدو له ، فقد يكون ساعيا في مصلحة نفسه من وجه لا يوصله إليها أو يوصله إليها عاجلا لا آجلا أو يوصله إليها ناقصة لا كاملة أو يكون فيها مفسدة تربي في الموازنة على المصلحة ; فلا يقوم خيرها بشرها ، وكم من مدبر أمرا لا يتم له على كماله أصلا ، ولا يجني منه ثمرة أصلا ، وهو معلوم مشاهد بين العقلاء ، فلهذا بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، فإذا كان كذلك ; [ ص: 538 ] فالرجوع إلى الوجه الذي وضعه الشارع رجوع إلى وجه حصول المصلحة ، والتخفيف على الكمال بخلاف الرجوع إلى ما خالفه ، وهذه المسألة بالجملة فرع من فروع موافقة قصد الشارع أو مخالفته ، ولكن سيق لتعلقه بالموضع في طلب الترخص من وجه لم يؤذن فيه أو طلبه في غير موضعه ; فإن من الأحكام الثابتة عزيمة ما لا تخفيف فيه ولا ترخيص ، وقد تقدم منه في أثناء الكتاب في هذا النوع مسائل كثيرة ، ومنها ما فيه ترخيص ، وكل موضع له ترخيص يختص به لا يتعدى .
وأيضا ; فمن الأحوال اللاحقة للعبد ما يعده مشقة ، ولا يكون في الشرع كذلك ; فربما ترخص بغير سبب شرعي ، ولهذا الأصل فوائد كثيرة في الفقهيات كقاعدة المعاملة بنقيض المقصود ، وغيرها من مسائل الحيل ، وما كان نحوها .