[ ص: 279 ] المسألة الثانية عشرة  
الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل   ، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه ، الداخل تحت كسب العبد من غير مشقة عليه ولا انحلال ، بل هو تكليف جار على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال ; كتكاليف الصلاة ، والصيام ، والحج ، والجهاد ، والزكاة ، وغير ذلك مما شرع ابتداء على غير سبب ظاهر اقتضى ذلك ، أو لسبب يرجع إلى عدم العلم بطريق العمل ; كقوله تعالى :  ويسألونك ماذا ينفقون      [ البقرة : 215 ] .  
يسألونك عن الخمر والميسر      [ البقرة : 219 ] .  
وأشباه ذلك .  
فإن كان التشريع لأجل انحراف المكلف ، أو وجود مظنة انحرافه عن الوسط إلى أحد الطرفين ; كان التشريع رادا إلى الوسط الأعدل ، لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب الآخر ليحصل الاعتدال فيه ، فعلى الطبيب الرفيق [ أن ] يحمل المريض على ما فيه صلاحه بحسب حاله وعادته ، وقوة مرضه وضعفه ، حتى إذا استقلت صحته هيأ له طريقا في التدبير وسطا لائقا به في جميع أحواله .  
أو لا ترى أن الله تعالى خاطب الناس في ابتداء التكليف خطاب      [ ص: 280 ] التعريف بما أنعم عليهم من الطيبات والمصالح التي بثها في هذا الوجود لأجلهم ، ولحصول منافعهم ومرافقهم التي يقوم بها عيشهم ، وتكمل بها تصرفاتهم ; كقوله تعالى :  الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم      [ البقرة : 22 ] .  
وقوله :  الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره   إلى قوله :  وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها      [ إبراهيم : 32 - 34 ] .  
وقوله :  هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون      [ النحل : 10 ] .  
إلى آخر ما عد لهم من النعم ، ثم وعدوا على ذلك بالنعيم إن آمنوا ، وبالعذاب إن تمادوا على ما هم عليه من الكفر ، فلما عاندوا وقابلوا النعم بالكفران ، وشكوا في صدق ما قيل لهم ; أقيمت عليهم البراهين القاطعة بصدق ما قيل لهم وصحته ، فلما لم يلتفتوا إليها لرغبتهم في العاجلة ; أخبروا      [ ص: 281 ] بحقيقتها ، وأنها في الحقيقة كلا شيء ; لأنها زائلة فانية .  
وضربت لهم الأمثال في ذلك ; كقوله تعالى :  إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء      [ يونس : 24 ] الآية .  
وقوله :  أنما الحياة الدنيا لعب ولهو      [ الحديد : 20 ] [ إلى آخر الآية ]  
وقوله :  وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور      [ الحديد : 20 ] وقوله  وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون      [ العنكبوت : 64 ] .  
بل لما آمن الناس وظهر من بعضهم ما يقتضي الرغبة ربما أمالته عن الاعتدال في طلبها أو نظرا إلى هذا المعنى ; فقال عليه الصلاة والسلام :  إن مما أخاف عليكم ما يفتح لكم من زهرات الدنيا     .  
ولما لم يظهر ذلك ولا مظنته ; قال تعالى :  قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة      [ الأعراف : 32 ] .  
وقال :  يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا      [ المؤمنون : 51 ] .  
 [ ص: 282 ] ووقع لأهل الإسلام  النهي عن الظلم   ، والوعيد فيه والتشديد ، وقال تعالى :  الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم      [ فشق ذلك عليهم ، وقالوا : أينا لم يظلم نفسه ؟ فنزل :  إن الشرك لظلم عظيم      [ لقمان : 13 ] ; فخفف عنهم بسبب ذلك ، مع أن قليل الظلم وكثيره منهي عنه ، لكنهم فهموا أن مطلق الظلم لا يحصل معه الأمن في الآخرة والهداية لقوله : "  ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون      " [ الأنعام : 82 ] .  
ولما قال عليه الصلاة والسلام :  آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان     ; شق ذلك عليهم ، إذ لا يسلم أحد من شيء منه ، ففسره عليه الصلاة والسلام لهم حين أخبروه بكذب وإخلاف وخيانة مختصة بأهل الكفر .  
وكذلك لما نزل :  وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله      [ البقرة : 284 ] الآية ; شق عليهم ; فنزل :  لا يكلف الله نفسا إلا وسعها      [ البقرة : 286 ] .  
وقارف بعضهم بارتداد أو غيره وخاف أن لا يغفر له ، فسئل في ذلك      [ ص: 283 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; فأنزل الله :  قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله      [ الزمر : 53 ] الآية .  
 [ ص: 284 ] ولما ذم الدنيا ومتاعها ; هم جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أن يتبتلوا ويتركوا النساء واللذة والدنيا ، وينقطعوا إلى العبادة ، فرد ذلك عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال :  من رغب عن سنتي ; فليس مني     .  
ودعا لأناس بكثرة المال والولد بعد ما أنزل الله :  إنما أموالكم وأولادكم فتنة      [ التغابن : 15 ] والمال والولد هي الدنيا ، وأقر الصحابة على جمع الدنيا والتمتع بالحلال منها ، ولم يزهدهم ولا أمرهم بتركها ; إلا عند ظهور حرص أو وجود منع من حقه ، وحيث تظهر مظنة مخالفة التوسط بسبب ذلك وما سواه ; فلا .  
ومن غامض هذا المعنى أن الله تعالى أخبر عما يجازي به المؤمنين في الآخرة ، وأنه جزاء لأعمالهم ; فنسب إليهم أعمالا وأضافها إليهم بقوله :  جزاء بما كانوا يعملون      [ السجدة : 17 ] .  
ونفى المنة به عليهم في قوله :  فلهم أجر غير ممنون      [ التين : 6 ] .  
فلما منوا بأعمالهم قال تعالى :  يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين      [ الحجرات : 17 ] .  
فأثبت المنة عليهم على ما هو الأمر في نفسه ; لأنه مقطع حق ، وسلب      [ ص: 285 ] عنهم ما أضاف إلى الآخرين ، بقوله :  أن هداكم للإيمان      [ الحجرات : 17 ] ، كذلك أيضا ، أي فلولا الهداية لم يكن ما مننتم به ، وهذا يشبه في المعنى المقصود  حديث شراج الحرة حين تنازع فيه  الزبير  ورجل من  الأنصار      ; فقال عليه السلام : اسق يا  زبير     - فأمره بالمعروف - ، وأرسل الماء إلى جارك . فقال الرجل : إن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال : اسق يا  زبير  حتى يرجع الماء إلى الجدر ، واستوفى له حقه ; فقال  الزبير     : إن هذه الآية نزلت في ذلك :  فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم      [ النساء : 65 ] الآية .  
وهكذا تجد الشريعة أبدا في مواردها ومصادرها .  
وعلى نحو من هذا الترتيب يجري الطبيب الماهر ، يعطي الغذاء ابتداء      [ ص: 286 ] على ما يقتضيه الاعتدال في توافق مزاج المغتذي مع مزاج الغذاء ، ويخبر من سأله عن بعض المأكولات التي يجهلها المغتذي : أهو غذاء ، أم سم ، أم غير ذلك ؟ فإذا أصابته علة بانحراف بعض الأخلاط ; قابله في معالجته على مقتضى انحرافه في الجانب الآخر ، ليرجع إلى الاعتدال وهو المزاج الأصلي ، والصحة المطلوبة ، وهذا غاية الرفق ، وغاية الإحسان والإنعام من الله سبحانه .  
				
						
						
