الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كيف أصلح العلاقة مع والدي الذي قاطعني لأجل المال؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أنا رجل متزوج وعندي أطفال، وقد تغرّبت عنهم لأجل جمع المال؛ لشراء قطعة أرض وبناء بيت -بإذن الله-، إلى الآن لم أكمل ثمن الأرض، وأبي قاطعني ولا يتحدث معي، ويتعامل معي بقسوة؛ لأنه يريد مني مبلغًا شهريًا ثابتًا.

حاولت أن أشرح له أكثر من مرة أنني مغترب عن زوجتي وأولادي لجمع المال للسبب الذي ذكرته في البداية، وبعدها سأحاول أن أعطيه قدر استطاعتي، مع العلم أنه يملك بيتًا وراتبًا شهريًا هو وأمي، لكنه يقول إنه لا يكفيه، مع أنه في الحقيقة يكفي، وقد أرسلت له أكثر من مرة حسب وضعي، لكنه لا يريد إلا مبلغًا ثابتًا وشهريًا.

أصبحت أشعر أنه لا يحبني، وصارت تختلط في قلبي مشاعر المصلحة المادية، ولم أعد أشعر بحنان الأب ولا عطفه، إذ يقاطعني من أجل المال، وأنا لا أتصور أن أفعل هذا مع ابني، لكن قلبه قسا عليّ جدًا.

أمي حاولت أكثر من مرة أن تصلح الوضع، وكذلك أنا، لكن منذ ستة أشهر أو أكثر توقفت؛ لأني حاولت الاتصال به ولم يرد على اتصالاتي، فقد يئست منه، وقسوة قلبه آذتني كثيرًا، ولم أعد أشعر بحبه ولا برحمته.

لكن والله لا يرضيني هذا الحال، ولأكون صريحًا وصادقًا أمام نفسي، فإن الأمر ليس لأجله؛ لأن قسوته وتصرفاته آذتني كثيرًا، ولم أعد أشعر برابطة الأبوة الفطرية، وإنما لأجل الله، أريد أن أعلم: هل أنا آثم أمام الله؟

وجزاكم الله كل خير.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ مصعب حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبًا بك -أخي الكريم- في إسلام ويب، وردًّا على استشارتك أقول، وبالله تعالى أستعين:

إنني أشعر تمامًا بما تمر به من ألم الغربة ومشقة البعد عن الأسرة، إضافة إلى ضغوط المسؤولية، ومع ذلك تواجه قسوة من والدك، فتجتمع عليك هموم متعددة.

من الطبيعي أن يتأثر قلبك، وأن تشعر بالجرح النفسي؛ فالقسوة من أقرب الناس ليست سهلة، خصوصًا حين تأتي في أشد لحظات حاجتك للدعم العاطفي.

هذه المشاعر طبيعية وليست اختيارية، بل هي نتاج تعامل فيه شيء من القسوة، ولا تخرجك عن البر ما لم تقم بأعمال أو أقوال تتنافى مع البر، فينبغي الحذر من أن تنزلق في العقوق، وأبقِ علاقتك مع والدك علاقة ودٍّ واحترام وخفضٍ للجناح.

النفقة على الوالدين واجبة إن كانا محتاجين ولا مال لديهما، وتسقط عن الولد إذا كانا مكتفيين بما عندهما من راتب وغيره، ومع هذا فإني أنصحك أن ترسل لوالدك بما تقدر عليه مع الاعتذار عن التقصير، والوعد بأنك ستزيد المبلغ حال توفر القدرة على ذلك؛ فلعل دعوة من أبيك وأمك يجعلها الله سببًا في بركة رزقك، ولعلك تدرك أن صلة الرحم تزيد في العمر، وتبارك في الرزق كما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.

ذكرتَ في استشارتك أن والديك مكتفيان بما عندهما من راتب، وعليه فلست آثمًا طالما أنك ترسل لهما بحسب استطاعتك، وامتناعك عن تحديد مبلغ ثابت ليس عقوقًا؛ لأنهما يطلبان شيئًا زائدًا عن الحاجة، ولأنك وأسرتك بأمسّ الحاجة لبناء البيت والمصاريف الشهرية.

عليك أن تصبر على ما تواجه من قسوة المعاملة من قبل والدك، ونوصيك أن تتواصل مع والدتك وتطلب منها أن تفهم والدك الوضع الذي تمر به، فلعلها تقنعه بذلك، وبإمكانك كذلك أن تتحدث مع بعض إخوتك أو أعمامك وعماتك، ممن يسمع والدك لكلامهم، فلعلهم أن يقنعوه.

ينبغي عليك أن تتفهم الدوافع التي جعلت والدك يصر على مبلغ محدد شهريًا، وهذه الدوافع كثيرة ومتنوعة، وإذا عرفتها لربما عذرت والدك، فمنها:

1- قد يكون ربط تقديرك واحترامك له بأن ترسل له المال، فيبالغ بالمطالبة ليضمن مكانته.
2- بعض الآباء – مع الأسف – يخلطون بين حقهم الشرعي وبين حبّ السيطرة على أبنائهم، أو أنهم يعتقدون أن الزوجة استأثرت بولدهم، فيحاولون السيطرة عليهم من خلال طلب المال.
3- لعلك تدرك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يَشِيبُ ابنُ آدمَ، وتشبُّ معه خصلتان: الحِرصُ وطولُ الأمل"، ولذلك يظهر عند البعض حب المال والخوف من المستقبل، فيريد والدك أن يجمع المال من أجل المستقبل.
4- تغيّر الطباع مع العمر وازدياد القلق قد يجعل بعض الآباء أكثر حدّة وعنادًا.
5- تصرف والدك ليس ناتجًا عن كراهية بالضرورة، ولكن طريقته فيها شيء من القسوة المؤذية.

نوصيك أن تُبقي باب البر مفتوحًا بقدر استطاعتك، وتواصلْ مع والدك عبر الهاتف، أو عبر أي وسيلة من وسائل التواصل، أو برسالة نصية تطلب فيها رضاه، وتعتذر عن التقصير مع الوعد أنه في حال توفر المال أنك ستعطيه أكثر، ولا بأس بأن ترسل في بعض الأحيان أكثر مما أرسلت في الشهر الذي قبله، وهكذا.

لو رفض والدك التحدث معك، فلا تغيّر من طريقتك في التعامل معه، وسوف يشعر ببرّك حتى لو لم يتحدث معك، واستمر في التواصل مع الوالدة واطلب منها معالجة الأمر، فإن لم تستطع فيمكن الاستعانة – بعد الله – بأحد أقاربك، مثل عمك، أو شخصية يحترمها والدك.

أنت في هذه الحال يجب عليك أن تنفق على نفسك، وزوجتك وأبنائك طالما والداك غير محتاجين، فلا تلتزم بأمور ربما لا تقدر على تنفيذها في المستقبل.

تضرّع بالدعاء بين يدي الله تعالى، وتحَيَّن أوقات الإجابة، وخاصة أثناء السجود، وسل ربك أن يرزق والدك القناعة بما ترسل له، وأن يلين قلبه نحوك، وأحسن الظن بالله، وكن على يقين أن الله سيستجيب لك، ففي الحديث: "أنا عند ظن عبدي بي، إن ظنَّ خيرًا فله، وإن ظنَّ شرًّا فله".

أكثر من دعاء الكرب، وهو:"لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم"، وأكثر من دعاء ذي النون، ففي الحديث الصحيح:"دعوةُ ذي النون إذ دعا بها في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين؛ فإنه لن يدعو بها مسلم في شيء إلا استجاب الله له".

حافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها، وأكثر من نوافل الصلاة، والصيام، وتلاوة القرآن واستماعه، فذلك من أسباب جلب الحياة المطمئنة الطيبة، يقول تعالى:"مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ".

نسأل الله تعالى أن يرزقك برّ والديك، وأن يقنع والدك بما تجود به نفسك، وأن يبارك لك في رزقك، إنه سميع مجيب، ونسعد بتواصلك.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً