فصل
وأما الثاني ; وهو أن يكون العمل إصلاحا للعادات الجارية بين العباد ، كالنكاح ، والبيع ، والإجارة ، وما أشبه ذلك من ; فهو حظ أيضا قد أثبته الشارع وراعاه في الأوامر والنواهي ، وعلم ذلك من قصده بالقوانين الموضوعة له ، وإذا علم ذلك بإطلاق ; فطلبه من ذلك الوجه غير مخالف لقصد الشارع ; فكان حقا وصحيحا ، هذا وجه . الأمور التي علم قصد الشارع إلى القيام بها لمصالح العباد في العاجلة
[ ص: 374 ] ووجه ثان : أنه لو كان طلب الحظ في ذلك قادحا في التماسه وطلبه ; لاستوى مع العبادات كالصيام والصلاة وغيرهما في اشتراط النية والقصد إلى الامتثال ، وقد اتفقوا على أن العادات لا تفتقر إلى نية ، وهذا كاف في كون القصد إلى الحظ لا يقدح في الأعمال التي يتسبب عنها ذلك الحظ ، بل لو فرضنا رجلا تزوج ليرائي بتزوجه ، أو ليعد من أهل العفاف ، أو لغير ذلك لصح تزوجه من حيث لم يشرع فيه نية العبادة من حيث تزوج ، فيقدح فيها الرياء والسمعة ، بخلاف العبادات المقصود بها تعظيم الله تعالى مجردا .
ووجه ثالث : أنه لو لم يكن طلب الحظ فيها سائغا ، لم يصح النص على الامتنان بها في القرآن والسنة ، كقوله تعالى : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها [ الروم : 21 ] .
وقال : هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا [ يونس : 67 ] .
وقال : الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ البقرة : 22 ] .
وقال : ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله [ القصص : 73 ] .
وقال : وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا [ النبأ : 10 - 11 ] .
إلى آخر الآيات ، إلى غير ذلك مما لا يحصى .
وذلك أن ما جاء في معرض مجرد التكليف لا يقع النص عليه في معرض الامتنان ; لأنه في نفسه كلفة وخلاف للعادات ، وقطع للأهواء ; كالصلاة ، [ ص: 375 ] والصيام ، والحج ، والجهاد ، إلا ما نحا نحو قوله : وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم [ البقرة : 216 ] ، بعد قوله : كتب عليكم القتال وهو كره لكم [ البقرة : 216 ] ، بخلاف ما تميل إليه النفوس وتقضى به الأوطار ، وتفتح به أبواب التمتع ، واللذات النفسانية ، وتسد به الخلات الواقعة من الغذاء والدواء ، ودفع المضرات ، وأضراب ذلك ; فإن الإتيان بها في معرض الامتنان مناسب ، وإذا كان كذلك اقتضى هذا البساط الأخذ بها من جهة ما وقعت المنة بها ، فلا يكون الأخذ على ذلك قدحا في العبودية ، ولا نقصا من حق الربوبية ، لكنهم مطالبون على أثر ذلك بالشكر للذي امتن بها ، وذلك صحيح .
فإن قيل : فيلزم على هذا أن يكون الأخذ لها بقصد التجرد عن الحظ قادحا أيضا ; إذ كان المقصود المفهوم من الشارع إثبات الحظ والامتنان به ، وهذا أيضا لا يقال به على الإطلاق ; لما تقدم .
فالجواب أن أخذها من حيث تلبية الأمر أو الإذن قد حصل في ضمنه الحظ وبالتبعية ; لأنه إذا ندب إلى التزوج مثلا فأخذه من حيث الندب على وجه لو لم يندب إليه لتركه مثلا ، فإن أخذه من هنالك قد حصل له به أخذه من حيث الحظ ; لأن الشارع قصد بالنكاح التناسل ، ثم أتبعه آثارا حسنة ; من التمتع باللذات ، والانغمار في نعم يتنعم بها المكلف كاملة ، فالتمتع بالحلال من جملة ما قصده الشارع ، فكان قصد هذا القاصد بريئا من الحظ ، وقد انجر [ ص: 376 ] في قصده الحظ ; فلا فرق بينه وبين من قصد بالنكاح نفس التمتع ; فلا مخالفة للشارع من جهة القصد ، بل له موافقتان : موافقة من جهة قبول ما قصد الشارع أن يتلقاه بالقبول ، وهو التمتع ، وموافقة من جهة أن أمر الشارع في الجملة يقتضي اعتبار المكلف له في حسن الأدب ، فكان له تأدب مع الشارع في تلبية الأمر زيادة إلى حصول ما قصده من نيل حظ المكلف .
وأيضا ; ففي قصد امتثال الأمر القصد إلى المقصد الأصلي من حصول النسل ، فهو بامتثال الأمر ملب للشارع في هذا القصد ، بخلاف طلب الحظ فقط ; فليس له هذه المزية .
فإن قيل : فطالب الحظ في هذا الوجه ملوم ; إذ أهمل قصد الشارع في الأمر من هذه الجهة .
فالجواب أنه لم يهمله مطلقا ; فإنه حين ألقى مقاليده في نيل هذه الحظوظ للشارع على الجملة حصل له بالضمن مقتضى ما قصد الشارع ، فلم يكن قصد المكلف في نيل الحظوظ منافيا لقصد الشارع الأصلي .
وأيضا ; فالداخل في حكم هذه الحظوظ داخل بحكم الشرط العادي على أنه يلد ، ويتكلف التربية والقيام بمصالح الأهل والولد ; كما أنه عالم إذا أتى الأمر من بابه أنه ينفق على الزوجة ويقوم بمصالحها ، لكن لا يستوي القصدان : قصد الامتثال ابتداء حتى كان الحظ حاصلا بالضمن ، وقصد الحظ ابتداء حتى صار قصد الامتثال بالضمن ; فثبت أن قصد الحظ في هذا القسم [ ص: 377 ] غير قادح في العمل .
فإن قيل : فطالب الحظ إذا فرضناه لم يقصد الامتثال على حال ، وإنما طلب حظه مجردا ، بحيث لو تأتى له على غير الوجه المشروع لأخذ به ، لكنه لم يقدر عليه إلا بالوجه المشروع ; فهل يكون القصد الأول في حقه موجودا بالقوة أم لا ؟
فالجواب أنه موجود له بالقوة أيضا ; لأنه إذا لم يكن له سبيل إلى الوصول إلى حظه على غير المشروع ; فرجوعه إلى الوجه المشروع قصد إليه ، وقصد الوجه المشروع يتضمن امتثال الأمر أو العمل بمقتضى الإذن ، وهو القصد الأول الأصلي وإن لم يشعر به على التفصيل ، وقد مر بيان هذا في موافقة قصد الشارع ، وأما العمل بالحظ والهوى بحيث [ لو ] يكون قصد العامل تحصيل مطلوبه وافق الشارع أو خالفه ، فليس من الحق في شيء ، وهو ظاهر والشواهد عليه أظهر .
فإن قيل : أما كونه عاملا على قصد المخالفة ; فظاهر أنه عامل بالهوى لا بالحق ، وأما عمله على غير قصد المخالفة فليس عاملا بالهوى بإطلاق ; فقد تبين في موضعه أن حكمه حكم الناسي ، فلا ينسب عمله إلى الهوى هكذا بإطلاق ، وإذا العامل بالجهل فيخالف أمر الشارع ، فسيأتي أن يصح عمله على الجملة ، فلا يكون عمله بالهوى أيضا وإلى هذا ، فالعامل بالهوى إذا صادف أمر الشارع فلم تقول : إنه عامل بالهوى وقد وافق قصده مع ما مر آنفا أن موافقة أمر الشارع تصير الحظ محمودا . وافق أمر الشرع جهلا
فالجواب أنه إذا عمل على غير قصد المخالفة ; فلا يستلزم أن يكون موافقا له ، بل الحالات ثلاث :
[ ص: 378 ] حال يكون فيها قاصدا للموافقة ; فلا يخلو أن يصيب بإطلاق ; كالعالم يعمل على وفق ما علم ; فلا إشكال أو يصيب بحكم الاتفاق أو لا يصيب ، فهذان قسمان يدخل فيهما العامل بالجهل ، فإن الجاهل إذا ظن في تقديره أن العمل هكذا ، وأن العمل مأذون فيه على ذلك الوجه الذي دخل فيه لم يقصد مخالفة ، لكن فرط في الاحتياط لذلك العمل ، فيؤاخذ في الطريق ، وقد لا يؤاخذ إذا لم يعد مفرطا ، ويمضي عمله إن كان موافقا .
وأما إذا قصد مخالفة أمر الشارع فسواء في العبادات وافق أو خالف [ فإنه لا اعتبار بموافقته كما ] لا اعتبار بما يخالف فيه ; لأنه مخالف القصد بإطلاق ، وفي العادات الأصل اعتبار ما وافق دون ما خالف ; لأن ، كمن عقد [ ص: 379 ] عقدا يقصد أنه فاسد فكان صحيحا ، أو شرب جلابا يظنه خمرا ; إلا أن عليه في قصد المخالفة درك الإثم . ما لا تشترط النية في صحته من الأعمال لا اعتبار بموافقته في القصد الشرعي ولا مخالفته
وأما إذا ; فهو العمل علي مجرد الحظ أو الغفلة ; كالعامل ولا يدري ما الذي يعمل ، أو يدري ولكنه إنما قصد مجرد العاجلة ، معرضا عن كونه مشروعا أو غير مشروع ، وحكمه في العبادات عدم الصحة ; لعدم نية الامتثال ، ولذلك لم يكلف الناسي ولا الغافل ولا غير العاقل ، وفي العادات الصحة إن وافق قصد الشارع ، وإلا ; فعدم الصحة . لم يقصد موافقة ولا مخالفة
وفي هذا الموضع نظر إذ يقال : إن المقصد هنا لما انتفى ; فالموافقة غير معتبرة لإمكان الاسترسال بها في المخالفة وقد يظهر لهذا تأثير في في إصلاح المال ، فلذلك قيل بعدم نفوذ تصرفاته مطلقا ، وإن وافقت المصلحة ، وقيل بنفوذ ما وافق المصلحة منها لا ما خالفها ، على تفصيل أصله هذا النظر ، وهو أن مطلق القصد إلى المصلحة غير منتهض ، فهو بهذا القصد مخالف للشارع ، وقد يقال : القصد إنما يعتبر بما ينشأ عنه ، وقد نشأ هنا مع عدم القصد موافقة قصد الشارع ; فصح . تصرفات المحجور ; كالطفل والسفيه الذي لا قصد له إلى موافقة قصد الشارع