الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الرهبة الاجتماعية قضت على مشاعري تجاه الآخرين، فما الحل؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الدكتور/ محمد عبد العليم -وفقه الله-.

أود إفادتكم بوضع علاقاتي الاجتماعية قبل تناول الأدوية: انقطعت عن حضور المناسبات لسنوات، حتى المناسبات التي تُقام في بيتنا لم أكن أحضرها، وأتذرع بالنوم أو الانشغال، وعزفت كذلك عن الاجتماع الأسري مع الوالد وإخوتي، كانت علاقاتي بشكل عام قليلة جدًا لكنها موجودة، إذ كان لدي عدد قليل من الأصدقاء بشكل منفرد، بمعنى أنني كنت أجتمع مع كل شخص لوحده، وليس مع المجموعة.

أذكر في إحدى المرات أنني ذهبت مع صديقي، وعندما وصلنا اتصل اثنان من إخوانه يرغبان بمقابلته، فوصَف لهما المكان، لم أكن أعرفهما، وعند وصولهما شعرت بالارتباك، ولم أتمكن من التفاعل معهما، لدرجة أنني لم أكن أعي ما يقولانه جيدًا، حتى نظر أحدهما إلى أخيه وأشار نحوي مبتسمًا، فشعرت حينها أن لدي مشكلة واضحة، صدمت وفقدت شعوري بمن حولي، وغرقت في أفكاري، فسألني صديقي: ماذا بك؟ فطلبت منه إرجاعي إلى البيت، رغم أن المسافة بعيدة جدًا، لكنني لم أستطع إكمال الجلسة بسبب التعب.

مثل هذا الموقف تكرر معي كثيرًا، ومن يعرفني كان يستغرب ويسألني: ما الذي حصل لك؟

بعد تناول الأدوية قطعت جميع علاقاتي السابقة، وأصبحت أفضل العزلة، وانعدمت مشاعري تجاه زملائي السابقين، ولم أعد أشعر بالشوق إليهم، حتى أنني قابلت الكثير منهم بالصدفة، واستقبلوني بكل حفاوة وترحيب، لكنهم لم يجدوا مني التفاعل الإيجابي أو المشاعر الطيبة، أشعر بأنني لا أشعر بالشوق تجاه أحد.

حتى لو حاولت أن أزرع مشاعر طيبة وأتواصل معهم فإني لا أستطيع تعميق العلاقة، لأن الناس سوف تسألني عن عملي وحياتي، وأنا لا أحب ذلك، لا أرغب في أن يعلموا أنني بدون عمل، ولا زواج، ولا علاقات، ويكتشفوا حالتي.

- حول الصلاة في المسجد:
منذ تحسن حالتي مع الدواء قبل 11 سنة، نشطت في أداء العبادات، لكنني لا أصلي في المسجد القريب، بسبب طول فترة انقطاعي عنه، أخشى من السؤال عن سبب غيابي، لذلك أذهب إلى مساجد أخرى لا يعرفني فيها أحد، وإذا صليت في مسجد وحصل لي موقف، ولو كان بسيطًا، أتركه وأخاف من العودة إليه، وأصلي في مسجد آخر، وهكذا.

أما المشكلة الأخرى: فهي أنني أعاني من مخاوف من مواجهة الناس، سواء كانوا يعرفونني أو لا، فكلما كانوا يعرفونني، تزداد المخاوف بشكل كبير، لذا، أتجنب لقاء أقاربي وجيراني وجماعة المسجد، وحتى في بيتي أعتزل في غرفتي.

- حول الوضع الأسري:
نحن أربعة أبناء وجميعنا نفضل العزلة بشكل كبير، ونتجنب جميع الاجتماعات، حتى تلك التي تقام في منزلنا، كل واحد منا يظل في غرفته، بينما يبقى الوالدان بمفردهما في الصالة، ولا يوجد تواصل أو تراحم أو كلام طيب بيننا، وتصرخ أمي على أبنائها فقط؛ لأنها تشعر بالضغط؛ نتيجة لمرض الوالد وتعبها، بالإضافة إلى عدم قدرتها على تحمل أعمال المنزل بمفردها، فضلًا عن وضع أبنائها وعدم تقدمهم في الحياة.

أريد منكم التشخيص الصحيح والدقيق لحالتي، حتى أتمكن من تحديد المشكلة، والعمل على حلها، لأن الأطباء اختلفوا في التشخيص. فهل لدي اكتئاب، أم رهاب اجتماعي، أم شخصيتي تجنبية؟

أفيدوني: هل يمكنني الشفاء والعودة بشكل طبيعي إلى الحياة؟ أو التحسن على الأقل في بعض الجوانب، مثل: القدرة على العمل والزواج؟ لأنني إذا كنت سأبذل مجهودًا كبيرًا ووقتًا طويلاً من أجل نتيجة بسيطة لا تؤثر، فأنا سأكتفي بالتعايش مع وضعي الحالي، وأشغل نفسي بأهدافي الخاصة، مع العزلة التامة، كما هو الحال منذ 8 سنوات.

وأود الاستفسار: هل يمكن أن يتحول الرهاب الاجتماعي إلى كره الناس؟ فأنا بعد تناول الأدوية أصبحت أشعر بعدم الاهتمام بالناس، مما أدى إلى قطع علاقاتي وعدم التواصل.

على سبيل المثال، شخص ما كان يعرفني قبل تناول الأدوية، أتى وسلم علي بحفاوة، لكنني لا أشعر بشيء تجاهه، أشعر بهبوط نفسي ولا أستطيع أن أبادله التحية بحفاوة، وألاحظ الصدمة التي يشعر بها بسبب ذلك، وهذا يحدث كثيرًا، أشعر أن المتوقع مني شيء ولكن ما يحصل أقل بكثير.

كيف يمكنني بناء ثقتي من جديد؟ وهل يجب العمل على تقبل الذات أولاً، ثم تقدير الذات، ثم الثقة بالنفس؟ وهل الاكتئاب يسبب احتقار الذات، أم أن الرهاب هو السبب؟

وشكرًا.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ أبو عبد الله حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فأسأل الله لك التوفيق والسداد، وأشكرك أخي على سردك الجميل والطيب والواضح بذاته، وحقيقة حالتك تتطلب المزيد من الحوار والتواصل، ولذا أنصحك بمقابلة أحد الإخوة المختصين في المكان الذي تعيش فيه، لكن وصفك أيضًا مفيد جدًا حقيقة، وأستطيع أن أقول إن لديك ملامح الشخصية التجنبية، وفي ذات الوقت هنالك شيء من الرهبة الاجتماعية، ولديك الخوف من الفشل، هذا واضح جدًا، وهذا كله يتأتى منه اكتئاب ثانوي.

فهذه الأشياء -أخي الكريم- تعالج من خلال تطوير المهارات الاجتماعية، وأنا أرى أن لديك فرصة عظيمة بأن تبدأ بأسرتك، يجب أن تكون أنت المنقذ -بإذن الله تعالى- لإخوتك، حالة الانعزال الموجودة في المنزل يجب أن تكسر تمامًا، والناس يمكن أن تبدأ باجتماعات أسرية، مثلًا حلقة قرآن أسرية مرتين في الأسبوع أمر طيب، جميل جدًا، تناول الطعام مع بعضكم البعض من وقت لآخر، أن تحددوا لكل فرد مهامه داخل الأسرة، هذا -يا أخي- نوع من التواصل الأسري العملي والمفيد، والذي يؤدي إلى تفاعل ضمني بين أعضاء الأسرة، فحقيقة هذا هو الذي استوقفني.

مع احترامي الشديد لأسرتك الكريمة، لكن يظهر أن هنالك نوع من التطبع، أو التكيف على الانسحاب الاجتماعي، وهذا لا نريده لكم، وأنت مدرك -والحمد لله تعالى-، وتعرف حجم المشكلة، ووصفتها بصورة دقيقة جدًا، فأرجو أن تأخذ بالآليات البسيطة التي ذكرتها لك؛ من أجل تغيير نمط حياة الأسرة، وهذا سوف ينعكس عليك إيجابيًا، لأنه إنجاز والإنجازات على هذه الشاكلة تشعر الإنسان بالمردود النفسي الإيجابي الداخلي، فأرجو -أخي الكريم- أن تجعل هذا مشروع حياتك، أن تخرج أسرتك من حالة هذا الطوق الاجتماعي السلبي الانعزالي.

وفي حالتك تحتاج أشياء بسيطة جدًا، الفكر الخاطئ يجب أن لا يقبل أصلًا، ما الذي يجعلك لا تواجه الناس، أنت لست بأقل من الناس، وأول ما تبدأ به هو الواجبات الاجتماعية، تحرص على الواجبات الاجتماعية، زيارة المرضى، المشي في الجنائز، هذه أمور عظيمة وجدناها من أفضل وسائل العلاج، للرهبة والخوف والانقطاع الاجتماعي.

كذلك المشاركة في الأعراس وتلبية الدعوات، -أخي الكريم- الانضمام لعمل اجتماعي أو ثقافي أو خيري هذا أيضًا علاج، أنا أريدك أن تعالج نفسك من خلال تطبيقات موجودة في المجتمع، والصلاة -يا أخي- لماذا لا تصلي في المسجد الذي هو قريب من منزلك؟ ليس هنالك شيء تخجل حوله في أن تقابل الناس، على العكس تمامًا، كم سوف تنزل البهجة والفرحة على قلوبهم حين يرونك في المسجد، فهذه الطبائع التي اكتسبتها وقبلتها يجب أن تكسرها.

هذا هو فهم الذات وقبول الذات ثم تطوير الذات، هي تأتي بهذه الكيفية، لا بد أن تشارك في رياضة جماعية، هذا كله ممكن ومتوفر، وأنا أطمئنك تمامًا أن الناس الآن مشغولة، الناس لا تركز على الآخرين، لا تعتقد أنك تحت مجهر الآخرين، أنك مراقب أنك مستهدف هذا ليس صحيحًا، فأرجو أن تتبع ما ذكرته لك، وأنا على ثقة تامة أن ما بك سوف يتبدل -إن شاء الله-.

وبالله التوفيق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأكثر مشاهدة

الأعلى تقيماً