[ ص: 307 ] المسألة الثانية  
التشابه قد علم أنه واقع في الشرعيات ، لكن النظر في مقدار الواقع منه هل هو قليل أم كثير   ؟ والثابت من ذلك القلة لا الكثرة لأمور .  
أحدها : النص الصريح ، وذلك قوله تعالى :  هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات      [ آل عمران : 7 ] فقوله في المحكمات :  هن أم الكتاب   يدل أنها المعظم والجمهور ، وأم الشيء معظمه ، وعامته كما قالوا أم الطريق بمعنى معظمه ، وأم الدماغ بمعنى الجلدة الحاوية له الجامعة لأجزائه ونواحيه والأم أيضا الأصل ولذلك قيل لمكة أم القرى ; لأن الأرض دحيت من تحتها والمعنى يرجع إلى الأول ، فإذا كان كذلك فقوله تعالى :  وأخر متشابهات      [ آل عمران : 7 ] إنما يراد بها القليل .  
 [ ص: 308 ] والثاني : أن المتشابه لو كان كثيرا لكان الالتباس والإشكال كثيرا ، وعند ذلك لا يطلق على القرآن أنه بيان ، وهدى كقوله تعالى :  هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين      [ آل عمران : 138 ] ، وقوله تعالى :  هدى للمتقين      [ البقرة : 2 ] ،  وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم      [ النحل : 44 ] .  
وإنما نزل القرآن ليرفع الاختلاف الواقع بين الناس ، والمشكل الملتبس إنما هو إشكال وحيرة لا بيان وهدى ، لكن الشريعة إنما هي بيان وهدى فدل على أنه ليس بكثير ولولا أن الدليل أثبت أن فيه متشابها لم يصح القول به ، لكن ما جاء فيه من ذلك فلم يتعلق بالمكلفين حكم من جهته زائد على الإيمان به ، وإقراره كما جاء ، وهذا واضح .  
والثالث : الاستقراء ، فإن المجتهد إذا نظر في أدلة الشريعة جرت له على قانون النظر واتسقت أحكامها وانتظمت أطرافها على وجه واحد كما قال تعالى :  كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير      [ هود : 1 ] ، وقال تعالى :  تلك آيات الكتاب الحكيم      [ يونس : 1 ] ، وقال تعالى :  الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها      [ الزمر : 23 ] يعني يشبه بعضه بعضا ، ويصدق أوله آخره ، وآخره أوله ، أعني أوله وآخره في النزول .  
 [ ص: 309 ] فإن قيل : كيف يكون المتشابه قليلا ، وهو كثير جدا على الوجه الذي فسر به آنفا ، فإنه قد دخل فيه من المنسوخ والمجمل والعام والمطلق والمؤول كثير وكل نوع من هذه الأنواع يحتوي على تفاصيل كثيرة ، ويكفيك من ذلك الخبر المنقول  عن   ابن عباس  حيث قال : لا عام إلا مخصص إلا قوله تعالى :  والله بكل شيء عليم      [ البقرة : 282 ] .  
وإذا نظر المتأمل إلى أدلة الشرع على التفصيل مع قواعدها الكلية ألفيت لا تجري على معهود الاطراد فالواجبات من الضروريات أوجبت على حكم الإطلاق والعموم في الظاهر ، ثم جاءت الحاجيات والتكميليات والتحسينيات فقيدتها على وجوه شتى ، وأنحاء لا تنحصر ، وهكذا سائر ما ذكر مع العام .  
ثم إنك لا تجد المسائل المتفق عليها من الشريعة بالنسبة إلى ما اختلف فيه إلا القليل ، ومعلوم أن المتفق عليه واضح ، وأن المختلف فيه غير واضح ; لأن مثار الاختلاف إنما هو التشابه يقع في مناطه ، وإلى هذا ، فإن الشريعة مبناها في التكليف على الأمر والنهي ، وقد اختلف فيه أولا في معناه ، ثم في      [ ص: 310 ] صيغته ، ثم إذا تعينت له صيغة " افعل " ، أو " لا تفعل " فاختلف في ماذا تقتضيه على أقوال مختلفة فكل ما ينبني على هذا الأصل من فرع متفق عليه ، أو مختلف فيه مختلف فيه أيضا إلى أن يثبت تعيينه إلى جهة بإجماع ، وما أعز ذلك .  
وأيضا فإن الأدلة التي يتلقى معناها من الألفاظ لا تتخلص إلا أن تسلم من القوادح العشرة المذكورة في أول الكتاب ، وذلك عسير جدا ، وأما الإجماع فمتنازع فيه أولا ، ثم إذا ثبت ففي ثبوت كونه حجة باتفاق شروط كثيرة جدا إذا تخلف منها شرط لم يكن حجة ، أو اختلف فيه ، ثم إن العموم مختلف فيه ابتداء هل له صيغة موجودة أم لا ، وإذا قلنا بوجودها ، فلا يعمل منها ما يعمل إلا بشروط تشترط ، وأوصاف تعتبر ، وإلا لم يعتبر ، أو اختلف في اعتباره ، وكذلك المطلق مع مقيده .  
وأيضا فإذا كان معظم الأدلة غير نصوص ، بل محتملة للتأويل لم يستقر منها للناظر دليل يسلم بإطلاق ،      [ ص: 311 ] ثم  أخبار الآحاد هي عمدة الشريعة   ، وهى أكثر الأدلة ، ويتطرق إليها من جهة الأسانيد ضعف حتى إنها مختلف في كونها حجة أم لا ، وإذا كانت حجة فلها شروط أيضا إن اختلت لم تعمل ، أو اختلف في إعمالها ، ومن جملة ما يقتنص منه الأحكام المفهوم ، وكله مختلف فيه ، فلا مسألة تتفرع عنه متفقا عليه .  
ثم إذا رجعنا إلى القياس أتى الوادي بطمه على القرى بسبب اختلافهم فيه أولا ، ثم في أصنافه ، ثم في مسالك علله ، ثم في شروط صحته ولا بد مع ذلك أن يسلم من خمسة وعشرين اعتراضا ، وما أبعد هذا من التخلص حتى يصير مقتضاه حكما ظاهرا جليا .  
وأيضا فإن كل استدلال شرعي مبني على مقدمتين .  
إحداهما شرعية ، وفيها من النظر ما فيها ، ومقدمة نظرية تتعلق بتحقيق المناط وليس كل مناط معلوما بالضرورة ، بل الغالب أنه نظري ، فقد صار غالب أدلة الشرع نظرية ، وقد زعم  ابن الجويني  أن المسائل النظرية العقلية لا يمكن الاتفاق فيها عادة ، وهو رأي  القاضي  أيضا والنظرية غير العقلية المحضة أولى أن لا يقع الاتفاق فيها فهذا كله مما يبين لك أن المتشابهات في الشريعة كثيرة جدا بخلاف ما تقدم الاستدلال عليه .  
فالجواب أن هذا كله لا دليل فيه أما المتشابه بحسب التفسير المذكور      [ ص: 312 ] وإن دخل فيه تلك الأنواع كلها التي مدار الأدلة عليها ، فلا تشابه فيها بحسب الواقع ; إذ هي قد فسرت بالعموم المراد به الخصوص قد نصب الدليل على تخصيصه ، وبين المراد به ، وعلى ذلك يدل قول   ابن عباس  لا عام إلا مخصص فأي تشابه فيه ، وقد حصل بيانه ، ومثله سائر الأنواع ، وإنما يكون متشابها عند عدم بيانه والبرهان قائم على البيان ، وأن الدين قد كمل قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك لا يقتصر ذو الاجتهاد على التمسك بالعام مثلا حتى يبحث عن مخصصه ، وعلى المطلق حتى ينظر هل له مقيد أم لا إذا كان حقيقة البيان مع الجمع بينهما فالعام مع خاصه هو الدليل ، فإن فقد الخاص صار العام مع إرادة الخصوص فيه من قبيل المتشابه وصار ارتفاعه زيغا وانحرافا عن الصواب .  
 [ ص: 313 ] ولأجل ذلك  عدت  المعتزلة   من أهل الزيغ   حيث اتبعوا نحو قوله تعالى  اعملوا ما شئتم      [ فصلت : 40 ] ، وقوله  فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر      [ الكهف : 29 ] .  
وتركوا مبينه ، وهو قوله :  وما تشاءون إلا أن يشاء الله      [ التكوير : 29 ] واتبع  الخوارج   نحو قوله تعالى :  إن الحكم إلا لله      [ يوسف : 40 ] ، وتركوا مبينه ، وهو قوله :  يحكم به ذوا عدل منكم هديا      [ المائدة : 95 ] الآية ، وقوله :  فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها      [ النساء : 35 ] واتبع  الجبرية   نحو قوله :  والله خلقكم وما تعملون      [ الصافات : 96 ] ، وتركوا بيانه ، وهو قوله :  جزاء بما كانوا يكسبون      [ التوبة : 82 و 95 ] ، وما أشبهه ، وهكذا سائر من اتبع هذه الأطراف من غير نظر فيما وراءها ولو جمعوا      [ ص: 314 ] بين ذلك ، ووصلوا ما أمر الله به أن يوصل لوصلوا إلى المقصود ، فإذا ثبت هذا فالبيان مقترن بالمبين ، فإذا أخذ المبين من غير بيان صار متشابها وليس بمتشابه في نفسه شرعا ، بل الزائغون أدخلوا فيه التشابه على أنفسهم فضلوا عن الصراط المستقيم ، وبيان هذا المعنى يتقرر بفرض قاعدة ، وهي .  
				
						
						
