السؤال
أنا لا أعرف مبادئ الترجيح، وقصتي كالتالي: جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ما بال أقوام يلعبون بحدود الله، طلقتك، راجعتك طلقتك، راجعتك، وقلتم إنه حديث مرفوع، وضعفه الألباني، وحسنه البوصيري، وسؤالي هو: كلمات: طلقتك وراجعتك ـ جاءت هنا إخبارا، فهل من يخبر بالطلاق كذبا يقع طلاقه، لأن طلقتك وراجعتك جاءت خبرا ولم تكن إنشاء؟ أم للحديث معنى آخر ومقصوده أن الطلاق له عدد أو سقف محدد؟ أم القصد هنا أن من قال لزوجته طلقتك راجعتك هو الإنشاء وليس الإخبار؟ وقد قرأت للقرطبي أن سبب نزول الآية: ولا تتخذوا آيات الله هزوا ـ أن الرجل كان يطلق ثم يقول طلقت وأنا ألعب، فنزلت هذه الآية، كما أن ابن تيمية قال إن الرسول صلى الله عليه وسلم فسر الآية بالحديث: ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ويستهزئون بآياته: طلقتك، راجعتك، طلقتك، راجعتك، وعلق عليه بأن الشارع منع أن تتخذ آيات الله هزوا، وأن يتكلم الرجل بها إلا على وجه الجد الذي يقصد بها موجباتها الشرعية، ولهذا ينهى عن الهزل بها.... وقرأت في تفسير آخر أن من العلماء من فسر الدلالة في هذا الحديث بأنه يحرم على الرجل أن يطلق امرأته ثم يمهلها حتى تشارف على انتهاء عدتها فيرجعها بقصد مضرتها، ثم يعود ويطلقها ويراجعها وهكذا بقصد مضارتها، وليس لمقصود آخر، أو أن كل من يتكلم بالعقود التي هي حدود الله يجب أن يقصد موجباتها الشرعية التي وجدت لأجلها وإلا كان متخذا آيات الله هزوا سواء كان كاذبا أو هازلا....
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحديث المذكور رواه ابن ماجه عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَلْعَبُونَ بِحُدُودِ اللَّهِ، يَقُولُ: قَدْ طَلَّقْتُكِ، قَدْ رَاجَعْتُكِ، قَدْ طَلَّقْتُكِ.
ورواه البيهقي في السنن الكبرى بلفظ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَلْعَبُونَ بِحُدُودِ اللهِ؛ طَلَّقْتُكِ، رَاجَعْتُكِ، طَلَّقْتُكِ، رَاجَعْتُكِ.
ورواه أبو حنيفة في مسنده.
وقد حسّن البوصيري إسناد ابن ماجه، قال في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه: هَذَا إِسْنَاد حسن.
وكلمة: طلقتك، راجعتك ـ في الحديث محكية كقول القائل: قال فلان لزوجته: أنت طالق، فهذا لا يتناول حكم الإخبار بالطلاق ولا إنشاءه بالنسبة للحاكي، ولكنه يتناول التحذير من إنشاء الطلاق والرجعة، إما بقصد مضارة المرأة، وإما للإكثار من الطلاق بغير حاجة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَرْتَجِعَ الْمَرْأَةَ يَقْصِدُ بِذَلِكَ مُضَارَّتَهَا بِأَنْ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تُشَارِفَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ، ثُمَّ يَرْتَجِعَهَا، ثُمَّ يُطَلِّقَهَا قَبْلَ جِمَاعٍ أَوْ بَعْدَهُ، وَيُمْهِلَهَا حَتَّى تُشَارِفَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ ثُمَّ يَرْتَجِعَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا، فَتَصِيرَ الْعِدَّةُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَهَكَذَا.
وجاء في حاشية السندي على سنن ابن ماجه: يُرِيدُ أَنَّهُ يُكْثِرُ الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَيْهِ، بَلْ مَعَ الْحَاجَةِ إِلَى الزَّوْجَةِ حَتَّى يُكْثِرُوا الرَّجْعَةَ لِذَلِكَ.
أما الإخبار بالطلاق كذباً: فقد سبق أن بينا حكمه في فتاوى سابقة ورجحنا القول بعدم وقوع الطلاق به.
والمسائل المختلف في حكمها بين أهل العلم، يعمل المسلم فيها بما يغلب على ظنّه أنه الحق، إما بالنظر في الأدلة والعمل بأرجحها إن كان يقدر على ذلك، وإما بتقليد الأوثق في نفسه إن كان غير مؤهل للنظر في الأدلة، ويكفيه ذلك، قال الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه: فإن قال قائل: فكيف في المستفتي من العامة إذا أفتاه الرجلان واختلفا، فهل له التقليد؟ قيل: إن كان العامي يتسع عقله، ويكمل فهمه إذا عقِّل أن يعقل، وإذا فُهِّم أن يفهم، فعليه أن يسأل المختلفين عن مذاهبهم وعن حججهم، فيأخذ بأرجحها عنده، فإن كان له عقل يقصر عن هذا، وفهمه لا يكمل له، وسعه التقليد لأفضلهما عنده وقيل: يأخذ بقول من شاء من المفتين, وهو القول الصحيح، لأنه ليس من أهل الاجتهاد، وإنما عليه أن يرجع إلى قول عالم ثقة, وقد فعل ذلك, فوجب أن يكفيه. انتهى.
والله أعلم.