السؤال
توفيت أمي ولم يمض عام على وفاتها، وتزوج امرأتين: طلق إحداهما، وتزوج الأخرى، وكان قد باع لنا أملاكه من عقارات بعقود رسمية في المحكمة، ولكنه لا يحق لنا الامتلاك النهائي إلا بعد وفاته، وقد ظلم أبي وطغى، والله وحده شاهد على ذلك، وزوجته تحرضه على أبنائه، ويسمع لها دائمًا، وما زالت المهازل مستمرة، والسؤال هو: إذا افتعل المشاكل معنا من أجل أن نتنازل عن هذا الإرث الذي كتبه، علمًا أنه سوف يحرمنا من ميراثنا نحن البنات الثلاث، وهذا العقار هو ملجأ الواحدة منا في عيش حياة كريمة، ولديّ أخت مريضة نفسيًا، وقد لا تتزوج، وأخت أخرى فقيرة اتخذته الملجأ ليحميها من الفقر والجوع، فماذا نحن فاعلون؟ فهو لا يفعل سوى الاستبداد بماله، وكأن الله لم يرزقنا وإياه هذا المال، فهو أب يخطئ في حق الذات الإلهية، ويتجبر علينا، وذات مرة قال لي أثناء المشكلة: لن أزوجك، فرد عمي عليه: إن لها الله، فقال: إذن دع ربها يزوجها.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يعافيكم في دينكم ودنياكم، وأن يلهم أباكم رشده ويكفيه شر نفسه، فلا ريب في أن الظلم حرام، وأن التعسف في معاملة الأبناء مفسدة عظيمة، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على العدل مع الأهل، فقال: إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل ـ وكلتا يديه يمين ـ الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم، وما ولوا. رواه مسلم.
قال النووي: فمعناه أن هذا الفضل إنما هو لمن عدل فيما تقلده من خلافة، أو إمارة... وفيما يلزمه من حقوق أهله، وعياله، ونحو ذلك. اهـ.
وحرمان أحد الورثة من حقه جور محرم، والإضرار في الوصية من الكبائر، وراجعي في ذلك الفتويين: 117431، 66519.
ويتأكد هذا في حق الإناث، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم، والمرأة. رواه ابن ماجه، وأحمد، وصححه البوصيري، وحسنه النووي، والألباني. قال النووي في رياض الصالحين: معنى: أحرج ـ ألحق الحرج ـ وهو الإثم ـ بمن ضيع حقهما، وأحذر من ذلك تحذيرًا بليغًا، وأزجر عنه زجرًا أكيدًا. اهـ.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء. قال ابن حجر في فتح الباري: أخرجه سعيد بن منصور، والبيهقي من طريقه، وإسناده حسن. اهـ.
ومع ذلك، فلا بد من التنبيه على أن ظلم الوالد وتعسفه مع أبنائه لا يبرر عقوقه، والإساءة إليه، فبره واجب على أية حال، وكذلك مصاحبته بالمعروف، ولو كان كافرًا! قال الله تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً {لقمان:15}، وراجعي الفتوى رقم: 97448.
وأما بخصوص سؤالك، فإن ما سميته بيعًا، مع توقيف الامتلاك النهائي على الوفاة، هو في حقيقته ليس بيعًا، ولا هبة، بل هو وصية، ومن ثم فهي باطلة؛ لأنه لا وصية لوارث، ثم على افتراض أنها هبة، فإن الرجوع فيها ولو قبضت يجوز للوالد من ولده؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يحل للرجل أن يعطي عطية ثم يرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده. رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وراجعي تفصيل ذلك في الفتاوى التالية أرقامها: 65529، 135413، 140788.
وراجعي في الفرق بين الوصية والهبة الفتوى رقم: 569.
وعلى ذلك، فمن حق والدكم استرجاع هذه العقارات، كما أن من حقكن عليه أن ينفق عليكن بالمعروف، وراجعي الفتوى رقم: 156429.
وأما أنتم: فاجتهدوا في نصحه، والدعاء له بالهداية، والصلاح، وتحفظوا من سوء تصرفه في ماله بقدر الطاقة، وبما يليق بمقام الوالد، ويمكنكم أن تستعينوا على ذلك بمن له وجاهة عنده من الأقارب والأصدقاء.
والله أعلم.