[ ص: 253 ] المسألة العاشرة  
يصح أن يقع بين الحلال والحرام مرتبة العفو ، فلا يحكم عليه بأنه واحد من الخمسة المذكورة هكذا على الجملة ، ومن الدليل على ذلك أوجه : أحدها : ما تقدم من أن  الأحكام الخمسة إنما تتعلق بأفعال المكلفين   مع القصد إلى الفعل ، وأما دون ذلك فلا ، وإذا لم يتعلق بها حكم منها مع وجدانه ، ممن شأنه أن تتعلق به ، فهو معنى العفو المتكلم فيه ، أي : لا مؤاخذة به .  
والثاني : ما جاء من النص على هذه المرتبة على الخصوص ، فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :  إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها     .  
 [ ص: 254 ] وقال   ابن عباس     : " ما رأيت قوما خيرا من أصحاب  محمد      - صلى الله عليه وسلم - ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض - صلى الله عليه وسلم - كلها في القرآن :  ويسألونك عن المحيض      [ البقرة : 222 ] .  
ويسألونك عن اليتامى      [ البقرة : 220 ] .  
يسألونك عن الشهر الحرام      [ البقرة : 217 ] .  
ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم "     .  
يعني : أن هذا كان الغالب عليهم .  
 [ ص: 255 ] وعن   ابن عباس     - رضي الله عنه - أنه قال : " ما لم يذكر في القرآن ; فهو مما عفا الله عنه " ، وكان يسأل عن الشيء لم يحرم ; فيقول : عفو ، وقيل له : ما تقول في أموال أهل الذمة ، فقال : العفو  ، [ يعني لا تؤخذ منهم زكاة ] .  
وقال   عبيد بن عمير     : " أحل الله حلالا ، وحرم حراما ، فما أحل فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو "     .  
والثالث : ما يدل على هذا المعنى في الجملة ;      [ ص: 256 ] كقوله تعالى :  عفا الله عنك لم أذنت لهم   الآية [ التوبة : 43 ] ; فإنه موضع اجتهاد في الإذن عند عدم النص .  
وقد ثبت في الشريعة  العفو عن الخطأ في الاجتهاد   ، حسبما بسطه الأصوليون ، ومنه قوله تعالى :  لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم      [ الأنفال : 68 ] .  
وقد كان النبي عليه السلام يكره كثرة السؤال فيما لم ينزل فيه حكم ، بناء على حكم البراءة الأصلية ; إذ هي راجعة إلى هذا المعنى ، ومعناها أن الأفعال معها معفو عنها ، وقد قال :  إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم عليهم فحرم عليهم من أجل مسألته     .  
وقال :  ذروني ما تركتكم ; فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم ، ما نهيتكم عنه فانتهوا ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم     .  
 [ ص: 257 ] وقرأ عليه السلام قوله تعالى :  ولله على الناس حج البيت   الآية [ آل عمران : 97 ] ; فقال رجل : يا رسول الله أكل عام ، فأعرض ، ثم قال يا رسول الله أكل عام ، فأعرض ، ثم قال : يا رسول الله أكل عام ، فقال رسول الله : والذي نفسي بيده لو قلتها لوجبت ، ولو وجبت ما قمتم بها ، ولو لم تقوموا بها لكفرتم ، فذروني ما تركتكم  ، ثم ذكر معنى ما تقدم .  
وفي مثل هذا نزلت  يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم   الآية [ المائدة : 101 ] .  
ثم قال :  عفا الله عنها      [ المائدة : 101 ] .  
أي : عن تلك الأشياء ; فهي إذا عفو .  
وقد كره عليه السلام المسائل ، وعابها ، ونهى عن كثرة السؤال ،  وقام يوما وهو يعرف في وجهه الغضب ، فذكر الساعة ، وذكر قبلها أمورا عظاما ، ثم قال : من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه ، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا ، قال  أنس     : فأكثر الناس من البكاء حين سمعوا ذلك ، وأكثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول : سلوني ، فقام   عبد الله بن حذافة السهمي  فقال : من أبي ؟ قال : أبوك  حذافة  ، فلما أكثر أن يقول سلوني ، برك   عمر بن الخطاب  على ركبتيه ، فقال : يا رسول الله رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ،  وبمحمد   نبيا ، قال : فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال  عمر  ذلك   [ ص: 258 ] فنزلت الآية ، وقال أولا :  والذي نفسي بيده ; لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي ، فلم أر كاليوم في الخير والشر  ، وظاهر من هذا المساق أن قوله : سلوني في معرض الغضب تنكيل بهم في السؤال حتى يروا عاقبة السؤال ، ولأجل ذلك جاء قوله تعالى :  إن تبد لكم تسؤكم      [ المائدة : 101 ] ، وقد ظهر من هذه الجملة ما يعفى عنه ، وهو ما نهي عن السؤال عنه .  
فكون الحج لله هو مقتضى الآية كما أن كونه للعام الحاضر تقتضيه أيضا ; فلما سكت عن التكرار كان الذي ينبغي الحمل على أخف محتملاته ، وإن فرض أن الاحتمال الآخر مراد ، فهو مما يعفى عنه ، ومثل هذا قصة أصحاب البقرة لما شددوا بالسؤال ، - وكانوا متمكنين من ذبح أي بقرة شاءوا - ; شدد عليهم حتى ذبحوها ،  وما كادوا يفعلون      [ البقرة : 71 ] .  
 [ ص: 259 ] فهذا كله واضح في أن من أفعال المكلفين ما لا يحسن السؤال عنه ، وعن حكمه ، ويلزم من ذلك أن يكون معفوا عنه ، فقد ثبت أن مرتبة العفو ثابتة ، وأنها ليست من الأحكام الخمسة .  
				
						
						
