الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

بسبب علاقتي العاطفية المحرمة صرت أعاني من كثرة الشكوك والوسوسة!

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

لدي مشكلة أعاني منها، وهي أنني أشعر بالكثير من الشكوك والظنون والأسئلة التي لا تنتهي أبدًا، بدأ الأمر منذ عدة سنوات عندما دخلت في علاقة محرمة مع فتاة عبر الإنترنت، رغم أنها كانت علاقة عاطفية فقط، ولم نرتكب معصية، ولا تقابلنا أبدًا، لكن هذه الفتاة كانت تعاني من أمراض نفسية، وكانت من محافظة مختلفة عن التي أعيش فيها، فلم أكن أعرف شيئًا عن ماضيها.

مع مرور الوقت، تعلقنا ببعضنا، وكنا نتراسل كثيرًا، ولكن يومًا بعد يوم بدأت أكتشف عن ماضيها أشياء، وأصبحت تظهر سلوكيات غريبة، وكنت أبحث وأسأل، وكنت دائمًا مشغولًا بها، كل هذه الأحداث التي استمرت لأكثر من عام، جعلتني شكاكًا ومتسائلًا دائمًا.

استيقظت يومًا وقد عزمت على قطع كل صلة بها، وفعلاً حصل ذلك، وأنعم الله عليّ بالتوقف عن كل هذا، وأرجو أن يتوب الله عليّ.

لكن بعد كل هذه الأحداث، أصبحت لا أصدق شيئًا بسهولة، وأصبحت شديد الشك، لا أصدق أحدًا إلّا بعد التثبت من كلامه، وأقضي معظم يومي أتساءل عن كل شيء: كيف أعرف أنني حقيقي؟ ومن أين تأتي أفكاري؟ وأسئلة كثيرة عن الدليل على صحة الدين.

وأصبحت موسوسًا في باب الطهارة، وأصبحت أتساءل وأشك دائمًا في نوايا من حولي، وحتى في نواياي أنا شخصيًا، وأصبحت لا أصدق الناس، وكل شيء أفعله بنفسي حتى يطمئن قلبي، وأي خطوة أو فكرة في حياتي يجب أن أبحث عنها: هل هي حقيقية أم لا؟ وهل هي شرعاً حلال أم لا؟

بمعنى أصح: أصبحت أشك من أجل الشك، وأسأل من أجل التساؤل، حتى إنني قرأت في الفلسفة؛ لمحاولة تخفيف ما بي، فكنت كالمستجير من الرمضاء بالنار، فأقلعت عن ذلك، وبدأت أقرأ في كتب السلف، وأحاول الالتزام قدر المستطاع، ولكن عقلي لا يتوقف عن التساؤل والقلق، أريد أن تعود الطمأنينة إلى قلبي مرة أخرى، فما الحل؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ محمد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبًا بك -ابننا الفاضل- في الموقع، ونشكر لك اهتمامك وحُسن عرضك للسؤال، ونهنئك بنجاحك في التوبة وترك تلك العلاقة الآثمة، ونبشّرك بأن (التوبة تجبُّ ما قبلها)، و(أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له).

ونحب أن نؤكد لك أن عدوّنا الشيطان يحزن إذا تبنا، ويصيبه الهمّ إذا استغفرنا، ويبكي إذا سجدنا لربّنا، فعامل هذا العدو بنقيض قصده، ولا تقف مع وساوسه أو محاولاته لجلبك إلى حياة الحزن؛ {ليُحزن الذين آمنوا}، وتجاوز ذلك بالإقبال على الله، والثقة في رحمته -سبحانه وتعالى- فإن الله ما سمّى نفسه التوّاب إلَّا ليتوب علينا، ولا سمّى نفسه الرحيم إلَّا ليرحمنا، ولا سمّى نفسه الغفور إلَّا ليغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، فاثبت على ما أنت عليه من الخير.

أما بالنسبة للوساوس، فاعلم أن علاجها يكون بإهمالها وعدم الالتفات إليها، وعدم الاسترسال في التفكير فيها، وهذه الوساوس قد تكون في الدين أو في العقيدة، وهي من تزيين الشيطان ووساوسه.

وقد طمأن النبي ﷺ أصحابه حين شكوا إليه مثل هذه الوساوس، فقال لهم: «وقد وجدتموه؟» قالوا: نعم. قال: «ذاك صريح الإيمان»؛ لأن كراهية هذه الوساوس ورفضها دليل على صدق الإيمان، وعلى الخير الذي يحمله القلب، فلو لم يكن في القلب إيمان صادق لما وجد صاحبُه ألم هذه الوساوس ولا كرهها.

ومن تمام هذا البيان أن رجلًا جاء إلى النبي ﷺ يشكو شدة هذه الوساوس حتى قال: "يا رسول الله، إن أحدنا ليحدث نفسه حتى يتمنى أن يكون حممة (أي: فحمة محترقة) ولا يتكلم به"، فقال النبي ﷺ مطمئنًا له: «الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة»؛ أي أن الشيطان لما عجز عن إغواء المؤمن بالكفر والضلال، لم يبقَ له إلا الوسوسة، وهي أضعف أسلحته.

كون الشيطان لم ينجح إلَّا في الوسوسة وإزعاجك فقط، فهذا دليل على صدق وصريح إيمانك، لأنك ترفض هذه الوساوس جملة وتفصيلًا.

لذلك لا تلتفت لهذه الوساوس، ولا تحزن من وجودها، فإنها دليل على إيمانك، وما عليك إلَّا أن تستعيذ بالله منها وتشتغل بالطاعات والذكر، حتى تذهب عنك بإذن الله.

فإذا جاءت وساوس تتعلق بالعقيدة، فعليك أن تستعيذ بالله من الشيطان، وتذكر الرحمن، ثم تقول: "آمنت بالله"، ثم تنتهي، بمعنى أن تتشاغل بموضوع آخر، تتحدث مع الأسرة، تكلم صديقًا، تخرج إلى المكان، تقوم بعمل آخر حتى تنصرف عن تلك الوساوس، وتقطع عنك هذه الوساوس بعمل آخر.

ونؤكد لك أن الشيطان لن يقف عند هذا؛ فإذا سددت عليه هذا الباب فتح لك بابًا آخر، مثل الشك في الطهارة، أو الوضوء، أو الصلاة. وعلاج هذه الوساوس هو الإهمال والتجاوز، وتمضي في عبادتك ولا تلتفت، حتى لو قال لك الشيطان: "أنت نسيت كذا أو كذا" تخالفه، وتصلي وتمضي، وصلاتك مقبولة بإذن الله؛ لأن مخالفة الشيطان مطلب، وهذا من أعظم العلاجات، وبهذه الطريقة سيتركك الشيطان بإذن الله، وقد يفتح عليك بابا آخر من أبواب الوساوس، ولن يتوقف عنك وعن عباد الله الصالحين.

فإذا عرفت كيد الشيطان، وعلمت أن علاج الوساوس هو الإهمال، وأن الله لا يحاسبك على هذه الوساوس، وأن الله يقبل منك العمل الذي تقوم به، حتى وإن جاء الشيطان فقال لك: "إنه ناقص أو فيه خلل"، فكل ذلك سيعينك على تجاوز هذه الصعاب.

ونحب أن نؤكد أيضًا أن من عنده وساوس ينبغي أن يلتزم بسؤال شيخ واحد يعرف حالته ويتفهمها، فلا تدخل إلى المواقع أو تسأل عدة مشايخ؛ ولا تبحث عن إجابات أُعطيت لغيرك؛ لأن الفتوى كالدواء، قد يتشابه المرض وتختلف الأدوية، وقد ينفع الدواء لواحدٍ ويضر بآخر، فإذا أصر الموسوس على أن يسأل هنا وهناك، ومراكز الفتوى، ويسأل المشايخ فإنه يُتعب نفسه، يوقعها في الحرج؛ لأن المفتي لا يكون دائمًا على علم بحقيقة حال السائل.

فالذي عنده وساوس ينبغي أن يلتزم بفتوى شيخ واحد يثق به، ويأخذ بكلامه، وعندها يرتفع عنه الحرج، ويكون المفتي هو الذي يتحمل المسؤولية الشرعية.

نسأل الله أن يعينك على الخير، وأن ييسر لك تجاوز هذه الوساوس بالإهمال والتجاهل، ونبشرك بأن الوساوس أحيانًا تشتد على من يطلب الكمال، يعني مائة بالمائة، وهذا قد يكون من الصعوبة بمكان؛ والله تعالى يقول: {فاتقوا الله ما استطعتم}. ويقول ﷺ: "ما أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه"، هذه شريعتنا في سماحتها وجمالها وكمالها.

نسأل الله أن يُذهب عنك كيد الشيطان، وأن يُعيذك منه ومن همزه، ونفخه، ونفثه.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأكثر مشاهدة

الأعلى تقيماً