[ ص: 91 ] المسألة الثانية عشرة  
إن هذه  الشريعة المباركة معصومة كما أن صاحبها معصوم ، وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة      .  
ويتبين ذلك بوجهين :  
أحدهما : الأدلة الدالة على ذلك تصريحا وتلويحا; كقوله تعالى :  
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون      [ الحجر : 9 ] .  
وقوله :  كتاب أحكمت آياته      [ هود : 1 ] .  
وقد قال تعالى :  وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته      [ الحج : 52 ] ; فأخبر أنه يحفظ آياته ويحكمها حتى لا يخالطها غيرها ولا يداخلها التغيير ولا التبديل ، والسنة وإن لم تذكر ، فإنها مبينة له ودائرة حوله ، فهي منه وإليه ترجع في معانيها ، فكل واحد من الكتاب والسنة يعضد بعضه بعضا ، ويشد بعضه بعضا ، وقال تعالى :  اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا      [ المائدة : 3 ] .  
حكى   أبو عمرو الداني  في " طبقات القراء " له عن  أبي الحسن بن المنتاب;  قال :  
كنت يوما عند  القاضي أبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق  ، فقيل له : لم      [ ص: 92 ] جاز التبديل على أهل التوراة ولم يجز على أهل القرآن ؟ فقال القاضي : قال الله عز وجل في أهل التوراة :  بما استحفظوا من كتاب الله      [ المائدة : 44 ] فوكل الحفظ إليهم; فجاز التبديل عليهم ، وقال في القرآن :  إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون      [ الحجر : 9 ] ; فلم يجز التبديل عليهم ، قال علي : فمضيت إلى  أبي عبد الله المحاملي  ، فذكرت له الحكاية ، فقال : ما سمعت كلاما أحسن من هذا .  
وأيضا ما جاء من حوادث الشهب أمام بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومنع الشياطين من استراق السمع لما كانوا يزيدون فيما سمعوا من أخبار السماء ، حيث كانوا يسمعون الكلمة فيزيدون معها مائة كذبة أو أكثر ، فإذا كانوا قد منعوا من ذلك في السماء ، فكذلك في الأرض ، وقد عجزت الفصحاء اللسن عن الإتيان بسورة      [ ص: 93 ] من مثله وهو كله من جملة الحفظ ، والحفظ دائم إلى أن تقوم الساعة ، فهذه الجملة تدلك على حفظ الشريعة وعصمتها عن التغيير والتبديل .  
والثاني : الاعتبار الوجودي الواقع من زمن رسول الله إلى الآن ، وذلك أن الله عز وجل وفر دواعي الأمة للذب عن الشريعة ، والمناضلة عنها ، بحسب الجملة والتفصيل .  
أما القرآن الكريم ، فقد قيض الله له حفظة; بحيث لو زيد فيه حرف واحد ، لأخرجه آلاف من الأطفال الأصاغر ، فضلا عن القراء الأكابر .  
وهكذا جرى الأمر في جملة الشريعة ، فقيض الله لكل علم رجالا حفظه على أيديهم .  
فكان منهم قوم يذهبون الأيام الكثيرة في حفظ اللغات والتسميات الموضوعة على لسان العرب ، حتى قرروا لغات الشريعة من القرآن والحديث - وهو الباب الأول من أبواب فقه الشريعة ، إذ أوحاها الله إلى رسوله على لسان العرب - .  
ثم قيض رجالا يبحثون عن تصاريف هذه اللغات في النطق فيها رفعا ونصبا ، وجرا وجزما ، وتقديما وتأخيرا ، وإبدالا وقلبا ، وإتباعا وقطعا ، وإفرادا وجمعا ، إلى غير ذلك من وجوه تصاريفها في الإفراد والتركيب ، واستنبطوا لذلك قواعد ضبطوا بها قوانين الكلام العربي على حسب الإمكان ، فسهل الله بذلك      [ ص: 94 ] الفهم عنه في كتابه ، وعن رسوله في خطابه .  
ثم قيض الحق سبحانه رجالا يبحثون عن الصحيح من حديث رسول الله ، وعن أهل الثقة والعدالة من النقلة ، حتى ميزوا بين الصحيح والسقيم ، وتعرفوا التواريخ ، وصحة الدعاوى في الأخذ لفلان عن فلان حتى استقر الثابت المعمول به من أحاديث رسول الله .  
وكذلك جعل الله العظيم لبيان السنة عن البدعة ناسا من عبيده بحثوا عن أغراض الشريعة كتابا وسنة ، وعما كان عليه السلف الصالحون ، وداوم عليه الصحابة والتابعون ، وردوا على أهل البدع والأهواء ، حتى تميز أتباع الحق عن أتباع الهوى .  
وبعث الله تعالى من عباده قراء أخذوا كتابه تلقيا من الصحابة ، وعلموه لمن يأتي بعدهم حرصا على موافقة الجماعة في تأليفه في المصاحف ، حتى يتوافق الجميع على شيء واحد ، ولا يقع في القرآن اختلاف من أحد من الناس .  
ثم قيض الله تعالى ناسا يناضلون عن دينه ، ويدفعون الشبه ببراهينه ، فنظروا في ملكوت السماوات والأرض ، واستعملوا الأفكار ، وأذهبوا عن أنفسهم ما يشغلهم عن ذلك ليلا ونهارا ، واتخذوا الخلوة أنيسا ، وفازوا بربهم جليسا ، حتى نظروا إلى عجائب صنع الله في سماواته وأرضه ، وهم العارفون من خلقه والواقفون مع أداء حقه ، فإن عارض دين الإسلام معارض ، أو جادل فيه خصم      [ ص: 95 ] مناقض ، غبروا في وجه شبهاته بالأدلة القاطعة ، فهم جند الإسلام وحماة الدين .  
وبعث الله من هؤلاء سادة فهموا عن الله وعن رسول الله ، فاستنبطوا أحكاما فهموا معانيها من أغراض الشريعة في الكتاب والسنة ، تارة من نفس القول ، وتارة من معناه ، وتارة من علة الحكم ، حتى نزلوا الوقائع التي لم تذكر على ما ذكر ، وسهلوا لمن جاء بعدهم طريق ذلك ، وهكذا جرى الأمر في كل علم توقف فهم الشريعة عليه أو احتيج في إيضاحها إليه .  
وهو عين الحفظ الذي تضمنته الأدلة المنقولة ، وبالله التوفيق .  
				
						
						
