الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لا أجد من والدتي الحنان والعطف الذي تبذله لغيري!

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

والدتي -حفظها الله- امرأة طيبة، تحب أبناءها، وتسعى لإسعادنا بشراء ما نرغب فيه، وتطلب من والدي أن يوفّر لنا كل ما نحتاج إليه، إلا أن طريقتها في التعامل معي لا تعجبني، فأشعر أنها بعيدة عني، ولا أجد في علاقتها بي العطف والحنان، ليس لدي أخت، وأتمنى أن تكون أمي رفيقتي، أُحادثها وأشكو لها همومي، فتستمع إلي وتنصحني وتحنُّ علي.

لكنني عندما أبكي، تمرّ بجانبي ولا تقترب مني، ولا تعانقني، وإذا طال بكائي، قد تقترب، لكنها تبدأ بالكلام في أمور لا معنى لها، أو تفتّش في الغرفة بحثًا عن شيء غير نظيف، أو تتحدّث عن أسباب تافهة، كأن تقول: أنتِ لم تدرسي، فصرتِ تبكين على كل شيء! رغم أنها تعرف سبب بكائي جيدًا، وتتجاهل مشاعري تمامًا، حتى عندما أشكو لها همي.

حين أطلب منها النصيحة، تبدأ بانتقادي، ويتحوّل حديثها إلى مصدر صداع ومشكلة، فبدلًا من أن تساعدني، تنتقد شكلي وشخصيتي، وتقارنني بفتيات أخريات في مثل سني، وكأنها لا تتقبل شخصيتي ولا تحبها.

أنا شخصية هادئة، ولست اجتماعية كثيرًا، لكنني لست انطوائية، وهي تميل إلى الفتيات الأكثر اجتماعية، وكأن هذا هو المعيار الوحيد لنجاح الشخصية؛ مما جعلني أشعر بأن لدي شخصية ضعيفة.

تعرضت للتنمر، ولم أكن قادرة على الدفاع عن نفسي، ولا أستطيع حتى التحدث مع والدي لأطلب منه تغيير مدرستي، رغم أنني أعلم أنه لن يمانع، وبدلًا من أن أتكلم، أظل أبكي فقط.

المؤلم أكثر أن كل ما أحتاجه من والدتي، تفعله مع بنات العائلة، وبالمقابل هنّ يحسدنني على أمي، ويقلن: إنني محظوظة بها؛ لأنها تستمع لهن، وتنصحهن، وتساندهن، بينما أنا ابنتها لا أجد منها ما أحتاج إليه!

كبرتُ بعد ذلك، وأصبحتُ عصبية في التعامل معها، أحيانًا تقول لي شيئًا بسيطًا، فأغضب وأصرخ عليها، وأقول كلامًا لا ينبغي أن أقوله ثم أندم، وأقول في نفسي: يجب أن أستغفر ربي وأعتذر، لكنني – دون أن أشعر- أكرر نفس التصرف.

أحيانًا أعتذر، وأحيانًا أخرى لا أستطيع أن أعتذر لها؛ وهذا يجعلني أشعر بعدم الراحة، وأخاف أن أكون عاصية، وأن تُرفض أعمالي بسبب ذلك. حاولت الحديث معها، وقلت لها ما أشعر به، وعبّرت عن احتياجي، لكنها أجابتني بقولها: هذه شخصيتي، ولن أغيّرها من أجل أحد؛ فأصبحتُ أبتعد عنها حتى لا تحدث مشاكل، والآن بعد أن أنهيتُ دراستي وجلستُ في البيت، بدأت تناديني بـالفاشلة، وأصبحتُ أخسر حتى والدي؛ لأنه لا يحب أن أرفع صوتي عليها.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ سلمى .. حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبًا بكِ -أختنا الفاضلة- في الموقع، ونشكر لكِ التواصل، ونشكر لكِ هذا العرض الرائع للمشكلة، ونحن أيضًا لا نريدك أن تصرخي على الوالدة؛ فإن الصبر على الوالدة من أوسع أبواب برّها.

وأرجو أن تعلمي أن الوالدة في قراراتها تعرف مقامك ومكانتك، لكن هذا شأن معظم الآباء والأمهات، أنهم ربما يُريدان لأبنائهما وبناتهما أن يكونا أفضل مَن يمشي على وجه الأرض، وبحكم احتكاكهما ووجودهما الكثيف مع أبنائهما وبناتهما، ربما تظهر لهما أشياء، وهم يحاولون أن يضخما هذه الأشياء، فهم لا يرون من بنات الجيران وبنات الأهل والزميلات إلّا ما ظَهر من الشكل، لكنهما يشاهدان من أبنائهما ما ظهر وما بطن، ونحن بلا شك لا نؤيّد هذه الفكرة.

ولكن أرجو أن لا تقفي طويلاً أمام هذا الذي يحدث، وفعلًا نحن نتمنى أن يتحسّن الوضع من ناحية الوالدة، وأن تقترب منكِ، ونحن دائمًا نقول: الأب الناجح والأم الناجحة هما أول وأهم صديق لأبنائهما وبناتهما.

ولكن إذا عُدم هذا؛ فأرجو ألَّا يأخذ الأمر أكبر من حجمه، وانطلقي في تطوير نفسك، وفي تطوير علاقاتك، واكتساب مهارات عالية وغالية، وحاولي دائمًا تجنّب الاحتكاك، وتفادي المسائل التي تُغضب الوالدة، واجتهدي دائمًا في أن يكون لكِ دور إيجابي في تنظيم حياتك، واقتربي من الوالد أيضًا، وحاولي أن تطلبي منه أيضًا المساندة والمساعدة، فالفتاة بأبيها معجبة، ولها علاقة بالأب.

ولا تحاولي أن تحصري نفسك في اتهامها، والنظر إلى نقاط الضعف عندك -هذا الذي يحدث-، وتعوّذي بالله من العجز والكسل؛ فإن العجز نقص في التخطيط، والكسل نقص في التنفيذ.

وأحب أن أقول: الفتاة التي تفهم الأمور بهذه الطريقة، وتستوعب ما تريده، وواضح عندها الأشياء التي ترغب فيها، دليل على أنها تعرف طريق الخروج من هذا المأزق الذي هي فيه، ولذلك الوالدة أيضًا بوجودها إلى جوارك، وبحثها عن أشياء في الغرفة، تريدُ أن تفتح معك الكلام، ولكن ربما يحتاج الآباء والأمهات إلى شيء من التعليم بما يخص المراحل العمرية، واحتياجات أبنائهم والبنات، ولكنك تستوعبين هذا؛ ولذلك ساعدي نفسك وساعدي الوالدة بالخروج من دائرة الكآبة والحزن وإشعار الضعف؛ فإننا نخطئ عندما ننظر إلى إيجابيات الآخرين، ثم نؤكّد على سلبياتنا، فلا يوجد إنسان إلّا وله سلبيات وإيجابيات؛ لأن هذا يُضعف ثقة الإنسان في نفسه، فإذا رأيتِ من الأخريات شيئًا جميلًا، فاعلمي أنهنَّ يُظهرن الجميل، وأن لهنَّ أيضًا جانباً آخر فيه الضعف، ولكنهنَّ حريصات على ألَّا يظهر إلَّا الجانب المشرق، وبالتالي الإنسان ينبغي ألَّا يتهم نفسه بالضعف، ويجب أن يُدرك أن عنده جوانب إيجابية يحمد الله عليها، ويشكر الله بها لينال بشكره المزيد، ثم بهذا الشكر يستطيع بعد ذلك أن يتعرف على نقاط قوته التي عنده، فإذا أدّى شكرها أدام الله عليه العافية، ثم يبدأ الإنسان في العمل على تجاوز نقاط الضعف.

وإذا كانت العلاقة مع الوالدة بهذه الطريقة، فأين الخالات؟ أين العمات؟ أين الصديقات الصالحات؟ الإنسان يستطيع أن يفتح على نفسه آفاقًا.

حاولي أن تكتشفي نفسك، وتتعرفي على ذاتك، وتكتشفي المهارات التي وهبها لكِ الوهاب، فإنه ما من إنسان خلقه الله -رجلًا كان أو امرأة- إلّا وقد أعطاه الله من المؤهلات والأشياء الجميلة ما يفوقُ بها العالمين عندما يكتشف هذا الجانب الذي ميّزه الله تبارك وتعالى به.

ولا تنزعجي من تصرّف الوالدة الإيجابي مع الأخريات، فإنه دائمًا -بكل أسف- يقولون: الأب والأم أفشل مُعلِّمٍ لأبنائهما، لكنهما يظهران هذا مع أبناء الآخرين.

ولذلك أرجو أن تدركي أن هذا الأمر الذي يحدث ربما الوالدة لا تقصده، ولكن قومي بما عليكِ، وحذارِ أن تضعي رأسك برأسها، أنتِ لا تتكلمين عن زميلة، أنت تتكلمين عن الوالدة، ينبغي أن تُطاع وتُعان على الخير، وأنتِ مأجورة على الصبر عليها.

وأسعدنا أنكِ قلتِ في البداية: والدتي -حفظها الله- فاستمري في الدعاء لها، وقلتِ: امرأة طيبة تحب أبناءها، تُريدُ إفْراحنا، يعني هذه إيجابيات كبيرة جدًّا، فاستمري في هذا، وكلمي والدتك وقولي لها: والدتي أنت طيبة، وتحبين إفْراحنا، ونحن سعداء بكِ، ثم قولي: لكني أتمنى كذا وكذا؛ لأننا حتى نجد مدخل الإنسان إلى قلبه لا بد أن نذكر له فضائله، ونعترف بإيجابياته.

ونُذكِّر في الختام بأن التعامل مع الوالدين ينبغي أن يُغلَّف باللطف والرفق، حتى لو قسوا، أو تصرفوا على غير منهاج الحق، كما فعل خليل الرحمن -إبراهيم عليه السلام- مع والده، الذي كان سادناً للأصنام، وعابدًا وعاصيًا للملك الديان، ومع ذلك لَاطَفه وأحسن إليه، وكان يُناديه بقوله: {يا أبتِ ... يا أبتِ ... يا أبتِ ...} [سورة مريم: 42-44].

والأم التي أساءت إلى ولدها وطلبت منه أن يكفر بالله، فقد أنزل الله على رسوله قوله: {وإن جاهداك على أن تُشرك بي ما ليس لك به علمٌ فلا تطعهما}، ثم أمره بعد ذلك بقوله: {وصاحبهما في الدنيا معروفًا} [لقمان:15]، ولم يأمره بالإساءة إليهما، أو بالغلظة أو بالصراخ عليهما، أو بأي قول جارح.

فالمعاملة الجيدة ينبغي أن تستمر وتستقر في كل الأحوال؛ لأنك في تعاملك مع الوالدة تتعاملين مع ربك ورب الوالدة، فبرّ الوالدين عبادة لله.

نسأل الله أن يُعينك على الخير، وعلى تجاوز هذه الصعاب، ونحن على ثقة أنكِ قادرة -بتوفيق الله- على تجاوز هذه المرحلة، ونسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً