المسألة الثانية
فيقال : إن فالمباح يكون مباحا بالجزء ، مطلوبا بالكل على جهة الندب أو الوجوب ، ومباحا بالجزء منهيا عنه بالكل على جهة الكراهة أو المنع . الإباحة بحسب الكلية والجزئية يتجاذبها الأحكام البواقي ،
فهذه أربعة أقسام :
فالأول : كالتمتع بالطيبات من المأكل والمشرب ، والمركب والملبس ، مما سوى الواجب من ذلك ، والمندوب المطلوب في محاسن العبادات أو المكروه في محاسن العادات ، كالإسراف ; فهو مباح بالجزء ، فلو ترك بعض الأوقات مع القدرة عليه ; لكان جائزا كما لو فعل ، فلو ترك جملة ; [ ص: 207 ] لكان على خلاف ما ندب الشرع إليه ، ففي الحديث : ، وقوله في الآخر حين حسن من هيئته أليس هذا أحسن ؟ ، وقوله : إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم ، وإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده بعد قول الرجل : إن الله [ ص: 208 ] جميل يحب الجمال ، وكثير من ذلك ، وهكذا لو ترك الناس كلهم ذلك لكان مكروها . إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ، ونعله حسنة
والثاني : كالأكل ، والشرب ، ووطء الزوجات ، والبيع والشراء ، ووجوه الاكتسابات الجائزة ; كقوله تعالى : وأحل الله البيع وحرم الربا [ البقرة : 275 ] .
أحل لكم صيد البحر وطعامه [ المائدة : 96 ] .
أحلت لكم بهيمة الأنعام [ المائدة : 1 ] .
وكثير من ذلك ، كل هذه الأشياء مباحة بالجزء ; أي : إذا اختار أحد هذه الأشياء على ما سواها ; فذلك جائز ، أو تركها الرجل في بعض الأحوال أو الأزمان ، [ ص: 209 ] أو تركها بعض الناس - لم يقدح ذلك ، فلو فرضنا ترك الناس كلهم ذلك لكان تركا لما هو من الضروريات المأمور بها ، فكان الدخول فيها واجبا بالكل .
والثالث : كالتنزه في البساتين ، وسماع تغريد الحمام ، والغناء المباح ، واللعب المباح بالحمام ، أو غيرها ؛ فمثل هذا مباح بالجزء ، فإذا فعل يوما ما أو في حالة ما - فلا حرج فيه ; فإن فعل دائما كان مكروها ، ونسب فاعله إلى قلة العقل ، وإلى خلاف محاسن العادات ، وإلى الإسراف في فعل ذلك المباح .
والرابع : كالمباحات التي تقدح في العدالة المداومة عليها ، وإن كانت مباحة ; فإنها لا تقدح إلا بعد أن يعد صاحبها خارجا عن هيئات أهل العدالة ، وأجري صاحبها مجرى الفساق ، وإن لم يكن كذلك ; ، وما ذلك إلا لذنب اقترفه شرعا ، وقد قال : " إن المداومة على المباح قد تصيره صغيرة ، كما أن المداومة على الصغيرة تصيرها كبيرة " ، ومن هنا قيل : " لا صغيرة مع [ ص: 210 ] الإصرار . الغزالي
[ ص: 211 ]