[ ص: 167 ] [ ص: 168 ] [ ص: 169 ] بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
كتاب الأحكام
والأحكام الشرعية قسمان : أحدهما يرجع إلى خطاب التكليف ، والآخر يرجع إلى خطاب الوضع ; فالأول ينحصر في الخمسة ; فلنتكلم على ما يتعلق بها من المسائل ، وهي جملة :
[ ص: 170 ] [ ص: 171 ] القسم الأول
nindex.php?page=treesubj&link=20490خطاب التكليف
المسألة الأولى
[ في المباح ]
المباح من حيث هو مباح لا يكون مطلوب الفعل ، ولا مطلوب الاجتناب ، أما كونه ليس بمطلوب الاجتناب ; فلأمور :
[ ص: 172 ] أحدها : أن
nindex.php?page=treesubj&link=20580المباح عند الشارع هو المخير فيه بين الفعل والترك ، من غير مدح ولا ذم ، لا على الفعل ، ولا على الترك ، فإذا تحقق الاستواء شرعا والتخيير ، لم يتصور أن يكون التارك به مطيعا ، لعدم تعلق الطلب بالترك ; فإن الطاعة لا تكون إلا مع الطلب ، ولا طلب فلا طاعة .
والثاني : أن المباح مساو للواجب والمندوب في أن كل واحد منهما غير مطلوب الترك ، فكما يستحيل أن يكون تارك الواجب والمندوب مطيعا بتركه شرعا ; لكون الشارع لم يطلب الترك فيهما ، كذلك يستحيل أن يكون تارك المباح مطيعا شرعا .
لا يقال : إن الواجب والمندوب يفارقان المباح بأنهما مطلوبا الفعل ; فقد قام المعارض لطلب الترك ، وليس المباح كذلك ; فإنه لا معارض لطلب الترك فيه .
لأنا نقول : كذلك المباح فيه معارض لطلب الترك ، وهو التخيير في الترك ; فيستحيل الجمع بين طلب الترك عينا ، وبين التخيير فيه . والثالث : أنه إذا تقرر استواء الفعل والترك في المباح شرعا ، فلو جاز أن يكون تارك المباح مطيعا بتركه ; جاز أن يكون فاعله مطيعا بفعله ، من حيث كانا مستويين بالنسبة إليه ، وهذا غير صحيح باتفاق ، ولا معقول في نفسه .
[ ص: 173 ] والرابع : إجماع المسلمين على أن
nindex.php?page=treesubj&link=20579ناذر ترك المباح لا يلزمه الوفاء بنذره ، بأن يترك ذلك المباح ، وأنه كنذر فعله .
وفي الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337355من نذر أن يطيع الله فليطعه ، فلو كان ترك المباح طاعة للزم بالنذر ، لكنه غير لازم ; فدل على أنه ليس بطاعة .
وفي الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337356أن رجلا نذر أن يصوم قائما ، ولا يستظل ، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجلس ، وأن يستظل ، ويتم صومه ، قال
مالك : أمره عليه السلام أن يتم ما كان لله طاعة ، ويترك ما كان لله معصية ; فجعل نذر ترك المباح معصية كما ترى .
[ ص: 174 ] والخامس : أنه لو كان تارك المباح مطيعا بتركه - وقد فرضنا أن تركه وفعله عند الشارع سواء - لكان أرفع درجة في الآخرة ممن فعله ، وهذا باطل قطعا ; فإن القاعدة المتفق عليها أن الدرجات في الآخرة منزلة على أمور الدنيا ، فإذا تحقق الاستواء في الدرجات ، وفعل المباح وتركه في نظر الشارع متساويان ، فيلزم تساوي درجتي الفاعل والتارك إذا فرضنا تساويهما في الطاعات ، والفرض أن التارك مطيع دون الفاعل ، فيلزم أن يكون أرفع درجة منه ، هذا خلف ومخالف لما جاءت به الشريعة ، اللهم إلا أن يظلم الإنسان فيؤجر على ذلك وإن لم يطع ; فلا
[ ص: 175 ] كلام في هذا .
والسادس : أنه لو كان
nindex.php?page=treesubj&link=20579ترك المباح طاعة ; للزم رفع المباح من أحكام الشرع ، من حيث النظر إليه في نفسه ، وهو باطل بالإجماع ، ولا يخالف في هذا
الكعبي ; لأنه إنما نفاه بالنظر إلى ما يستلزم ، لا بالنظر إلى ذات الفعل ، وكلامنا إنما هو بالنظر إلى ذات الفعل لا بالنظر إلى ما يستلزم .
وأيضا ; فإنما قال
الكعبي ما قال بالنظر إلى فعل المباح ; لأنه مستلزم ترك حرام ، بخلافه بالنظر إلى تركه ; إذ لا يستلزم تركه فعل واجب فيكون واجبا ، ولا فعل مندوب فيكون مندوبا ، فثبت أن القول بذلك يؤدي إلى رفع المباح بإطلاق ، وذلك باطل باتفاق .
والسابع : أن الترك عند المحققين فعل من الأفعال الداخلة تحت الاختيار ; فترك المباح إذا فعل مباح .
وأيضا ; القاعدة أن الأحكام إنما تتعلق بالأفعال أو بالتروك بالمقاصد ،
[ ص: 176 ] حسبما يأتي إن شاء الله ، وذلك يستلزم رجوع الترك إلى الاختيار كالفعل ; فإن جاز أن يكون تارك المباح مطيعا بنفس الترك ، جاز أن يكون فاعله مطيعا ، وذلك تناقض محال .
فإن قيل : هذا كله معارض بأمور :
أحدها : أن فعل المباح سبب في مضار كثيرة : منها أن فيه اشتغالا عما هو الأهم في الدنيا من العمل بنوافل الخيرات ، وصدا عن كثير من الطاعات .
ومنها أنه سبب في الاشتغال عن الواجبات ، ووسيلة إلى الممنوعات ، لأن التمتع بالدنيا له ضراوة كضراوة الخمر ، وبعضها يجر إلى بعض إلى أن تهوي بصاحبها في المهلكة ، والعياذ بالله .
ومنها أن الشرع قد جاء بذم الدنيا والتمتع بلذاتها ; كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا [ الأحقاف : 20 ] .
[ وقوله ] :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=15من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها [ هود : 15 ] .
وفي الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337357إن أخوف ما أخاف عليكم أن تفتح عليكم الدنيا كما فتحت على من كان قبلكم الحديث . وفيه : إن مما ينبت الربيع ما يقتل
[ ص: 177 ] حبطا أو يلم .
وذلك كثير شهير في الكتاب والسنة ، وهو كاف في طلب ترك المباح ; لأنه أمر دنيوي لا يتعلق بالآخرة من حيث هو مباح .
- ومنها : ما فيه من التعرض لطول الحساب في الآخرة ، وقد جاء : إن حلالها حساب ، وحرامها عذاب ، وعن بعضهم : " اعزلوا عني حسابها " ،
[ ص: 178 ] حين أتي بشيء يتناوله ، والعاقل يعلم أن طول الحساب نوع من العذاب ، وأن سرعة الانصراف من الموقف إلى الجنة من أعظم المقاصد ، والمباح صاد عن ذلك ; فإذا تركه أفضل شرعا ، فهو طاعة ،
nindex.php?page=treesubj&link=20579فترك المباح طاعة .
فالجواب : أن كونه سببا في مضار - لا دليل فيه من أوجه : أحدها : أن الكلام في أصل المسألة إنما هو في المباح من حيث هو مباح متساوي الطرفين ، ولم يتكلم فيما إذا كان ذريعة إلى أمر آخر ; فإنه إذا كان ذريعة إلى ممنوع ; صار ممنوعا من باب سد الذرائع ، لا من جهة كونه مباحا ،
[ ص: 179 ] وعلى هذا يتنزل قول من قال : " كنا ندع ما لا بأس به حذرا لما به البأس " . وروي مرفوعا .
وكذلك كل ما جاء من هذا الباب ; فذم الدنيا إنما هو لأجل أنها تصير ذريعة إلى تعطيل التكاليف .
وأيضا ; فقد يتعلق بالمباح في سوابقه أو لواحقه أو قرائنه ما يصير به غير مباح ، كالمال إذا لم تؤد زكاته ، والخيل إذا ربطها تعففا ، ولكن نسي حق الله في رقابها ، وما أشبه ذلك .
والثاني : أنا إذا نظرنا إلى كونه وسيلة ; فليس تركه أفضل بإطلاق ، بل هو ثلاثة أقسام :
قسم يكون ذريعة إلى منهي عنه ، فيكون من تلك الجهة مطلوب الترك .
وقسم يكون ذريعة إلى مأمور به ; كالمستعان به على أمر أخروي ; ففي الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337358نعم المال الصالح للرجل الصالح ، وفيه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337359ذهب أهل الدثور [ ص: 180 ] بالأجور والدرجات العلا والنعيم المقيم . . . إلى أن قال : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، بل قد جاء أن في مجامعة الأهل أجرا ، وإن كان قاضيا لشهوته ; لأنه يكف به عن الحرام ، وذلك في الشريعة كثير ; لأنها لما كانت وسائل إلى مأمور به ، كان لها حكم ما توسل بها إليه .
وقسم لا يكون ذريعة إلى شيء ; فهو المباح المطلق ، وعلى الجملة فإذا فرض ذريعة إلى غيره ; فحكمه حكم ذلك الغير ، وليس الكلام فيه .
والثالث : أنه إذا قيل : إن ترك المباح طاعة على الإطلاق ; لكونه وسيلة إلى ما ينهى عنه ، فهو معارض بمثله ; فيقال : بل فعله طاعة بإطلاق ; لأن كل مباح ترك حرام ، ألا ترى أنه ترك المحرمات كلها عند فعل المباح ، فقد شغل النفس به عن جميعها ، وهذا الثاني أولى ; لأن الكلية هنا تصح ، ولا يصح أن يقال : كل مباح وسيلة إلى محرم أو منهي عنه بإطلاق ، فظهر أن ما اعترض به لا ينهض دليلا على أن ترك المباح طاعة .
وأما قوله : " إنه سبب في طول الحساب " فجوابه من أوجه : أحدها : أن فاعل المباح إن كان يحاسب عليه ; لزم أن يكون التارك
[ ص: 181 ] محاسبا على تركه ، من حيث كان الترك فعلا ، ولاستواء نسبة الفعل والترك شرعا ، وإذ ذاك يتناقض الأمر على فرض المباح ، وذلك محال فما أدى إليه مثله .
وأيضا ; فإنه إذا تمسك بأن حلالها حساب ، ثم قضى بأن التارك لا يحاسب ، مع أنه آت بحلال وهو الترك ، فقد صار الحلال سببا لطول الحساب وغير سبب له ، لأن طول الحساب إنما نيط به من جهة كونه حلالا بالفرض ، وهذا تناقض من القول .
والثاني : أن الحساب إن كان ينهض سببا لطلب الترك ، لزم أن يطلب ترك الطاعات من حيث كانت مسئولا عنها كلها ، فقد قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=6فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [ الأعراف : 6 ] فقد انحتم على الرسل عليهم الصلاة والسلام ، أن يسألوا عن الرسالة وتبليغ الشريعة ، ولم يكن هذا مانعا من الإتيان بذلك ، وكذلك سائر المكلفين .
لا يقال : إن الطاعات يعارض طلب تركها طلبها .
لأنا نقول : كذلك المباح ؛ يعارض طلب تركه التخيير فيه ، وإن فعله وتركه في قصد الشارع بمثابة واحدة .
والثالث : أن ما ذكر من الحساب على تناول الحلال قد يقال : إنه راجع إلى أمر خارج عن نفس المباح ; فإن المباح هو أكل كذا مثلا ، وله مقدمات وشروط ولواحق لا بد من مراعاتها ، فإذا روعيت صار الأكل مباحا ، وإن لم تراع كان التسبب والتناول غير مباح .
وعلى الجملة فالمباح كغيره من الأفعال له أركان ، وشروط ، وموانع ، ولواحق تراعى ، والترك في هذا كله كالفعل ، فكما أنه إذا تسبب للفعل ، كان تسببه مسئولا عنه ، كذلك إذا تسبب إلى الترك كان مسئولا عنه .
[ ص: 182 ] ولا يقال : إن الفعل كثير الشروط والموانع ، ومفتقر إلى أركان بخلاف الترك ; فإن ذلك فيه قليل ، وقد يكفي مجرد القصد إلى الترك .
لأنا نقول : حقيقة المباح إنما تنشأ بمقدمات ، كان فعلا أو تركا ، ولو بمجرد القصد .
وأيضا ; فإن الحقوق تتعلق بالترك كما تتعلق بالفعل ، من حقوق الله أو حقوق الآدميين أو منهما جميعا ، يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - : إن لنفسك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا ، فأعط كل ذي حق حقه .
وتأمل حديث
سلمان nindex.php?page=showalam&ids=4وأبي الدرداء - رضي الله عنهما - يبين لك هو ، وما في معناه - أن الفعل والترك في المباح على الخصوص ، لا فرق بينهما من هذا الوجه ، فالحساب يتعلق بطريق الترك كما يتعلق بطريق الفعل ، وإذا كان الأمر كذلك ; ثبت أن الحساب إن كان راجعا إلى طريق المباح ؛ فالفعل والترك سواء ، وإن كان راجعا إلى نفس المباح أو إليهما معا ; فالفعل والترك أيضا سواء .
وأيضا ; إن كان في المباح ما يقتضي الترك ; ففيه ما يقتضي عدم الترك ; لأنه من جملة ما امتن الله به على عباده ، ألا ترى إلى قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=10والأرض وضعها للأنام إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=22يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان [ الرحمن : 10 - 22 ] .
[ ص: 183 ] وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=14وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=14ولعلكم تشكرون [ النحل : 14 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=13وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [ الجاثية : 13 ] .
إلى غير ذلك من الآيات التي نص فيها على الامتنان بالنعم ، وذلك يشعر بالقصد إلى التناول والانتفاع ، ثم الشكر عليها ، وإذا كان هكذا فالترك له قصدا يسأل عنه ، لم تركته ؟ ولأي وجه أعرضت عنه ؟ وما منعك من تناول ما أحل لك ، فالسؤال حاصل في الطرفين ، وسيأتي لذلك تقرير في المباح الخادم لغيره إن شاء الله .
وهذه الأجوبة أكثرها جدلي ، والصواب في الجواب أن تناول المباح لا يصح أن يكون صاحبه محاسبا عليه بإطلاق ، وإنما يحاسب على التقصير في الشكر عليه ، إما في جهة تناوله ، واكتسابه ، وإما في جهة الاستعانة به على التكليفات ، فمن حاسب نفسه في ذلك ، وعمل على ما أمر به فقد شكر نعم الله ، وفي ذلك قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=32قل من حرم زينة الله إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=32خالصة يوم القيامة [ الأعراف : 32 ] .
أي : لا تبعة فيها ، وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=84&ayano=7فأما من أوتي كتابه بيمينه nindex.php?page=tafseer&surano=84&ayano=8فسوف يحاسب حسابا يسيرا [ الانشقاق : 7 - 8 ] .
وفسره النبي عليه السلام بأنه العرض ، لا الحساب الذي فيه مناقشة
[ ص: 184 ] وعذاب ، وإلا لم تكن النعم المباحة خالصة للمؤمنين يوم القيامة ، وإليه يرجع قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=6فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [ الأعراف : 6 ] .
أعني سؤال المرسلين ، ويحققه أحوال السلف في تناول المباحات كما سيذكر على إثر هذا .
والثاني : من الأمور المعارضة ، أن ما تقدم مخالف لما كان عليه السلف الصالح من الصحابة ، والتابعين ، والعلماء المتقين ; فإنهم تورعوا عن المباحات كثيرا ، وذلك منقول عنهم تواترا ، كترك الترفه في المطعم ، والمشرب ، والمركب ، والمسكن ، وأعرقهم في ذلك
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب ،
وأبو ذر ،
وسلمان ،
nindex.php?page=showalam&ids=5وأبو عبيدة بن الجراح ،
nindex.php?page=showalam&ids=8وعلي بن أبي طالب ،
وعمار ، وغيرهم - رضي الله عنهم - وانظر إلى ما حكاه
ابن حبيب في كتاب الجهاد ، وكذلك
الداودي في كتاب " الأموال " ففيه الشفاء ، ومحصوله أنهم تركوا المباح من حيث هو مباح ، ولو كان
nindex.php?page=treesubj&link=20585ترك المباح غير طاعة لما فعلوه .
والجواب عن ذلك من أوجه : أحدها : أن هذه أولا حكايات أحوال ; فالاحتجاج بمجردها من غير نظر
[ ص: 185 ] فيها لا يجدي ; إذ لا يلزم أن يكون تركهم لما تركوه من ذلك من جهة كونه مباحا ؛ لإمكان تركه لغير ذلك من المقاصد ، وسيأتي إن شاء الله أن حكايات الأحوال بمجردها غير مفيدة في الاحتجاج .
والثاني : أنها معارضة بمثلها في النقيض .
فقد كان عليه السلام يحب الحلواء والعسل .
ويأكل اللحم ، ويختص بالذراع ، وكانت تعجبه .
وكان يستعذب له الماء .
[ ص: 186 ] وينقع له الزبيب والتمر .
ويتطيب بالمسك .
[ ص: 187 ] ويحب النساء .
وأيضا ; فقد جاء كثير من ذلك عن الصحابة والتابعين ، والعلماء المتقين ، بحيث يقتضي أن الترك عندهم كان غير مطلوب ، والقطع أنه لو كان مطلوب الترك عندهم شرعا ، لبادروا إليه مبادرتهم لكل نافلة وبر ، ونيل منزلة ودرجة ; إذ لم يبادر أحد من الخلق إلى نوافل الخيرات مبادرتهم ، ولا شارك أحد أخاه المؤمن ممن قرب عهده أو بعد في رفده وماله مشاركتهم ، يعلم ذلك من طالع سيرهم ، ومع ذلك فلم يكونوا تاركين للمباحات أصلا ، ولو كان مطلوبا لعلموه قطعا ، ولعملوا بمقتضاه مطلقا من غير استثناء ، لكنهم لم يفعلوا ; فدل ذلك على أنه عندهم غير مطلوب ، بل قد أراد بعضهم أن يترك شيئا من المباحات فنهوا عن ذلك ، وأدلة هذه الجملة كثيرة ، وانظر في باب المفاضلة بين الفقر والغنى في " مقدمات
ابن رشد " .
[ ص: 188 ] والثالث : إذا ثبت أنهم تركوا منه شيئا ، طلبا للثواب على تركه ، فذلك لا من جهة أنه مباح فقط للأدلة المتقدمة ، بل لأمور خارجة ، وذلك غير قادح في كونه غير مطلوب الترك - منها : أنهم تركوه من حيث هو مانع من عبادات ، وحائل دون خيرات ، فيترك ليمكن الإتيان بما يثاب عليه ، من باب التوصل إلى ما هو مطلوب ، كما كانت
عائشة - رضي الله عنها - يأتيها المال العظيم الذي يمكنها به التوسع في المباح فتتصدق به ، وتفطر على أقل ما يقوم به العيش ، ولم يكن تركها التوسع من حيث كان الترك مطلوبا ، وهذا هو محل النزاع .
- ومنها : أن بعض المباحات قد يكون مورثا لبعض الناس أمرا لا يختاره لنفسه ، بالنسبة إلى ما هو عليه من الخصال الحميدة ، فيترك المباح لما يؤديه إليه ، كما جاء أن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب لما عذلوه في ركوبه الحمار في مسيره إلى
الشام ، أتي بفرس ، فلما ركبه فهملج تحته ، أخبر أنه أحس من نفسه ، فنزل
[ ص: 189 ] عنه ، ورجع إلى حماره ، وكما جاء في حديث الخميصة ذات العلم ، حين لبسها النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرهم أنه نظر إلى علمها في الصلاة فكاد يفتنه ، وهو المعصوم ، ولكنه علم أمته كيف يفعلون بالمباح إذا أداهم إلى ما يكره ، وكذلك
nindex.php?page=treesubj&link=20579قد يكون المباح وسيلة إلى ممنوع ، فيترك من حيث هو وسيلة كما قيل : " إني لأدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال ، ولا أحرمها " وفي الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337360لا يبلغ الرجل درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس .
[ ص: 190 ] وهذا بمثابة من يعلم أنه إذا مر لحاجته على الطريق الفلانية نظر إلى محرم أو تكلم فيما لا يعنيه أو نحوه .
- ومنها : أنه قد يترك بعض الناس ما يظهر " لغيره " أنه مباح ، إذا تخيل فيه إشكالا وشبهة ، ولم يتخلص له حله ، وهذا موضع مطلوب الترك على الجملة بلا خلاف ; كقوله : " كنا ندع ما لا بأس به حذرا لما به البأس " ولم يتركوا كل ما لا بأس به ، وإنما تركوا ما خشوا أن يفضي بهم إلى مكروه أو ممنوع .
- ومنها : أنه
nindex.php?page=treesubj&link=20579قد يترك المباح لأنه لم تحضره نية في تناوله ; إما للعون به على طاعة الله ، وإما لأنه يحب أن يكون عمله كله خالصا لله ، لا يلوي فيه على حظ نفسه من حيث هي طالبة له ; فإن من خاصة عباد الله من لا يحب أن يتناول مباحا لكونه مباحا ، بل يتركه حتى يجد لتناوله قصد عبادة أو عونا على
[ ص: 191 ] عبادة ، أو يكون أخذه له من جهة الإذن لا من جهة الحظ ; لأن الأول نوع من الشكر بخلاف الثاني ، ومن ذلك أن يتركه حتى يصير مطلوبا كالأكل والشرب ونحوهما ; فإنه - إذا كان لغير حاجة - مباح ، كأكل بعض الفواكه ، فيدع التناول إلى زمان الحاجة إلى الغذاء ، ثم يأكل قصدا لإقامة البنية ، والعون على الطاعة ، وهذه كلها أغراض صحيحة منقولة عن السلف ، وغير قادحة في مسألتنا .
- ومنها : أن يكون التارك مأخوذ الكلية في عبادة من علم أو تفكر أو عمل ، مما يتعلق بالآخرة ، فلا تجده يستلذ بمباح ، ولا ينحاش قلبه إليه ، ولا يلقي إليه بالا ، وهذا وإن كان قليلا ، فالترك على هذا الوجه يشبه الغفلة عن المتروك ، والغفلة عن تناول المباح ليس بطاعة ، بل هو في طاعة بما اشتغل به ، وقد نقل مثل هذا عن
عائشة حين أتيت بمال عظيم فقسمته ، ولم تبق لنفسها شيئا ، فعوتبت على تركها نفسها دون شيء ، فقالت : " لا تعنيني ، لو كنت ذكرتني لفعلت " ، ويتفق مثل هذا للصوفية ، وكذلك إذا ترك المباح لعدم قيام النفس له ، هو في حكم المغفول عنه .
- ومنها : أنه قد
nindex.php?page=treesubj&link=20579يرى بعض ما يتناوله من المباح إسرافا ، والإسراف مذموم ، وليس في الإسراف حد يوقف دونه كما في الإقتار ، فيكون التوسط
[ ص: 192 ] راجعا إلى الاجتهاد بين الطرفين ; فيرى الإنسان بعض المباحات بالنسبة إلى حاله داخلا تحت الإسراف فيتركه لذلك ، ويظن من يراه ممن ليس ذلك - إسرافا في حقه ؛ أنه تارك للمباح ، ولا يكون كما ظن ; فكل أحد فيه فقيه نفسه .
والحاصل أن
nindex.php?page=treesubj&link=20579التفقه في المباح بالنسبة إلى الإسراف وعدمه والعمل على ذلك - مطلوب ، وهو شرط من شروط تناول المباح ، ولا يصير بذلك المباح مطلوب الترك ، ولا مطلوب الفعل ، كدخول المسجد لأمر مباح هو مباح ، ومن شرطه أن لا يكون جنبا ، والنوافل من شرطها الطهارة وذلك واجب ، ولا يصير دخول المسجد ولا النافلة بسبب ذلك - واجبين ، فكذلك هنا تناول المباح مشروط بترك الإسراف ، ولا يصير ذم الإسراف في المباح ذما للمباح مطلقا .
وإذا تأملت الحكايات في ترك بعض المباحات عمن تقدم ، فلا تعدو هذه الوجوه ، وعند ذلك لا تكون فيها معارضة لما تقدم ، والله أعلم .
والثالث من الأمور المعارضة : ما ثبت من
nindex.php?page=treesubj&link=24626فضيلة الزهد في الدنيا ، وترك لذاتها ، وشهواتها ، وهو مما اتفق على مدح صاحبه شرعا ، وذم تاركه على الجملة ، حتى قال
nindex.php?page=showalam&ids=14919الفضيل بن عياض : " جعل الشر كله في بيت ، وجعل مفتاحه حب الدنيا ، وجعل الخير كله في بيت ، وجعل مفتاحه الزهد " .
وقال
الكتاني الصوفي : " الشيء الذي لم يخالف فيه كوفي ، ولا مدني ،
[ ص: 193 ] ولا عراقي ، ولا شامي - الزهد في الدنيا ، وسخاوة النفس ، والنصيحة للخلق " .
قال
القشيري : يعني أن هذه الأشياء لا يقول أحد : إنها غير محمودة ، والأدلة من الكتاب والسنة على هذا لا تكاد تنحصر ،
nindex.php?page=treesubj&link=24625والزهد حقيقة إنما هو في الحلال ، أما الحرام ; فالزهد فيه لازم من أمر الإسلام ، عام في أهل الإيمان ، ليس مما يتجارى فيه خواص المؤمنين مقتصرين عليه فقط ، وإنما تجاروا فيما صاروا به من الخواص ، وهو الزهد في المباح ، فأما المكروه فذو طرفين ، وإذا ثبت هذا فمحال عادة أن يتجاروا فيه هذه المجاراة ، وهو لا فائدة فيه ، ومحال أن يمدح شرعا مع استواء فعله وتركه .
والجواب من أوجه : أحدها : أن
nindex.php?page=treesubj&link=24625الزهد - في الشرع - مخصوص بما طلب تركه حسبما يظهر من الشريعة ، فالمباح في نفسه خارج عن ذلك لما تقدم من الأدلة ، فإذا أطلق بعض المعبرين لفظ الزهد على ترك الحلال ، فعلى جهة المجاز بالنظر إلى ما يفوت من الخيرات أو لغير ذلك مما تقدم .
والثاني : أن أزهد البشر لم يترك الطيبات جملة إذا وجدها ، وكذلك من بعده من الصحابة والتابعين مع تحققهم في مقام الزهد .
والثالث : أن
nindex.php?page=treesubj&link=20585ترك المباحات إما أن يكون بقصد أو بغير قصد ; فإن كان بغير قصد فلا اعتبار به ، بل هو غفلة ، لا يقال فيه : " مباح " فضلا عن أن يقال فيه : " زهد " ، وإن كان تركه بقصد ; فإما أن يكون
[ ص: 194 ] القصد مقصورا على كونه مباحا ، فهو محل النزاع ، أو لأمر خارج ، فذلك الأمر إن كان دنيويا كالمتروك ؛ فهو انتقال من مباح إلى مثله لا زهد ، وإن كان أخرويا ; فالترك إذا وسيلة إلى ذلك المطلوب ; فهو فضيلة من جهة ذلك المطلوب ، لا من جهة مجرد الترك ، ولا نزاع في هذا .
وعلى هذا المعنى فسره
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي ; إذ قال : " الزهد عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه " فلم يجعله مجرد الانصراف عن الشيء خاصة ، بل بقيد الانصراف إلى ما هو خير منه ، وقال في تفسيره : " ولما كان الزهد رغبة عن محبوب بالجملة ، لم يتصور إلا بالعدول إلى شيء هو أحب منه ، وإلا فترك المحبوب لغير الأحب محال " . ثم ذكر أقسام الزهد ، فدل على أن الزهد لا يتعلق بالمباح من حيث هو مباح على حال ، ومن تأمل كلام المعتبرين فهو دائر على هذا المدار .
[ ص: 167 ] [ ص: 168 ] [ ص: 169 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا
مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
كِتَابُ الْأَحْكَامِ
وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ قِسْمَانِ : أَحَدُهُمَا يَرْجِعُ إِلَى خِطَابِ التَّكْلِيفِ ، وَالْآخَرُ يَرْجِعُ إِلَى خِطَابِ الْوَضْعِ ; فَالْأَوَّلُ يَنْحَصِرُ فِي الْخَمْسَةِ ; فَلْنَتَكَلَّمْ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْمَسَائِلِ ، وَهِيَ جُمْلَةٌ :
[ ص: 170 ] [ ص: 171 ] الْقِسْمُ الْأَوَّلُ
nindex.php?page=treesubj&link=20490خِطَابُ التَّكْلِيفِ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
[ فِي الْمُبَاحِ ]
الْمُبَاحُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُبَاحٌ لَا يَكُونُ مَطْلُوبَ الْفِعْلِ ، وَلَا مَطْلُوبَ الِاجْتِنَابِ ، أَمَّا كَوْنُهُ لَيْسَ بِمَطْلُوبِ الِاجْتِنَابِ ; فَلِأُمُورٍ :
[ ص: 172 ] أَحَدُهَا : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=20580الْمُبَاحَ عِنْدَ الشَّارِعِ هُوَ الْمُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ ، مِنْ غَيْرِ مَدْحٍ وَلَا ذَمٍّ ، لَا عَلَى الْفِعْلِ ، وَلَا عَلَى التَّرْكِ ، فَإِذَا تَحَقَّقَ الِاسْتِوَاءُ شَرْعًا وَالتَّخْيِيرُ ، لَمْ يُتَصَوَّرْ أَنْ يَكُونَ التَّارِكُ بِهِ مُطِيعًا ، لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الطَّلَبِ بِالتَّرْكِ ; فَإِنَّ الطَّاعَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ الطَّلَبِ ، وَلَا طَلَبَ فَلَا طَاعَةَ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُبَاحَ مُسَاوٍ لِلْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مَطْلُوبِ التَّرْكِ ، فَكَمَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ تَارِكُ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ مُطِيعًا بِتَرْكِهِ شَرْعًا ; لِكَوْنِ الشَّارِعِ لَمْ يَطْلُبِ التَّرْكَ فِيهِمَا ، كَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ تَارِكُ الْمُبَاحِ مُطِيعًا شَرْعًا .
لَا يُقَالُ : إِنَّ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ يُفَارِقَانِ الْمُبَاحَ بِأَنَّهُمَا مَطْلُوبَا الْفِعْلِ ; فَقَدْ قَامَ الْمُعَارِضُ لِطَلَبِ التَّرْكِ ، وَلَيْسَ الْمُبَاحُ كَذَلِكَ ; فَإِنَّهُ لَا مُعَارِضَ لِطَلَبِ التَّرْكِ فِيهِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : كَذَلِكَ الْمُبَاحُ فِيهِ مُعَارِضٌ لِطَلَبِ التَّرْكِ ، وَهُوَ التَّخْيِيرُ فِي التَّرْكِ ; فَيَسْتَحِيلُ الْجَمْعُ بَيْنَ طَلَبِ التَّرْكِ عَيْنًا ، وَبَيْنَ التَّخْيِيرِ فِيهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ إِذَا تَقَرَّرَ اسْتِوَاءُ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ فِي الْمُبَاحِ شَرْعًا ، فَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ تَارِكُ الْمُبَاحِ مُطِيعًا بِتَرْكِهِ ; جَازَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ مُطِيعًا بِفِعْلِهِ ، مِنْ حَيْثُ كَانَا مُسْتَوِيَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ بِاتِّفَاقٍ ، وَلَا مَعْقُولٍ فِي نَفْسِهِ .
[ ص: 173 ] وَالرَّابِعُ : إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=20579نَاذِرَ تَرْكِ الْمُبَاحِ لَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ ، بِأَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ الْمُبَاحَ ، وَأَنَّهُ كَنَذْرٍ فَعَلَهُ .
وَفِي الْحَدِيثِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337355مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ ، فَلَوْ كَانَ تَرْكُ الْمُبَاحِ طَاعَةً لَلَزِمَ بِالنَّذْرِ ، لَكِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِطَاعَةٍ .
وَفِي الْحَدِيثِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337356أَنَّ رَجُلًا نَذَرَ أَنْ يَصُومَ قَائِمًا ، وَلَا يَسْتَظِلَّ ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَجْلِسَ ، وَأَنْ يَسْتَظِلَّ ، وَيُتِمَّ صَوْمَهُ ، قَالَ
مَالِكٌ : أَمَرَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُتِمَّ مَا كَانَ لِلَّهِ طَاعَةً ، وَيَتْرُكَ مَا كَانَ لِلَّهِ مَعْصِيَةً ; فَجَعَلَ نَذْرَ تَرْكِ الْمُبَاحِ مَعْصِيَةً كَمَا تَرَى .
[ ص: 174 ] وَالْخَامِسُ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ تَارِكُ الْمُبَاحِ مُطِيعًا بِتَرْكِهِ - وَقَدْ فَرَضْنَا أَنَّ تَرْكَهُ وَفِعْلَهُ عِنْدَ الشَّارِعِ سَوَاءٌ - لَكَانَ أَرْفَعَ دَرَجَةً فِي الْآخِرَةِ مِمَّنْ فَعَلَهُ ، وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا ; فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا أَنَّ الدَّرَجَاتِ فِي الْآخِرَةِ مُنَزَّلَةٌ عَلَى أُمُورِ الدُّنْيَا ، فَإِذَا تَحَقَّقَ الِاسْتِوَاءُ فِي الدَّرَجَاتِ ، وَفِعْلُ الْمُبَاحِ وَتَرْكُهُ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ مُتَسَاوِيَانِ ، فَيَلْزَمُ تَسَاوِي دَرَجَتِيِ الْفَاعِلِ وَالتَّارِكِ إِذَا فَرَضْنَا تَسَاوِيَهُمَا فِي الطَّاعَاتِ ، وَالْفَرْضُ أَنَّ التَّارِكَ مُطِيعٌ دُونَ الْفَاعِلِ ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَرَفَعَ دَرَجَةً مِنْهُ ، هَذَا خُلْفٌ وَمُخَالِفٌ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُظْلَمَ الْإِنْسَانُ فَيُؤْجَرَ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُطِعْ ; فَلَا
[ ص: 175 ] كَلَامَ فِي هَذَا .
وَالسَّادِسُ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ
nindex.php?page=treesubj&link=20579تَرْكُ الْمُبَاحِ طَاعَةً ; لَلَزِمَ رَفْعُ الْمُبَاحِ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ ، مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ إِلَيْهِ فِي نَفْسِهِ ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَا يُخَالِفُ فِي هَذَا
الْكَعْبِيُّ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا نَفَاهُ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يَسْتَلْزِمُ ، لَا بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِ الْفِعْلِ ، وَكَلَامُنَا إِنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِ الْفِعْلِ لَا بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يَسْتَلْزِمُ .
وَأَيْضًا ; فَإِنَّمَا قَالَ
الْكَعْبِيُّ مَا قَالَ بِالنَّظَرِ إِلَى فِعْلِ الْمُبَاحِ ; لِأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ تَرْكَ حَرَامٍ ، بِخِلَافِهِ بِالنَّظَرِ إِلَى تَرْكِهِ ; إِذْ لَا يَسْتَلْزِمُ تَرْكُهُ فِعْلَ وَاجِبٍ فَيَكُونَ وَاجِبًا ، وَلَا فِعْلَ مَنْدُوبٍ فَيَكُونَ مَنْدُوبًا ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى رَفْعِ الْمُبَاحِ بِإِطْلَاقٍ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ .
وَالسَّابِعُ : أَنَّ التَّرْكَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ فِعْلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ ; فَتَرْكُ الْمُبَاحِ إِذًا فِعْلٌ مُبَاحٌ .
وَأَيْضًا ; الْقَاعِدَةُ أَنَّ الْأَحْكَامَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ أَوْ بِالتُّرُوكِ بِالْمَقَاصِدِ ،
[ ص: 176 ] حَسْبَمَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ رُجُوعَ التَّرْكِ إِلَى الِاخْتِيَارِ كَالْفِعْلِ ; فَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ تَارِكُ الْمُبَاحِ مُطِيعًا بِنَفْسِ التَّرْكِ ، جَازَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ مُطِيعًا ، وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ مُحَالٌ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا كُلُّهُ مُعَارَضٌ بِأُمُورٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ فِعْلَ الْمُبَاحِ سَبَبٌ فِي مَضَارَّ كَثِيرَةٍ : مِنْهَا أَنَّ فِيهِ اشْتِغَالًا عَمَّا هُوَ الْأَهَمُّ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعَمَلِ بِنَوَافِلِ الْخَيْرَاتِ ، وَصَدًّا عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الطَّاعَاتِ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ سَبَبٌ فِي الِاشْتِغَالِ عَنِ الْوَاجِبَاتِ ، وَوَسِيلَةٌ إِلَى الْمَمْنُوعَاتِ ، لِأَنَّ التَّمَتُّعَ بِالدُّنْيَا لَهُ ضَرَاوَةٌ كَضَرَاوَةِ الْخَمْرِ ، وَبَعْضُهَا يَجُرُّ إِلَى بَعْضٍ إِلَى أَنْ تَهْوِيَ بِصَاحِبِهَا فِي الْمَهْلَكَةِ ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ .
وَمِنْهَا أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ جَاءَ بِذَمِّ الدُّنْيَا وَالتَّمَتُّعِ بِلَذَّاتِهَا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=20أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا [ الْأَحْقَافِ : 20 ] .
[ وَقَوْلِهِ ] :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=15مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا [ هُودِ : 15 ] .
وَفِي الْحَدِيثِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337357إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافَ عَلَيْكُمْ أَنْ تُفْتَحَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا فُتِحَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْحَدِيثَ . وَفِيهِ : إِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ
[ ص: 177 ] حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ .
وَذَلِكَ كَثِيرٌ شَهِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَهُوَ كَافٍ فِي طَلَبِ تَرْكِ الْمُبَاحِ ; لِأَنَّهُ أَمْرٌ دُنْيَوِيٌّ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُبَاحٌ .
- وَمِنْهَا : مَا فِيهِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِطُولِ الْحِسَابِ فِي الْآخِرَةِ ، وَقَدْ جَاءَ : إِنَّ حَلَالَهَا حِسَابٌ ، وَحَرَامَهَا عَذَابٌ ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ : " اعْزِلُوا عَنِّي حِسَابَهَا " ،
[ ص: 178 ] حِينَ أُتِيَ بِشَيْءٍ يَتَنَاوَلُهُ ، وَالْعَاقِلُ يَعْلَمُ أَنَّ طُولَ الْحِسَابِ نَوْعٌ مِنَ الْعَذَابِ ، وَأَنَّ سُرْعَةَ الِانْصِرَافِ مِنَ الْمَوْقِفِ إِلَى الْجَنَّةِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَقَاصِدِ ، وَالْمُبَاحُ صَادٌّ عَنْ ذَلِكَ ; فَإِذَا تَرَكَهُ أَفْضَلُ شَرْعًا ، فَهُوَ طَاعَةٌ ،
nindex.php?page=treesubj&link=20579فَتَرْكُ الْمُبَاحِ طَاعَةٌ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ كَوْنَهُ سَبَبًا فِي مَضَارَّ - لَا دَلِيلَ فِيهِ مِنْ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْكَلَامَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُبَاحِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُبَاحٌ مُتَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ ، وَلَمْ يُتَكَلَّمْ فِيمَا إِذَا كَانَ ذَرِيعَةً إِلَى أَمْرٍ آخَرَ ; فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ ذَرِيعَةً إِلَى مَمْنُوعٍ ; صَارَ مَمْنُوعًا مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ ، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُبَاحًا ،
[ ص: 179 ] وَعَلَى هَذَا يَتَنَزَّلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ : " كُنَّا نَدَعُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ الْبَأْسُ " . وَرُوِيَ مَرْفُوعًا .
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا جَاءَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ; فَذَمُّ الدُّنْيَا إِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ أَنَّهَا تَصِيرُ ذَرِيعَةً إِلَى تَعْطِيلِ التَّكَالِيفِ .
وَأَيْضًا ; فَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْمُبَاحِ فِي سَوَابِقِهِ أَوْ لَوَاحِقِهِ أَوْ قَرَائِنِهِ مَا يَصِيرُ بِهِ غَيْرَ مُبَاحٍ ، كَالْمَالِ إِذَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ ، وَالْخَيْلِ إِذَا رَبَطَهَا تَعَفُّفًا ، وَلَكِنْ نَسِيَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .
وَالثَّانِي : أَنَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى كَوْنِهِ وَسِيلَةً ; فَلَيْسَ تَرْكُهُ أَفْضَلَ بِإِطْلَاقٍ ، بَلْ هُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ :
قِسْمٌ يَكُونُ ذَرِيعَةً إِلَى مَنْهِيٍّ عَنْهُ ، فَيَكُونُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ مَطْلُوبَ التَّرْكِ .
وَقِسْمٌ يَكُونُ ذَرِيعَةً إِلَى مَأْمُورٍ بِهِ ; كَالْمُسْتَعَانِ بِهِ عَلَى أَمْرٍ أُخْرَوِيٍّ ; فَفِي الْحَدِيثِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337358نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ ، وَفِيهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337359ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ [ ص: 180 ] بِالْأُجُورِ وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَا وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ . . . إِلَى أَنْ قَالَ : ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ، بَلْ قَدْ جَاءَ أَنَّ فِي مُجَامَعَةِ الْأَهْلِ أَجْرًا ، وَإِنْ كَانَ قَاضِيًا لِشَهْوَتِهِ ; لِأَنَّهُ يَكُفُّ بِهِ عَنِ الْحَرَامِ ، وَذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ كَثِيرٌ ; لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ وَسَائِلَ إِلَى مَأْمُورٍ بِهِ ، كَانَ لَهَا حُكْمُ مَا تُوُسِّلَ بِهَا إِلَيْهِ .
وَقِسْمٌ لَا يَكُونُ ذَرِيعَةً إِلَى شَيْءٍ ; فَهُوَ الْمُبَاحُ الْمُطْلَقُ ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَإِذَا فُرِضَ ذَرِيعَةً إِلَى غَيْرِهِ ; فَحُكْمُهُ حُكْمُ ذَلِكَ الْغَيْرِ ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ إِذَا قِيلَ : إِنَّ تَرْكَ الْمُبَاحِ طَاعَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ ; لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَى مَا يُنْهَى عَنْهُ ، فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ ; فَيُقَالُ : بَلْ فِعْلُهُ طَاعَةٌ بِإِطْلَاقٍ ; لِأَنَّ كُلَّ مُبَاحٍ تُرِكَ حَرَامٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَرَكَ الْمُحَرَّمَاتِ كُلَّهَا عِنْدَ فِعْلِ الْمُبَاحِ ، فَقَدْ شَغَلَ النَّفْسَ بِهِ عَنْ جَمِيعِهَا ، وَهَذَا الثَّانِي أَوْلَى ; لِأَنَّ الْكُلِّيَّةَ هُنَا تَصِحُّ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : كُلُّ مُبَاحٍ وَسِيلَةٌ إِلَى مُحَرَّمٍ أَوْ مَنْهِيٍّ عَنْهُ بِإِطْلَاقٍ ، فَظَهَرَ أَنَّ مَا اعْتُرِضَ بِهِ لَا يَنْهَضُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْمُبَاحِ طَاعَةٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : " إِنَّهُ سَبَبٌ فِي طُولِ الْحِسَابِ " فَجَوَابُهُ مِنْ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ فَاعِلَ الْمُبَاحِ إِنْ كَانَ يُحَاسَبُ عَلَيْهِ ; لَزِمَ أَنْ يَكُونَ التَّارِكُ
[ ص: 181 ] مُحَاسَبًا عَلَى تَرْكِهِ ، مِنْ حَيْثُ كَانَ التَّرْكُ فِعْلًا ، وَلِاسْتِوَاءِ نِسْبَةِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ شَرْعًا ، وَإِذْ ذَاكَ يَتَنَاقَضُ الْأَمْرُ عَلَى فَرْضِ الْمُبَاحِ ، وَذَلِكَ مُحَالٌ فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ .
وَأَيْضًا ; فَإِنَّهُ إِذَا تَمَسَّكَ بِأَنَّ حَلَالَهَا حِسَابٌ ، ثُمَّ قَضَى بِأَنَّ التَّارِكَ لَا يُحَاسَبُ ، مَعَ أَنَّهُ آتٍ بِحَلَالٍ وَهُوَ التَّرْكُ ، فَقَدْ صَارَ الْحَلَالُ سَبَبًا لِطُولِ الْحِسَابِ وَغَيْرَ سَبَبٍ لَهُ ، لِأَنَّ طُولَ الْحِسَابِ إِنَّمَا نِيطَ بِهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ حَلَالًا بِالْفَرْضِ ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ مِنَ الْقَوْلِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْحِسَابَ إِنْ كَانَ يَنْهَضُ سَبَبًا لِطَلَبِ التَّرْكِ ، لَزِمَ أَنْ يُطْلَبَ تَرْكُ الطَّاعَاتِ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ مَسْئُولًا عَنْهَا كُلِّهَا ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=6فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [ الْأَعْرَافِ : 6 ] فَقَدِ انْحَتَمَ عَلَى الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، أَنْ يُسْأَلُوا عَنِ الرِّسَالَةِ وَتَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مَانِعًا مِنَ الْإِتْيَانِ بِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمُكَلَّفِينَ .
لَا يُقَالُ : إِنَّ الطَّاعَاتِ يُعَارِضُ طَلَبَ تَرْكِهَا طَلَبُهَا .
لِأَنَّا نَقُولُ : كَذَلِكَ الْمُبَاحُ ؛ يُعَارِضُ طَلَبَ تَرْكِهِ التَّخْيِيرُ فِيهِ ، وَإِنَّ فِعْلَهُ وَتَرْكَهُ فِي قَصْدِ الشَّارِعِ بِمَثَابَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحِسَابِ عَلَى تَنَاوُلِ الْحَلَالِ قَدْ يُقَالُ : إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ نَفْسِ الْمُبَاحِ ; فَإِنَّ الْمُبَاحَ هُوَ أَكْلُ كَذَا مَثَلًا ، وَلَهُ مُقَدِّمَاتٌ وَشُرُوطٌ وَلَوَاحِقُ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاتِهَا ، فَإِذَا رُوعِيَتْ صَارَ الْأَكْلُ مُبَاحًا ، وَإِنْ لَمْ تُرَاعَ كَانَ التَّسَبُّبُ وَالتَّنَاوُلُ غَيْرَ مُبَاحٍ .
وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَالْمُبَاحُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ لَهُ أَرْكَانٌ ، وَشُرُوطٌ ، وَمَوَانِعُ ، وَلَوَاحِقُ تُرَاعَى ، وَالتَّرْكُ فِي هَذَا كُلِّهِ كَالْفِعْلِ ، فَكَمَا أَنَّهُ إِذَا تَسَبَّبَ لِلْفِعْلِ ، كَانَ تَسَبُّبُهُ مَسْئُولًا عَنْهُ ، كَذَلِكَ إِذَا تَسَبَّبَ إِلَى التَّرْكِ كَانَ مَسْئُولًا عَنْهُ .
[ ص: 182 ] وَلَا يُقَالُ : إِنَّ الْفِعْلَ كَثِيرُ الشُّرُوطِ وَالْمَوَانِعِ ، وَمُفْتَقِرٌ إِلَى أَرْكَانٍ بِخِلَافِ التَّرْكِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ فِيهِ قَلِيلٌ ، وَقَدْ يَكْفِي مُجَرَّدُ الْقَصْدِ إِلَى التَّرْكِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : حَقِيقَةُ الْمُبَاحِ إِنَّمَا تَنْشَأُ بِمُقَدِّمَاتٍ ، كَانَ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا ، وَلَوْ بِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ .
وَأَيْضًا ; فَإِنَّ الْحُقُوقَ تَتَعَلَّقُ بِالتَّرْكِ كَمَا تَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ ، مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ أَوْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ أَوْ مِنْهُمَا جَمِيعًا ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ .
وَتَأَمَّلْ حَدِيثَ
سَلْمَانَ nindex.php?page=showalam&ids=4وَأَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يُبَيِّنْ لَكَ هُوَ ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ - أَنَّ الْفِعْلَ وَالتَّرْكَ فِي الْمُبَاحِ عَلَى الْخُصُوصِ ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، فَالْحِسَابُ يَتَعَلَّقُ بِطَرِيقِ التَّرْكِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِطَرِيقِ الْفِعْلِ ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ; ثَبَتَ أَنَّ الْحِسَابَ إِنْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى طَرِيقِ الْمُبَاحِ ؛ فَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ سَوَاءٌ ، وَإِنْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى نَفْسِ الْمُبَاحِ أَوْ إِلَيْهِمَا مَعًا ; فَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ أَيْضًا سَوَاءٌ .
وَأَيْضًا ; إِنْ كَانَ فِي الْمُبَاحِ مَا يَقْتَضِي التَّرْكَ ; فَفِيهِ مَا يَقْتَضِي عَدَمَ التَّرْكِ ; لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا امْتَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=10وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=55&ayano=22يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [ الرَّحْمَنِ : 10 - 22 ] .
[ ص: 183 ] وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=14وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=14وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [ النَّحْلِ : 14 ] .
وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=13وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [ الْجَاثِيَةِ : 13 ] .
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي نُصَّ فِيهَا عَلَى الِامْتِنَانِ بِالنِّعَمِ ، وَذَلِكَ يُشْعِرُ بِالْقَصْدِ إِلَى التَّنَاوُلِ وَالِانْتِفَاعِ ، ثُمَّ الشُّكْرِ عَلَيْهَا ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَالتَّرْكُ لَهُ قَصْدًا يُسْأَلُ عَنْهُ ، لِمَ تَرَكْتَهُ ؟ وَلِأَيِّ وَجْهٍ أَعْرَضْتَ عَنْهُ ؟ وَمَا مَنَعَكَ مِنْ تَنَاوُلِ مَا أُحِلَّ لَكَ ، فَالسُّؤَالُ حَاصِلٌ فِي الطَّرَفَيْنِ ، وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ تَقْرِيرٌ فِي الْمُبَاحِ الْخَادِمِ لِغَيْرِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَهَذِهِ الْأَجْوِبَةُ أَكْثَرُهَا جَدَلِيٌّ ، وَالصَّوَابُ فِي الْجَوَابِ أَنَّ تَنَاوُلَ الْمُبَاحِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ مُحَاسَبًا عَلَيْهِ بِإِطْلَاقٍ ، وَإِنَّمَا يُحَاسَبُ عَلَى التَّقْصِيرِ فِي الشُّكْرِ عَلَيْهِ ، إِمَّا فِي جِهَةِ تَنَاوُلِهِ ، وَاكْتِسَابِهِ ، وَإِمَّا فِي جِهَةِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى التَّكْلِيفَاتِ ، فَمَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي ذَلِكَ ، وَعَمِلَ عَلَى مَا أُمِرَ بِهِ فَقَدْ شَكَرَ نِعَمَ اللَّهِ ، وَفِي ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=32قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=32خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [ الْأَعْرَافِ : 32 ] .
أَيْ : لَا تَبِعَةَ فِيهَا ، وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=84&ayano=7فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ nindex.php?page=tafseer&surano=84&ayano=8فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [ الِانْشِقَاقِ : 7 - 8 ] .
وَفَسَّرَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ الْعَرْضُ ، لَا الْحِسَابُ الَّذِي فِيهِ مُنَاقَشَةٌ
[ ص: 184 ] وَعَذَابٌ ، وَإِلَّا لَمْ تَكُنِ النِّعَمُ الْمُبَاحَةُ خَالِصَةً لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=6فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [ الْأَعْرَافِ : 6 ] .
أَعْنِي سُؤَالَ الْمُرْسَلِينَ ، وَيُحَقِّقُهُ أَحْوَالُ السَّلَفِ فِي تَنَاوُلِ الْمُبَاحَاتِ كَمَا سَيُذْكَرُ عَلَى إِثْرِ هَذَا .
وَالثَّانِي : مِنَ الْأُمُورِ الْمُعَارِضَةِ ، أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَالتَّابِعَيْنِ ، وَالْعُلَمَاءِ الْمُتَّقِينَ ; فَإِنَّهُمْ تَوَرَّعُوا عَنِ الْمُبَاحَاتِ كَثِيرًا ، وَذَلِكَ مَنْقُولٌ عَنْهُمْ تَوَاتُرًا ، كَتَرْكِ التَّرَفُّهِ فِي الْمَطْعَمِ ، وَالْمَشْرَبِ ، وَالْمُرَكْبِ ، وَالْمَسْكَنِ ، وَأَعْرَقُهُمْ فِي ذَلِكَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ،
وَأَبُو ذَرٍّ ،
وَسَلْمَانُ ،
nindex.php?page=showalam&ids=5وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ،
nindex.php?page=showalam&ids=8وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ،
وَعَمَّارٌ ، وَغَيْرُهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَانْظُرْ إِلَى مَا حَكَاهُ
ابْنُ حَبِيبٍ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ ، وَكَذَلِكَ
الدَّاوُدِيُّ فِي كِتَابِ " الْأَمْوَالِ " فَفِيهِ الشِّفَاءُ ، وَمَحْصُولُهُ أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْمُبَاحَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُبَاحٌ ، وَلَوْ كَانَ
nindex.php?page=treesubj&link=20585تَرْكُ الْمُبَاحِ غَيْرَ طَاعَةٍ لَمَا فَعَلُوهُ .
وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَذِهِ أَوَّلًا حِكَايَاتُ أَحْوَالٍ ; فَالِاحْتِجَاجُ بِمُجَرَّدِهَا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ
[ ص: 185 ] فِيهَا لَا يُجْدِي ; إِذْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهُمْ لِمَا تَرَكُوهُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُبَاحًا ؛ لِإِمْكَانِ تَرْكِهِ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ حِكَايَاتِ الْأَحْوَالِ بِمُجَرَّدِهَا غَيْرُ مُفِيدَةٍ فِي الِاحْتِجَاجِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِمِثْلِهَا فِي النَّقِيضِ .
فَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ .
وَيَأْكُلُ اللَّحْمَ ، وَيَخْتَصُّ بِالذِّرَاعِ ، وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ .
وَكَانَ يُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ .
[ ص: 186 ] وَيُنْقَعُ لَهُ الزَّبِيبُ وَالتَّمْرُ .
وَيَتَطَيَّبُ بِالْمِسْكِ .
[ ص: 187 ] وَيُحِبُّ النِّسَاءَ .
وَأَيْضًا ; فَقَدْ جَاءَ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ ، وَالْعُلَمَاءِ الْمُتَّقِينَ ، بِحَيْثُ يَقْتَضِي أَنَّ التَّرْكَ عِنْدَهُمْ كَانَ غَيْرَ مَطْلُوبٍ ، وَالْقَطْعُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَطْلُوبَ التَّرْكِ عِنْدَهُمْ شَرْعًا ، لَبَادَرُوا إِلَيْهِ مُبَادَرَتَهُمْ لِكُلِّ نَافِلَةٍ وَبِرٍّ ، وَنِيلِ مَنْزِلَةٍ وَدَرَجَةٍ ; إِذْ لَمْ يُبَادِرْ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى نَوَافِلِ الْخَيْرَاتِ مُبَادَرَتَهُمْ ، وَلَا شَارَكَ أَحَدٌ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ مِمَّنْ قَرُبَ عَهْدُهُ أَوْ بَعُدَ فِي رِفْدِهِ وَمَالِهِ مُشَارَكَتَهُمْ ، يَعْلَمُ ذَلِكَ مَنْ طَالَعَ سِيَرَهُمْ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُونُوا تَارِكِينَ لِلْمُبَاحَاتِ أَصْلًا ، وَلَوْ كَانَ مَطْلُوبًا لَعَلِمُوهُ قَطْعًا ، وَلَعَمِلُوا بِمُقْتَضَاهُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَهُمْ غَيْرُ مَطْلُوبٍ ، بَلْ قَدْ أَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا مِنَ الْمُبَاحَاتِ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ ، وَأَدِلَّةُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ كَثِيرَةٌ ، وَانْظُرْ فِي بَابِ الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْفَقْرِ وَالْغِنَى فِي " مُقَدِّمَاتِ
ابْنِ رُشْدٍ " .
[ ص: 188 ] وَالثَّالِثُ : إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمْ تَرَكُوا مِنْهُ شَيْئًا ، طَلَبًا لِلثَّوَابِ عَلَى تَرْكِهِ ، فَذَلِكَ لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُبَاحٌ فَقَطُّ لِلْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، بَلْ لِأُمُورٍ خَارِجَةٍ ، وَذَلِكَ غَيْرُ قَادِحٍ فِي كَوْنِهِ غَيْرَ مَطْلُوبِ التَّرْكِ - مِنْهَا : أَنَّهُمْ تَرَكُوهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَانِعٌ مِنْ عِبَادَاتٍ ، وَحَائِلٌ دُونَ خَيْرَاتٍ ، فَيُتْرَكُ لِيُمْكِنَ الْإِتْيَانُ بِمَا يُثَابُ عَلَيْهِ ، مِنْ بَابِ التَّوَصُّلِ إِلَى مَا هُوَ مَطْلُوبٌ ، كَمَا كَانَتْ
عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - يَأْتِيهَا الْمَالُ الْعَظِيمُ الَّذِي يُمْكِنُهَا بِهِ التَّوَسُّعُ فِي الْمُبَاحِ فَتَتَصَدَّقُ بِهِ ، وَتُفْطِرُ عَلَى أَقَلِّ مَا يَقُومُ بِهِ الْعَيْشُ ، وَلَمْ يَكُنْ تَرْكُهَا التَّوَسُّعَ مِنْ حَيْثُ كَانَ التَّرْكُ مَطْلُوبًا ، وَهَذَا هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ .
- وَمِنْهَا : أَنَّ بَعْضَ الْمُبَاحَاتِ قَدْ يَكُونُ مُورِثًا لِبَعْضِ النَّاسِ أَمْرًا لَا يَخْتَارُهُ لِنَفْسِهِ ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ ، فَيَتْرُكُ الْمُبَاحَ لِمَا يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ ، كَمَا جَاءَ أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا عَذَلُوهُ فِي رُكُوبِهِ الْحِمَارَ فِي مَسِيرِهِ إِلَى
الشَّامِ ، أُتِيَ بِفَرَسٍ ، فَلَمَّا رَكِبَهُ فَهَمْلَجَ تَحْتَهُ ، أَخْبَرَ أَنَّهُ أَحَسَّ مِنْ نَفْسِهِ ، فَنَزَلَ
[ ص: 189 ] عَنْهُ ، وَرَجَعَ إِلَى حِمَارِهِ ، وَكَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْخَمِيصَةِ ذَاتِ الْعَلَمِ ، حِينَ لَبِسَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى عَلَمِهَا فِي الصَّلَاةِ فَكَادَ يَفْتِنُهُ ، وَهُوَ الْمَعْصُومُ ، وَلَكِنَّهُ عَلَّمَ أُمَّتَهُ كَيْفَ يَفْعَلُونَ بِالْمُبَاحِ إِذَا أَدَّاهُمْ إِلَى مَا يُكْرَهُ ، وَكَذَلِكَ
nindex.php?page=treesubj&link=20579قَدْ يَكُونُ الْمُبَاحُ وَسِيلَةً إِلَى مَمْنُوعٍ ، فَيُتْرَكُ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَسِيلَةٌ كَمَا قِيلَ : " إِنِّي لَأَدَعُ بَيْنِي وَبَيْنَ الْحَرَامِ سُتْرَةً مِنَ الْحَلَالِ ، وَلَا أُحَرِّمُهَا " وَفِي الْحَدِيثِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337360لَا يَبْلُغُ الرَّجُلُ دَرَجَةَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ الْبَأْسُ .
[ ص: 190 ] وَهَذَا بِمَثَابَةِ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا مَرَّ لِحَاجَتِهِ عَلَى الطَّرِيقِ الْفُلَانِيَّةِ نَظَرَ إِلَى مُحَرَّمٍ أَوْ تَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ أَوْ نَحْوَهُ .
- وَمِنْهَا : أَنَّهُ قَدْ يَتْرُكُ بَعْضُ النَّاسِ مَا يَظْهَرُ " لِغَيْرِهِ " أَنَّهُ مُبَاحٌ ، إِذَا تَخَيَّلَ فِيهِ إِشْكَالًا وَشُبْهَةً ، وَلَمْ يَتَخَلَّصْ لَهُ حِلُّهُ ، وَهَذَا مَوْضِعٌ مَطْلُوبُ التَّرْكِ عَلَى الْجُمْلَةِ بِلَا خِلَافٍ ; كَقَوْلِهِ : " كُنَّا نَدَعُ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ الْبَأْسُ " وَلَمْ يَتْرُكُوا كُلَّ مَا لَا بَأْسَ بِهِ ، وَإِنَّمَا تَرَكُوا مَا خَشُوا أَنْ يُفْضِيَ بِهِمْ إِلَى مَكْرُوهٍ أَوْ مَمْنُوعٍ .
- وَمِنْهَا : أَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=20579قَدْ يَتْرُكُ الْمُبَاحَ لِأَنَّهُ لَمْ تَحْضُرْهُ نِيَّةٌ فِي تَنَاوُلِهِ ; إِمَّا لِلْعَوْنِ بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ كُلُّهُ خَالِصًا لِلَّهِ ، لَا يَلْوِي فِيهِ عَلَى حَظِّ نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ هِيَ طَالِبَةٌ لَهُ ; فَإِنَّ مِنْ خَاصَّةِ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَا يُحِبُّ أَنْ يَتَنَاوَلَ مُبَاحًا لِكَوْنِهِ مُبَاحًا ، بَلْ يَتْرُكُهُ حَتَّى يَجِدَ لِتَنَاوُلِهِ قَصْدَ عِبَادَةٍ أَوْ عَوْنًا عَلَى
[ ص: 191 ] عِبَادَةٍ ، أَوْ يَكُونُ أَخْذُهُ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْإِذْنِ لَا مِنْ جِهَةِ الْحَظِّ ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ نَوْعٌ مِنَ الشُّكْرِ بِخِلَافِ الثَّانِي ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتْرُكَهُ حَتَّى يَصِيرَ مَطْلُوبًا كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَنَحْوِهِمَا ; فَإِنَّهُ - إِذَا كَانَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ - مُبَاحٌ ، كَأَكْلِ بَعْضِ الْفَوَاكِهِ ، فَيَدَعُ التَّنَاوُلَ إِلَى زَمَانِ الْحَاجَةِ إِلَى الْغِذَاءِ ، ثُمَّ يَأْكُلُ قَصْدًا لِإِقَامَةِ الْبِنْيَةِ ، وَالْعَوْنِ عَلَى الطَّاعَةِ ، وَهَذِهِ كُلُّهَا أَغْرَاضٌ صَحِيحَةٌ مَنْقُولَةٌ عَنِ السَّلَفِ ، وَغَيْرُ قَادِحَةٍ فِي مَسْأَلَتِنَا .
- وَمِنْهَا : أَنْ يَكُونَ التَّارِكُ مَأْخُوذَ الْكُلِّيَّةِ فِي عِبَادَةٍ مِنْ عِلْمٍ أَوْ تَفَكُّرٍ أَوْ عَمِلٍ ، مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ ، فَلَا تَجِدُهُ يَسْتَلِذُّ بِمُبَاحٍ ، وَلَا يَنْحَاشُ قَلْبُهُ إِلَيْهِ ، وَلَا يُلْقِي إِلَيْهِ بَالًا ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا ، فَالتَّرْكُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُشْبِهُ الْغَفْلَةَ عَنِ الْمَتْرُوكِ ، وَالْغَفْلَةُ عَنْ تَنَاوُلِ الْمُبَاحِ لَيْسَ بِطَاعَةٍ ، بَلْ هُوَ فِي طَاعَةٍ بِمَا اشْتَغَلَ بِهِ ، وَقَدْ نُقِلَ مِثْلُ هَذَا عَنْ
عَائِشَةَ حِينَ أُتِيَتْ بِمَالٍ عَظِيمٍ فَقَسَّمَتْهُ ، وَلَمْ تُبْقِ لِنَفْسِهَا شَيْئًا ، فَعُوتِبَتْ عَلَى تَرْكِهَا نَفْسَهَا دُونَ شَيْءٍ ، فَقَالَتْ : " لَا تُعَنِّينِي ، لَوْ كُنْتِ ذَكَّرْتِنِي لَفَعَلْتُ " ، وَيَتَّفِقُ مِثْلُ هَذَا لِلصُّوفِيَّةِ ، وَكَذَلِكَ إِذَا تَرَكَ الْمُبَاحَ لِعَدَمِ قِيَامِ النَّفْسِ لَهُ ، هُوَ فِي حُكْمِ الْمَغْفُولِ عَنْهُ .
- وَمِنْهَا : أَنَّهُ قَدْ
nindex.php?page=treesubj&link=20579يَرَى بَعْضَ مَا يَتَنَاوَلُهُ مِنَ الْمُبَاحِ إِسْرَافًا ، وَالْإِسْرَافُ مَذْمُومٌ ، وَلَيْسَ فِي الْإِسْرَافِ حَدٌّ يُوقَفُ دُونَهُ كَمَا فِي الْإِقْتَارِ ، فَيَكُونُ التَّوَسُّطُ
[ ص: 192 ] رَاجِعًا إِلَى الِاجْتِهَادِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ ; فَيَرَى الْإِنْسَانُ بَعْضَ الْمُبَاحَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالِهِ دَاخِلًا تَحْتَ الْإِسْرَافِ فَيَتْرُكُهُ لِذَلِكَ ، وَيَظُنُّ مَنْ يَرَاهُ مِمَّنْ لَيْسَ ذَلِكَ - إِسْرَافًا فِي حَقِّهِ ؛ أَنَّهُ تَارِكٌ لِلْمُبَاحِ ، وَلَا يَكُونُ كَمَا ظَنَّ ; فَكُلُّ أَحَدٍ فِيهِ فَقِيهُ نَفْسِهِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=20579التَّفَقُّهَ فِي الْمُبَاحِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِسْرَافِ وَعَدَمِهِ وَالْعَمَلَ عَلَى ذَلِكَ - مَطْلُوبٌ ، وَهُوَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ تَنَاوُلِ الْمُبَاحِ ، وَلَا يَصِيرُ بِذَلِكَ الْمُبَاحُ مَطْلُوبَ التَّرْكِ ، وَلَا مَطْلُوبَ الْفِعْلِ ، كَدُخُولِ الْمَسْجِدِ لِأَمْرٍ مُبَاحٍ هُوَ مُبَاحٌ ، وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَكُونَ جُنُبًا ، وَالنَّوَافِلُ مِنْ شَرْطِهَا الطَّهَارَةُ وَذَلِكَ وَاجِبٌ ، وَلَا يَصِيرُ دُخُولُ الْمَسْجِدِ وَلَا النَّافِلَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ - وَاجِبَيْنِ ، فَكَذَلِكَ هُنَا تَنَاوُلُ الْمُبَاحِ مَشْرُوطٌ بِتَرْكِ الْإِسْرَافِ ، وَلَا يَصِيرُ ذَمُّ الْإِسْرَافِ فِي الْمُبَاحِ ذَمًّا لِلْمُبَاحِ مُطْلَقًا .
وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْحِكَايَاتِ فِي تَرْكِ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ عَمَّنْ تَقَدَّمَ ، فَلَا تَعْدُو هَذِهِ الْوُجُوهَ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا تَكُونُ فِيهَا مُعَارَضَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالثَّالِثُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُعَارِضَةِ : مَا ثَبَتَ مِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=24626فَضِيلَةِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا ، وَتَرْكِ لَذَّاتِهَا ، وَشَهَوَاتِهَا ، وَهُوَ مِمَّا اتُّفِقَ عَلَى مَدْحِ صَاحِبِهِ شَرْعًا ، وَذَمِّ تَارِكِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ ، حَتَّى قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14919الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ : " جُعِلَ الشَّرُّ كُلُّهُ فِي بَيْتٍ ، وَجُعِلَ مِفْتَاحُهُ حُبَّ الدُّنْيَا ، وَجُعِلَ الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي بَيْتٍ ، وَجُعِلَ مِفْتَاحُهُ الزُّهْدَ " .
وَقَالَ
الْكَتَّانِيُّ الصُّوفِيُّ : " الشَّيْءُ الَّذِي لَمْ يُخَالِفُ فِيهِ كُوفِيٌّ ، وَلَا مَدَنِيٌّ ،
[ ص: 193 ] وَلَا عِرَاقِيٌّ ، وَلَا شَامِيٌّ - الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا ، وَسَخَاوَةُ النَّفْسِ ، وَالنَّصِيحَةُ لِلْخَلْقِ " .
قَالَ
الْقُشَيْرِيُّ : يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا يَقُولُ أَحَدٌ : إِنَّهَا غَيْرُ مَحْمُودَةٍ ، وَالْأَدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى هَذَا لَا تَكَادُ تَنْحَصِرُ ،
nindex.php?page=treesubj&link=24625وَالزُّهْدُ حَقِيقَةً إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَلَالِ ، أَمَّا الْحَرَامُ ; فَالزُّهْدُ فِيهِ لَازِمٌ مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ ، عَامٌّ فِي أَهْلِ الْإِيمَانِ ، لَيْسَ مِمَّا يَتَجَارَى فِيهِ خَوَاصُّ الْمُؤْمِنِينَ مُقْتَصِرِينَ عَلَيْهِ فَقَطُّ ، وَإِنَّمَا تَجَارَوْا فِيمَا صَارُوا بِهِ مِنَ الْخَوَاصِّ ، وَهُوَ الزُّهْدُ فِي الْمُبَاحِ ، فَأَمَّا الْمَكْرُوهُ فَذُو طَرَفَيْنِ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمُحَالٌ عَادَةً أَنْ يَتَجَارَوْا فِيهِ هَذِهِ الْمُجَارَاةَ ، وَهُوَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ ، وَمُحَالٌ أَنْ يُمْدَحَ شَرْعًا مَعَ اسْتِوَاءِ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ .
وَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=24625الزُّهْدَ - فِي الشَّرْعِ - مَخْصُوصٌ بِمَا طُلِبَ تَرْكُهُ حَسْبَمَا يَظْهَرُ مِنَ الشَّرِيعَةِ ، فَالْمُبَاحُ فِي نَفْسِهِ خَارِجٌ عَنْ ذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ ، فَإِذَا أَطْلَقَ بَعْضُ الْمُعَبِّرِينَ لَفْظَ الزُّهْدِ عَلَى تَرْكِ الْحَلَالِ ، فَعَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يَفُوتُ مِنَ الْخَيْرَاتِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ .
وَالثَّانِي : أَنَّ أَزْهَدَ الْبَشَرِ لَمْ يَتْرُكِ الطَّيِّبَاتِ جُمْلَةً إِذَا وَجَدَهَا ، وَكَذَلِكَ مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ مَعَ تَحَقُّقِهِمْ فِي مَقَامِ الزُّهْدِ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=20585تَرْكَ الْمُبَاحَاتِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ ; فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قَصْدٍ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ ، بَلْ هُوَ غَفْلَةٌ ، لَا يُقَالُ فِيهِ : " مُبَاحٌ " فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ فِيهِ : " زُهْدٌ " ، وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ بِقَصْدٍ ; فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
[ ص: 194 ] الْقَصْدُ مَقْصُورًا عَلَى كَوْنِهِ مُبَاحًا ، فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ ، أَوْ لِأَمْرٍ خَارِجٍ ، فَذَلِكَ الْأَمْرُ إِنْ كَانَ دُنْيَوِيًّا كَالْمَتْرُوكِ ؛ فَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ مُبَاحٍ إِلَى مِثْلِهِ لَا زُهْدٌ ، وَإِنْ كَانَ أُخْرَوِيًّا ; فَالتَّرْكُ إِذًا وَسِيلَةٌ إِلَى ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ ; فَهُوَ فَضِيلَةٌ مِنْ جِهَةِ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ ، لَا مِنْ جِهَةِ مُجَرَّدِ التَّرْكِ ، وَلَا نِزَاعَ فِي هَذَا .
وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَسَّرَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14847الْغَزَّالِيُّ ; إِذْ قَالَ : " الزُّهْدُ عِبَارَةٌ عَنِ انْصِرَافِ الرَّغْبَةِ عَنِ الشَّيْءِ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ " فَلَمْ يَجْعَلْهُ مُجَرَّدَ الِانْصِرَافِ عَنِ الشَّيْءِ خَاصَّةً ، بَلْ بِقَيْدِ الِانْصِرَافِ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ ، وَقَالَ فِي تَفْسِيرِهِ : " وَلَمَّا كَانَ الزُّهْدُ رَغْبَةً عَنْ مَحْبُوبٍ بِالْجُمْلَةِ ، لَمْ يُتَصَوَّرْ إِلَّا بِالْعُدُولِ إِلَى شَيْءٍ هُوَ أَحَبُّ مِنْهُ ، وَإِلَّا فَتَرْكُ الْمَحْبُوبِ لِغَيْرِ الْأَحَبِّ مُحَالٌ " . ثُمَّ ذَكَرَ أَقْسَامَ الزُّهْدِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الزُّهْدَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُبَاحِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُبَاحٌ عَلَى حَالٍ ، وَمَنْ تَأَمَّلَ كَلَامَ الْمُعْتَبِرِينَ فَهُوَ دَائِرٌ عَلَى هَذَا الْمَدَارِ .