الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كيف أوازن بين بر الوالدين وطموحاتي الدراسية؟

السؤال

أعاني من مشكلة -والحمد لله- وهي أن المهام المنزلية تتزايد لدرجة عدم وجود وقت للدراسة، ناهيك عن وقت للاسترخاء، فقد تدنّى مستواي الدراسي، فأنا بصعوبة أجد وقتًا للحفاظ على نظافتي الشخصية، والأذكار، والقدر اليسير من قراءة القرآن، وهذا يحدث في أغلب أيام الأسبوع؛ مما أدى إلى رسوبي لسنتين متتاليتين في البكالوريا (شهادة الثانوية)، وهذه سنتي الثالثة، ومستواي ليس بعيدًا عن السنوات الماضية.

طبعًا، في حال قررتُ عصيانهم، والدراسة، فلن أنجح؛ لأن الامتحان النهائي يفصلني عنه ثلاثة أسابيع فقط، والبرنامج طويل جدًا، ولا يمكن وصف مدى صعوبته، حتى لو قررتُ العصيان، فإن بيئة المنزل ليست هادئة، وتحدث مشاجرات بين أفراد الأسرة على أتفه الأمور، ومع ذلك لستُ متضجرًا من رسوبي خلال هذه السنوات، أو من رؤية زملائي الذين سيتخرجون من الجامعة قريبًا، فلقد نضجتُ كثيرًا بسبب هذا الفشل، وتعلمتُ الكثير.

الآن أُقدّم رضا والدي على الدراسة، وأدرس متى استطعتُ، حتى ولو رسبتُ، فأنا متوكل على الله، لكن تبقى المشكلة في صلة الرحم، فأنا لا أزور أقاربي على الإطلاق، بسبب هذه الظروف، حتى إنني لا أملك أصدقاء؛ لأنني لا أستطيع زيارتهم.

إذن، ما الحل هنا؟ هل أقدّم برّ الوالدين أم أزور أقاربي رغم ذلك؟ لقد ناقشتُ أهلي بالفعل، لكنهم يلومونني فقط، ويقولون: إنني أنا من يضيّع الوقت، وإن جميع مهامهم لا تتخطّى ساعة يوميًا، طبعًا لا أحاول إثبات أنني على حق، فذلك لا فائدة منه، بل يزيد الطين بلة، يقولون أيضًا: إنني الكسول الذي أراد إفساد مستقبله، وإن ابن فلان قد نجح.

أحيانًا أشعر بالحزن على حالي، لأنني كنت الأول على الفصل، ومع ذلك، أشهدكم أنني راضٍ بقضاء الله، وأحمده على جميع النعم التي لديّ، وما قلتُ هذا لأحدٍ غيركم، فأنا أكره لعب دور الضحية.

أفتونا، جزاكم الله خيرًا، وإذا كانت لديكم نصائح حول دراستي أو مستقبلي، فأنا لا أمانع.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ محمد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أسأل الله أن يفرّج همّك، ويثبت قلبك على الحق، ويرزقك الحكمة والبصيرة في أمور حياتك.

أولاً: أود أن أشكرك على ثقتك بطرح مشكلتك هنا، وهذا دليل على وعيك ورغبتك في البحث عن حلول ترضي الله، وتحقق لك التوازن في حياتك، فما أروع أن تبدأ شكواك بحمد الله والاعتراف بنعمه؛ فهذا يدل على قوة إيمانك، ورضاك بقضاء الله وقدره، وهو أمر عظيم يفتح لك أبواب الخير والبركة.

ثانيًا: من الطبيعي أن تشعر بالحزن والضغط في مثل هذه الظروف، ويبدو أنك تواجه تحديات كبيرة في التوفيق بين مسؤولياتك المنزلية، ودراستك وطموحاتك الشخصية، هذا الشعور بالضغط قد يكون مصحوبًا بالإرهاق النفسي والجسدي، وربما الإحساس بالعجز أحيانًا، خاصة مع وجود بيئة أسرية مليئة بالتوتر والانتقادات، أنت إنسان، ولك طاقة محدودة، وهذا لا يعني أنك ضعيف أو مقصّر، بل إن هذه التحديات هي جزء من الابتلاءات، التي تمتحن صبرنا وقوتنا الإيمانية.

كما ذكرتَ، فإنك كنت في السابق الأول على الفصل، وهذا دليل على قدراتك العالية وإمكانياتك المميزة، ولكن الظروف المحيطة بك قد تكون أثرت على أدائك. لا تقلق؛ فالله لا يضيع جهد عباده، وما مررت به من صعوبات وفشل مؤقت، هو في الحقيقة دروس وتجارب تزيدك نضجًا وحكمة.

ثالثًا: في مثل هذه المواقف، من المفيد أن ننظر إلى الأمور من منظور شامل، يبدو أن هناك عدة عوامل تؤثر على وضعك الحالي، منها:
• كثرة المهام والمسؤوليات التي تعوقك عن التركيز على دراستك.
• المشاحنات والتوترات بين أفراد الأسرة، تؤثر سلبًا على تركيزك واستقرارك النفسي.
• الانتقادات وعدم التفهم، قد يؤدي هذا إلى شعورك بالإحباط وفقدان الحافز.
• ضيق الوقت مع اقتراب الامتحانات، يبدو أن هناك شعوراً بالعجلة وعدم كفاية الوقت.

هذه التحديات ليست سهلة، ولكن مع بعض التغييرات البسيطة في طريقة التفكير وإدارة الوقت، ومع التوكل على الله، يمكن أن تجد حلولاً عملية بإذن الله.

رابعًا: نصائح عملية للتعامل مع الموقف:
1. التوازن بين بر الوالدين وتحقيق طموحاتك، فبر الوالدين من أعظم العبادات التي أوصى بها الله في كتابه الكريم، قال تعالى: "وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا" (الإسراء: 23)، ومع ذلك، فإن الشريعة الإسلامية تراعي الظروف وتوجهك للبحث عن التوازن، إذا كانت المهام المنزلية تأخذ وقتًا كبيرًا، يؤثر على دراستك ومستقبلك، فمن حقك أن تناقش الأمر مع عائلتك بلطف واحترام، وتطلب منهم توزيع المهام بشكل أكثر عدلًا، قد يكون من المفيد أن توضح لهم أن نجاحك يعود بالنفع على الجميع، وأنك تحتاج إلى وقت كاف للتركيز على دراستك.

إذا لم يتفهموا موقفك، فحاول أن تؤدي واجباتك المنزلية في أوقات محددة وبسرعة، ثم تخصص وقتًا كافيًا للدراسة، حتى لو كانت البيئة غير هادئة، يمكنك البحث عن مكان آخر للمذاكرة، مثل المكتبة العامة، أو حتى تخصيص وقت للدراسة في أوقات الهدوء، مثل الصباح الباكر.

2. بدلاً من التفكير في المهام المنزلية كعائق، حاول أن تنظم وقتك بحيث تؤديها بكفاءة وسرعة، يمكن أن تخصص ساعة محددة يوميًا للمهام المنزلية، وتعتبرها جزءًا من جدولك اليومي؛ هذا سيساعدك على تحقيق التوازن دون الشعور بالإرهاق.

3. صلة الرحم من أعظم القربات إلى الله، وهي سبب في البركة والرزق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره، فليصل رحمه" (رواه البخاري ومسلم)، ومع ذلك، فإن صلة الرحم لا تعني بالضرورة الزيارات الطويلة، يمكنك التواصل مع أقاربك عبر الهاتف، أو الرسائل إذا كنت لا تستطيع زيارتهم في الوقت الحالي، المهم هو النية الصادقة، والرغبة في الحفاظ على هذه العلاقة.

4. الانتقادات التي تتلقاها من أهلك قد تكون مؤلمة، ولكن حاول أن تتذكر أنها نابعة من حبهم لك وخوفهم على مستقبلك، حتى لو بدت قاسية، بدل أن تأخذها بشكل شخصي، استغلها كدافع لتحسين نفسك وإثبات قدراتك.

5. مع بقاء ثلاثة أسابيع فقط على الامتحانات، يمكنك التركيز على المواد الأساسية التي تضمن لك النجاح، نظم وقتك بحيث تخصص ساعات محددة يوميًا للدراسة، وتجنب إضاعة الوقت في أمور غير ضرورية، استخدم أسلوب المذاكرة المركزة (Pomodoro Technique) حيث تدرس لمدة 25 دقيقة ثم تأخذ استراحة قصيرة.

خامسًا: لا تنس أن تلجأ إلى الله بالدعاء والاستغفار، قال تعالى: "ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" (غافر: 60)، خصص وقتاً يومياً لقراءة القرآن، ولو بآيات قليلة، وحافظ على أذكار الصباح والمساء، هذه العبادات تمنحك الطمأنينة والقوة النفسية، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله:
شكوتُ إلى وكيعٍ سوءَ حفظي ** فأرشدني إلى تركِ المعاصي
وأخبرني بــأنَّ الــعــلــمَ نــورٌ ** ونورُ الله لا يُــهـدى لـعاصي

حافظ على طهارة قلبك وأعمالك، وكن موقناً أن الله معك ولن يضيعك.

سادسًا: تذكر أن النجاح في الحياة ليس مرتبطًا فقط بالشهادات الدراسية، نعم، التعليم مهم، ولكن الأهم هو بناء شخصيتك وتطوير مهاراتك، اجعل هدفك أن تكون نافعًا لنفسك وللآخرين، سواء كنت في مجال الدراسة أو العمل.

وفي الختام، أخي الكريم، أذكرك بقول الله تعالى: "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا" (الشرح: 5-6)، مهما كانت الظروف صعبة، فإن الله يكتب لك الخير واليسر إذا صبرت وتوكلت عليه، واصل السعي، ولا تفقد الأمل، واجعل رضا الله غايتك في كل خطوة تخطوها.

أسأل الله أن يوفقك وييسر أمورك، ويرزقك النجاح في الدنيا والآخرة.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً