الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أعينوني بما يصبرني على تنمر زملائي وسخريتهم مني!

السؤال

كنت أتعرض للتنمر بصفة مستمرة من زملاء العمل، ولما اشتد الإيذاء اضطررت لأن أستقيل من العمل، وذهبت لعمل آخر فقط لتجنب تنمرهم، بعد أن كنت أحسبهم أصدقائي، ويعلم الله بما كنت أفعله من أجلهم من خير، أصبحوا يغتابونني ويتنمرون علي فقط من أجل أن يضحكوا، وما زال في نفسي شيء عليهم، ولا أستطيع تجاوز ما كنت أتعرض له.

حدثوني عما أعده الله للصابر على مثل هذه الابتلاءات.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ أكرم حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أهلاً بك -أخي الكريم- في موقعك إسلام ويب، ونسأل الله الكريم أن يبارك في عمرك وأن يسترك، وأن يقضي لك الخير حيث كان وأن يرضيك به، وبخصوص سؤالك فاعلم -بارك الله فيك- ما يلي:

أولاً: جميل الحديث عن الصبر، وجميل التخلق بأخلاق أهل العفو والصفح، لكن مع ذلك لا ينبغي أن نتغافل عن المشكلة وكيفية معالجتها، وذلك يكون بفهم أسباب التنمر والاجتهاد في إزالتها، لذلك اسمح لنا -يا أكرم- أن نتحدث أولاً عن أسباب التنمر بصفة عامة وكيفية التعامل معه، ثم الحديث بعدها عن الصبر وفضل العفو عن الغير.

ثانياً: أسباب التنمر عادة تعود إلى ما يلي:

1- عدم تصالح الفرد مع ذاته.
2- رد الفعل المبالغ فيه عند التنمر عليه.
3- ضعف العلاقات الاجتماعية الإيجابية.
4- سوء طبيعة أخلاق المتنمرين.

هذه الأربعة قد تكون كلها عند شخص أو بعضها، أو غيرها، لكنها قاسم مشترك في التنمر.

لمعالجة هذه الأسباب، لا بد مما يأتي:

1- التصالح مع الذات، أو بمعنى أخر التأقلم مع النفس، كل إنسان خلقه الله على طبيعة ما، خلق الله الأسود والأبيض والطويل والقصير، والراجِل والأعرج، والبصير والأعمى، والصحيح والمريض، وكلها أرزاق يوزعها الله بحكمة، والناس أحد اثنين:
- إما رجل يحمد الله على ما أنعم به عليه، ويتصالح مع الابتلاء، فهذا لا سبيل للتنمر عليه.
- وإما رجل ينظر إلى نفسه من خلال ما نقص، لا من خلال ما أنعم الله به عليه، هذا -أخي الكريم- سيجلب عنده عدم الثقة في نفسه، وسيظل يشعر أنه أقل من الآخرين، مع أنه قد يكون متفوقاً عليهم في جوانب كثيرة، لكنها الثقة المفقودة في ذاته، فإذا رأى المتنمر اهتزاز ثقة المتنمر عليه بنفسه، سهل عليه التنمر وأضحى مادة جيدة للتسلية.

2- الاحتفاظ بالهدوء وعدم المبالاة بالمتنمر ولا بحديثه، وعدم إظهار أي ردة فعل سلبية تجاهه، يفقد المتنمر لذة التنمر مما يفقده الشغف لها، بخلاف ردات الفعل السلبية من المتنمر عليه تجاه المتنمر، لذلك كن هادئاً دائماً، وأظهر لهم الاستخفاف بالحديث مع الانشغال عنهم بالمفيد.

3- مما يقوى الثقة بالنفس ممارسة أحد الرياضات والمداومة عليها.

4- قد انتقلت إلى مكان آخر، لذا أول ما نوصيك به التعرف على الأسوياء من الأصدقاء، ووضع حدود غير صدامية بينك وبين السيئين منهم، بحيث لا تكون قطيعة ولا حميمية، يكفي السلام والحد الأدنى من التعامل معهم.

5- عدم الحديث مع الأصحاب الجدد عن تنمر من مضى من الأصحاب عليك، بل اجتهد في التغافل عن ذلك، ونسيانه.

ثالثاً: أما الحديث عن الصبر فلا شك أن أجره عظيم عند الله تعالى، فقد رغب الله تعالى في كتابه في العفو عن الناس والصبر على أذاهم، فقال: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) آل عمران/ 134، وقال تعالى: (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) النساء/ 149، وقال سبحانه: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) النحل/ 126، وقال سبحانه: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) الشورى/ 43 .
وقال: (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) التغابن/ 14.

روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا) وروى أحمد عن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَوْفٍ قال: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (ثَلَاثٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنْ كُنْتُ لَحَالِفًا عَلَيْهِنَّ: -ومنها- ولَا يَعْفُو عَبْدٌ عَنْ مَظْلَمَةٍ يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا).

ويكفيك أن تعلم أن العفو عن الغير والصبر على الأذى جالب لمحبة الله تعالى للعبد، ولعلك تذكر لما خاض مِسطح بن أثاثة فيما خاض فيه من حادثة الإفك، وأنزل الله براءة عائشة -رضي الله عنها-، وكان أبو بكر -رضي الله عنه- ينفق على مسطح لقرابته وفقره، قال أبو بكر -رضي الله عنه-: "وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) سورة النور/ 22. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ : وَاللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا" الحديث رواه البخاري.

في قول الله تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)، يقول الشيخ السعدي -رحمه الله-: "وفي جعل أجر العافي على الله ما يهيج على العفو، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به، فكما يحب أن يعفو الله عنه، فَلْيَعْفُ عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم، فإن الجزاء من جنس العمل".

بل إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سُئلَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ، قَالُوا صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: (هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ)، ونرجو أن تكون منهم -إن شاء الله-.

بارك الله فيك وأحسن الله إليك، ونحن سعداء بتواصلك في أي وقت، والله الموفق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً