[ ص: 57 ] المسألة السادسة
nindex.php?page=treesubj&link=21135العموم إذا ثبت ; فلا يلزم أن يثبت من جهة صيغ العموم فقط ، بل له طريقان : أحدهما : الصيغ إذا وردت وهو المشهور في كلام أهل الأصول .
والثاني استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام ; فيجري في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ ، والدليل على صحة هذا الثاني وجوه : أحدها : أن الاستقراء هكذا شأنه ; فإنه تصفح جزئيات ذلك المعنى ليثبت من جهتها حكم عام ; إما قطعي ، وإما ظني ، وهو أمر مسلم عند أهل العلوم العقلية والنقلية ; فإذا تم الاستقراء حكم به مطلقا في كل فرد يقدر ، وهو معنى العموم المراد في هذا الموضع .
والثاني : أن
nindex.php?page=treesubj&link=21458التواتر المعنوي هذا معناه ; فإن جود
حاتم مثلا إنما ثبت على الإطلاق من غير تقييد ، وعلى العموم من غير تخصيص ، بنقل وقائع خاصة متعددة تفوت الحصر ، مختلفة في الوقوع ، متفقة في معنى الجود ، حتى حصلت للسامع معنى كليا حكم به على
حاتم وهو الجود ، ولم يكن خصوص
[ ص: 58 ] الوقائع قادحا في هذه الإفادة ، فكذلك إذا فرضنا أن
nindex.php?page=treesubj&link=30504رفع الحرج في الدين مثلا مفقود فيه صيغة عموم ; فإنا نستفيده من نوازل متعددة خاصة ، مختلفة الجهات متفقة في أصل رفع الحرج ، كما إذا وجدنا التيمم شرع عند مشقة طلب الماء ، والصلاة قاعدا عند مشقة القيام ، والقصر والفطر في السفر ، والجمع بين الصلاتين في السفر والمرض والمطر ، والنطق بكلمة الكفر عند مشقة القتل والتأليم ، وإباحة الميتة وغيرها عند خوف التلف الذي هو أعظم المشقات ، والصلاة إلى أي جهة كانت لعسر استخراج القبلة ، والمسح على الجبائر والخفين لمشقة النزع ولرفع الضرر ، والعفو في الصيام عما يعسر الاحتراز منه من المفطرات كغبار الطريق ونحوه ، إلى جزئيات كثيرة جدا يحصل من مجموعها قصد الشارع لرفع الحرج ; فإنا نحكم بمطلق رفع الحرج في الأبواب كلها ، عملا بالاستقراء ; فكأنه عموم لفظي ، فإذا ثبت اعتبار التواتر المعنوي
[ ص: 59 ] ثبت في ضمنه ما نحن فيه ، والثالث : أن
nindex.php?page=treesubj&link=22144قاعدة سد الذرائع إنما عمل السلف بها بناء على هذا المعنى كعملهم في ترك الأضحية مع القدرة عليها ، وكإتمام عثمان الصلاة
[ ص: 60 ] في حجه بالناس ، وتسليم الصحابة له في عذره الذي اعتذر به من سد الذريعة ، إلى غير ذلك من أفرادها التي عملوا بها ، مع أن المنصوص فيها إنما هي أمور خاصة ; كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=104يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا [ البقرة : 104 ] وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=108ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم [ الأنعام : 108 ] وفي الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337750من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه وأشباه ذلك ، وهي أمور خاصة لا تتلاقى مع ما حكموا به إلا في معنى سد الذريعة ، وهو دليل على ما ذكر من غير إشكال .
فإن قيل : اقتناص المعاني الكلية من الوقائع الجزئية غير بين ، من أوجه : أحدها : أن ذلك إنما يمكن في العقليات لا في الشرعيات ; لأن المعاني العقلية بسائط لا تقبل التركيب ، ومتفقة لا تقبل الاختلاف ; فيحكم العقل
[ ص: 61 ] فيها على الشيء بحكم مثله شاهدا وغائبا ; لأن فرض خلافه محال عنده ، بخلاف الوضعيات ; فإنها لم توضع وضع النقليات ، وإلا كانت هي هي بعينها ; فلا تكون وضعية ، هذا خلف ، وإذا لم توضع وضعها ، وإنما وضعت على وفق الاختيار الذي يصح معه التفرقة بين الشيء ومثله ، والجمع بين الشيء وضده ونقيضه ; لم يصح مع ذلك أن يقتنص فيها معنى كلي عام من معنى جزئي خاص .
والثاني : أن الخصوصيات تستلزم من حيث الخصوص معنى زائدا على ذلك المعنى العام ، أو معاني كثيرة ، وهذا واضح في المعقول ; لأن ما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، وإذ ذاك لا يتعين تعلق الحكم الشرعي في ذلك الخاص بمجرد الأمر العام دون التعلق بالخاص على الانفراد ، أو بهما معا ; فلا يتعين متعلق الحكم ، وإذا لم يتعين ; لم يصح نظم المعنى الكلي من تلك الجزئيات إلا عند فرض العلم بأن الحكم لم يتعلق إلا بالمعنى المشترك العام دون غيره وذلك لا يكون إلا بدليل ، وعند وجود ذلك الدليل لا يتبقى تعلق بتلك الجزئيات في استفادة معنى عام للاستغناء بعموم صيغة ذلك الدليل عن هذا العناء الطويل .
والثالث : أن
nindex.php?page=treesubj&link=21172التخصيصات في الشريعة كثيرة ; فيخص محل
[ ص: 62 ] بحكم ويخص مثله بحكم آخر وكذلك يجمع بين المختلفات في حكم واحد .
ولذلك أمثلة كثيرة ; كجعل التراب طهورا كالماء ، وليس بمطهر كالماء ، بل هو بخلافه ، وإيجاب الغسل من خروج المني دون المذي والبول وغيرهما ، وسقوط الصلاة والصوم عن الحائض ثم قضاء الصوم دون الصلاة ، وتحصين الحرة لزوجها ولم تحصن الأمة سيدها ، والمعنى واحد ، ومنع النظر إلى محاسن الحرة دون محاسن الأمة ، وقطع السارق دون الغاصب والجاحد والمختلس ، والجلد بقذف الزنى دون غيره ، وقبول شاهدين في كل حد ما سوى الزنى ، والجلد بقذف الحر دون قذف العبد ، والتفرقة بين عدتي الوفاة والطلاق ، وحال الرحم لا يختلف فيهما واستبراء الحرة بثلاث حيض ، والأمة بواحدة ، وكالتسوية في الحد بين القذف وشرب الخمر وبين الزنى والمعفو عنه في دم العمد ، وبين المرتد والقاتل ، وفي الكفارة بين الظهار والقتل وإفساد الصوم ، وبين قتل المحرم الصيد عمدا أو خطأ
[ ص: 63 ] وأيضا ; فإن الرجل والمرأة مستويان في أصل التكليف على الجملة ، ومفترقان بالتكليف اللائق بكل واحد منهما ; كالحيض ، والنفاس ، والعدة ، وأشباهها بالنسبة إلى المرأة ، والاختصاص في مثل هذا لا إشكال فيه .
وأما الأول فقد وقع الاختصاص فيه في كثير من المواضع ; كالجمعة ، والجهاد ، والإمامة ولو في النساء ، وفي الخارج النجس من الكبير والصغير ; ففرق بين بول الصبي والصبية ، إلى غير ذلك من المسائل ، مع فقد الفارق في القسم المشترك ، ومثل ذلك العبد ، فإن له اختصاصات في القسم المشترك أيضا ، وإذا ثبت هذا ;لم يصح القطع بأخذ عموم من وقائع مختصة .
فالجواب عن الأول أنه يمكن في الشرعيات إمكانه في العقليات ، والدليل على ذلك قطع السلف الصالح به في مسائل كثيرة ، كما تقدم التنبيه عليه ، فإذا وقع مثله ; فهو واضح في أن الوضع الاختياري الشرعي مماثل للعقلي الاضطراري ; لأنهم لم يعملوا به حتى فهموه من قصد الشارع .
وعن الثاني أنهم لم ينظموا المعنى العام من القضايا الخاصة حتى علموا
[ ص: 64 ] أن الخصوصيات وما به الامتياز غير معتبرة وكذلك الحكم فيمن بعدهم ولو كانت الخصوصيات معتبرة بإطلاق لما صح اعتبار القياس ولارتفع من الأدلة رأسا ، وذلك باطل فما أدى إليه مثله .
وعن الثالث أنه الإشكال المورد على القول بالقياس ; فالذي أجاب به الأصوليون هو الجواب هنا .
[ ص: 57 ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ
nindex.php?page=treesubj&link=21135الْعُمُومُ إِذَا ثَبَتَ ; فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَثْبُتَ مِنْ جِهَةِ صِيَغِ الْعُمُومِ فَقَطْ ، بَلْ لَهُ طَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا : الصِّيَغُ إِذَا وَرَدَتْ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي كَلَامِ أَهْلِ الْأُصُولِ .
وَالثَّانِي اسْتِقْرَاءُ مَوَاقِعِ الْمَعْنَى حَتَّى يَحْصُلَ مِنْهُ فِي الذِّهْنِ أَمْرٌ كُلِّيٌّ عَامٌّ ; فَيَجْرِي فِي الْحُكْمِ مَجْرَى الْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الصِّيَغِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الثَّانِي وُجُوهٌ : أَحَدُهَا : أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ هَكَذَا شَأْنُهُ ; فَإِنَّهُ تَصَفُّحُ جُزْئِيَّاتِ ذَلِكَ الْمَعْنَى لِيَثْبُتَ مِنْ جِهَتِهَا حُكْمٌ عَامٌّ ; إِمَّا قَطْعِيٌّ ، وَإِمَّا ظَنِّيٌّ ، وَهُوَ أَمْرٌ مُسَلَّمٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ ; فَإِذَا تَمَّ الِاسْتِقْرَاءُ حُكِمَ بِهِ مُطْلَقًا فِي كُلِّ فَرْدٍ يُقَدَّرُ ، وَهُوَ مَعْنَى الْعُمُومِ الْمُرَادُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=21458التَّوَاتُرَ الْمَعْنَوِيَّ هَذَا مَعْنَاهُ ; فَإِنَّ جُودَ
حَاتِمٍ مَثَلًا إِنَّمَا ثَبَتَ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ ، وَعَلَى الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ ، بِنَقْلِ وَقَائِعَ خَاصَّةٍ مُتَعَدِّدَةٍ تَفُوتُ الْحَصْرَ ، مُخْتَلِفَةٍ فِي الْوُقُوعِ ، مُتَّفِقَةٍ فِي مَعْنَى الْجُودِ ، حَتَّى حَصَّلَتْ لِلسَّامِعِ مَعْنًى كُلِّيًّا حُكِمَ بِهِ عَلَى
حَاتِمٍ وَهُوَ الْجُودُ ، وَلَمْ يَكُنْ خُصُوصُ
[ ص: 58 ] الْوَقَائِعِ قَادِحًا فِي هَذِهِ الْإِفَادَةِ ، فَكَذَلِكَ إِذَا فَرَضْنَا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30504رَفْعَ الْحَرَجِ فِي الدِّينِ مَثَلًا مَفْقُودٌ فِيهِ صِيغَةُ عُمُومٍ ; فَإِنَّا نَسْتَفِيدُهُ مِنْ نَوَازِلَ مُتَعَدِّدَةٍ خَاصَّةٍ ، مُخْتَلِفَةِ الْجِهَاتِ مُتَّفِقَةٍ فِي أَصْلِ رَفْعِ الْحَرَجِ ، كَمَا إِذَا وَجَدْنَا التَّيَمُّمَ شُرِعَ عِنْدَ مَشَقَّةِ طَلَبِ الْمَاءِ ، وَالصَّلَاةَ قَاعِدًا عِنْدَ مَشَقَّةِ الْقِيَامِ ، وَالْقَصْرَ وَالْفِطْرَ فِي السَّفَرِ ، وَالْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السِّفْرِ وَالْمَرَضِ وَالْمَطَرِ ، وَالنُّطْقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ عِنْدَ مَشَقَّةِ الْقَتْلِ وَالتَّأْلِيمِ ، وَإِبَاحَةَ الْمَيْتَةِ وَغَيْرِهَا عِنْدَ خَوْفِ التَّلَفِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْمَشَقَّاتِ ، وَالصَّلَاةَ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ لِعُسْرِ اسْتِخْرَاجِ الْقِبْلَةِ ، وَالْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ وَالْخُفَّيْنِ لِمَشَقَّةِ النَّزْعِ وَلِرَفْعِ الضَّرَرِ ، وَالْعَفْوَ فِي الصِّيَامِ عَمَّا يَعْسُرُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ مِنَ الْمُفْطِرَاتِ كَغُبَارِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ ، إِلَى جُزْئِيَّاتٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا يَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِهَا قَصْدُ الشَّارِعِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ ; فَإِنَّا نَحْكُمُ بِمُطْلَقِ رَفْعِ الْحَرَجِ فِي الْأَبْوَابِ كُلِّهَا ، عَمَلًا بِالِاسْتِقْرَاءِ ; فَكَأَنَّهُ عُمُومٌ لَفْظِيٌّ ، فَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ
[ ص: 59 ] ثَبَتَ فِي ضِمْنِهِ مَا نَحْنُ فِيهِ ، وَالثَّالِثُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=22144قَاعِدَةَ سَدِّ الذَّرَائِعِ إِنَّمَا عَمِلَ السَّلَفُ بِهَا بِنَاءً عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَعَمَلِهِمْ فِي تَرْكِ الْأُضْحِيَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا ، وَكَإِتْمَامِ عُثْمَانَ الصَّلَاةَ
[ ص: 60 ] فِي حَجِّهِ بِالنَّاسِ ، وَتَسْلِيمِ الصَّحَابَةِ لَهُ فِي عُذْرِهِ الَّذِي اعْتَذَرَ بِهِ مِنْ سَدِّ الذَّرِيعَةِ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفْرَادِهَا الَّتِي عَمِلُوا بِهَا ، مَعَ أَنَّ الْمَنْصُوصَ فِيهَا إِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ خَاصَّةٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=104يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا [ الْبَقَرَةِ : 104 ] وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=108وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [ الْأَنْعَامِ : 108 ] وَفِي الْحَدِيثِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337750مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ ، وَهِيَ أُمُورٌ خَاصَّةٌ لَا تَتَلَاقَى مَعَ مَا حَكَمُوا بِهِ إِلَّا فِي مَعْنَى سَدِّ الذَّرِيعَةِ ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ .
فَإِنْ قِيلَ : اقْتِنَاصُ الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ مِنَ الْوَقَائِعِ الْجُزْئِيَّةِ غَيْرُ بَيِّنٍ ، مِنْ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُمْكِنُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ لَا فِي الشَّرْعِيَّاتِ ; لِأَنَّ الْمَعَانِيَ الْعَقْلِيَّةَ بَسَائِطُ لَا تَقَبَلُ التَّرْكِيبَ ، وَمُتَّفِقَةٌ لَا تَقْبَلُ الِاخْتِلَافَ ; فَيَحْكُمُ الْعَقْلُ
[ ص: 61 ] فِيهَا عَلَى الشَّيْءِ بِحُكْمِ مِثْلِهِ شَاهِدًا وَغَائِبًا ; لِأَنَّ فَرْضَ خِلَافِهِ مُحَالٌ عِنْدَهُ ، بِخِلَافِ الْوَضْعِيَّاتِ ; فَإِنَّهَا لَمْ تُوضَعْ وَضْعَ النَّقْلِيَّاتِ ، وَإِلَّا كَانَتْ هِيَ هِيَ بِعَيْنِهَا ; فَلَا تَكُونُ وَضْعِيَّةً ، هَذَا خَلْفٌ ، وَإِذَا لَمْ تُوضَعْ وَضْعَهَا ، وَإِنَّمَا وُضِعَتْ عَلَى وَفْقِ الِاخْتِيَارِ الَّذِي يَصِحُّ مَعَهُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الشَّيْءِ وَمِثْلِهِ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الشَّيْءِ وَضِدِّهِ وَنَقِيضِهِ ; لَمْ يَصِحَّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُقْتَنَصَ فِيهَا مَعْنًى كُلِّيٌّ عَامٌّ مِنْ مَعْنًى جُزْئِيٍّ خَاصٍّ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْخُصُوصِيَّاتِ تَسْتَلْزِمُ مِنْ حَيْثُ الْخُصُوصِ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الْعَامِّ ، أَوْ مَعَانِيَ كَثِيرَةً ، وَهَذَا وَاضِحُ فِي الْمَعْقُولِ ; لِأَنَّ مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ غَيْرُ مَا بِهِ الِامْتِيَازُ ، وَإِذْ ذَاكَ لَا يَتَعَيَّنُ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِي ذَلِكَ الْخَاصِّ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ الْعَامِّ دُونَ التَّعَلُّقِ بِالْخَاصِّ عَلَى الِانْفِرَادِ ، أَوْ بِهِمَا مَعًا ; فَلَا يَتَعَيَّنُ مُتَعَلِّقُ الْحُكْمِ ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ ; لَمْ يَصِحَّ نَظْمُ الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ مِنْ تِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ إِلَّا عِنْدَ فَرْضِ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَتَعَلَّقْ إِلَّا بِالْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ الْعَامِّ دُونَ غَيْرِهِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِدَلِيلٍ ، وَعِنْدَ وُجُودِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ لَا يَتَبَقَّى تَعَلُّقٌ بِتِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ فِي اسْتِفَادَةِ مَعْنًى عَامٍّ لِلِاسْتِغْنَاءِ بِعُمُومِ صِيغَةِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ عَنْ هَذَا الْعَنَاءِ الطَّوِيلِ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=21172التَّخْصِيصَاتِ فِي الشَّرِيعَةِ كَثِيرَةٌ ; فَيُخَصُّ مَحَلٌّ
[ ص: 62 ] بِحُكْمٍ وَيُخَصُّ مِثْلُهُ بِحُكْمٍ آخَرَ وَكَذَلِكَ يُجْمَعُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ .
وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ ; كَجَعْلِ التُّرَابِ طَهُورًا كَالْمَاءِ ، وَلَيْسَ بِمُطَهِّرٍ كَالْمَاءِ ، بَلْ هُوَ بِخِلَافِهِ ، وَإِيجَابِ الْغُسْلِ مِنْ خُرُوجِ الْمَنِيِّ دُونَ الْمَذْيِ وَالْبَوْلِ وَغَيْرِهِمَا ، وَسُقُوطِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ عَنِ الْحَائِضِ ثُمَّ قَضَاءِ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلَاةِ ، وَتَحْصِينِ الْحُرَّةِ لِزَوْجِهَا وَلَمْ تُحْصِنِ الْأَمَةُ سَيِّدَهَا ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ ، وَمَنْعِ النَّظَرِ إِلَى مَحَاسِنِ الْحُرَّةِ دُونَ مَحَاسِنِ الْأَمَةِ ، وَقَطْعِ السَّارِقِ دُونَ الْغَاصِبِ وَالْجَاحِدِ وَالْمُخْتَلِسِ ، وَالْجَلْدِ بِقَذْفِ الزِّنَى دُونَ غَيْرِهِ ، وَقَبُولِ شَاهِدَيْنِ فِي كُلِّ حَدٍّ مَا سِوَى الزِّنَى ، وَالْجَلْدِ بِقَذْفِ الْحُرِّ دُونَ قَذْفِ الْعَبْدِ ، وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ عِدَّتَيِ الْوَفَاةِ وَالطَّلَاقِ ، وَحَالِ الرَّحِمِ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِمَا وَاسْتِبْرَاءِ الْحُرَّةِ بِثَلَاثِ حِيَضٍ ، وَالْأَمَةِ بِوَاحِدَةٍ ، وَكَالتَّسْوِيَةِ فِي الْحَدِّ بَيْنَ الْقَذْفِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَبَيْنَ الزِّنَى وَالْمَعْفُوِّ عَنْهُ فِي دَمِ الْعَمْدِ ، وَبَيْنَ الْمُرْتَدِّ وَالْقَاتِلِ ، وَفِي الْكَفَّارَةِ بَيْنَ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَإِفْسَادِ الصَّوْمِ ، وَبَيْنَ قَتْلِ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً
[ ص: 63 ] وَأَيْضًا ; فَإِنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ مُسْتَوِيَانِ فِي أَصْلِ التَّكْلِيفِ عَلَى الْجُمْلَةِ ، وَمُفْتَرَقَانِ بِالتَّكْلِيفِ اللَّائِقِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ; كَالْحَيْضِ ، وَالنِّفَاسِ ، وَالْعِدَّةِ ، وَأَشْبَاهِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرْأَةِ ، وَالِاخْتِصَاصُ فِي مِثْلِ هَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ .
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِصَاصُ فِيهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ ; كَالْجُمُعَةِ ، وَالْجِهَادِ ، وَالْإِمَامَةِ وَلَوْ فِي النِّسَاءِ ، وَفِي الْخَارِجِ النَّجِسِ مِنَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ ; فَفَرَّقَ بَيْنَ بَوْلِ الصَّبِيِّ وَالصَّبِيَّةِ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ ، مَعَ فَقْدِ الْفَارِقِ فِي الْقِسْمِ الْمُشْتَرِكِ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْعَبْدُ ، فَإِنَّ لَهُ اخْتِصَاصَاتٍ فِي الْقِسْمِ الْمُشْتَرَكِ أَيْضًا ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ;لَمْ يَصِحَّ الْقَطْعُ بِأَخْذِ عُمُومٍ مِنْ وَقَائِعَ مُخْتَصَّةٍ .
فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يُمْكِنُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ إِمْكَانَهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَطْعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ بِهِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ ، كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ ، فَإِذَا وَقَعَ مِثْلُهُ ; فَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ الْوَضْعَ الِاخْتِيَارِيَّ الشَّرْعِيَّ مُمَاثِلٌ لِلْعَقْلِيِّ الِاضْطِرَارِيِّ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ حَتَّى فَهِمُوهُ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ .
وَعَنِ الثَّانِي أَنَّهُمْ لَمْ يَنْظِمُوا الْمَعْنَى الْعَامَّ مِنَ الْقَضَايَا الْخَاصَّةِ حَتَّى عَلِمُوا
[ ص: 64 ] أَنَّ الْخُصُوصِيَّاتِ وَمَا بِهِ الِامْتِيَازُ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ وَلَوْ كَانَتِ الْخُصُوصِيَّاتُ مُعْتَبَرَةً بِإِطْلَاقٍ لَمَا صَحَّ اعْتِبَارُ الْقِيَاسِ وَلَارْتَفَعَ مِنَ الْأَدِلَّةِ رَأْسًا ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ .
وَعَنِ الثَّالِثِ أَنَّهُ الْإِشْكَالُ الْمُورَدُ عَلَى الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ ; فَالَّذِي أَجَابَ بِهِ الْأُصُولِيُّونَ هُوَ الْجَوَابُ هُنَا .