الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مسائل في الأخذ من مال المحجور عليه والتصرف فيها

السؤال

أنا فتاة غير متزوجة أعيش مع والدتي في بيت والدي الذي توفي قبل سنة ونصف، ولديه راتب تقاعدي وأنا المستحقة الوحيدة لهذا الراتب من إخوتي، وأنا خريجة جامعة ولا أعمل بسبب الاختلاط والفتنة، وبدأنا معاملة حصولي على الراتب التقاعدي منذ وفاة والدي وانتهت قبل فترة وجيزة فتجمعت رواتب سنة ونصف في المصرف، والمفروض أن أستلمها قريبا ـ إن شاء الله ـ وسؤالي هو: أعيش هذه الفترة بعد وفاة والدي من راتب والدتي التقاعدي وهي مريضة بانفصام الشخصية ومصابة بالمس والزهايمر لكبر سنها، فراتبها بيدي منذ كان والدي حيا وكنت أنفق منه عليها سابقا والآن أنفق منه علينا وعلى مصاريف البيت باعتبارها المسؤولة عن البيت حاليا وأشتري ما أحتاجه مما تحتاجه كل فتاة من لبس وأدوية وفيتامينات وشامبوات وصابون وكريمات للوجه وغيرها، ولا أقصر مع والدتي، والراتب يكفينا وزيادة ـ والحمد لله ـ قمت بذبح أضحية لي في العيد الماضي وكنت قد ضحيت عن والدتي مسبقا واشتريت هاتف اندرويد واعتبرته دينا هو والأضحية، وأحيانا أشتري حاجات للبيت من أدوات مطبخ أو زهور... ففي حال استلمت رواتبي للأشهر الماضية ـ إن شاء الله ـ فهل يجب علي رد ما أنفقته إلى مال والدتي؟ أم نفقتي كانت واجبة عليها، لأنه لم يكن لي مصدر أو كسب؟ وما الذي يجب أن أرجعه لها؟ وهل الطعام والكسوة وحاجاتي العادية يجب إرجاعها؟ مع العلم أنها تكلف مبلغا كبيرا وأنا أحتاج حفظ أموالي للحاجة، لأن البيت الذي نعيش فيه للورثة وفي حال تم تقسيمه فليس لي معيل أعتمد عليه، ووالدتي أحيانا تقول لي هذا واجبي، وأحيانا تقول عليك نصف مصاريف البيت اذهبي واعملي، وهي مريضة لا تعقل ما تقول، وليس لها رأي ثابت أو تفكير سليم ـ عافاها الله ـ وهل يجب علي فعلا المشاركة بنصف مصاريف البيت عند بدء استلامي للراتب، كما أحس أن أخي المتزوج الذي يعيش معنا في الطابق العلوي منزعج مني، وفي حالة أصبح لدينا راتبي وراتب والدتي، فهل يحق لأخي أن يأخذ شيئا من المال له باعتبار أنه يكفينا وزيادة؟ وهل يحق لهم أن يطلبوا منا إصلاح بعض أمور البيت أو توفير حاجات للبيت من مال والدتي الذي قد يزيد؟ أم علي حفظه لها وادخاره؟ سبق أن أخذ مني أخي كفارة إطعام مساكين عن والدتي وأنا أجهل أن حكمها حكم المجنون مرفوع عنها القلم وأنا متأكدة من أن أخي كان يشتري بها ملابس للعيد لأولاده وهو قد يعلم أنه ليست عليها كفارة وقد توقف عن أخذ هذه الكفارة خاصة بعد أن اتهمته والدتي بسرقة أموال منا؟ وهل علي إثم في إعطائه من مال والدتي له جاهلة بالحكم؟ أم عليه الإثم؟ وهل يجب إخراج زكاة فطرة عن والدتي؟.
وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فاعلمي أن راتب التقاعد في حكمه تفصيل سبق بيانه في الفتوى رقم: 1809، فراجعيها للأهمية، ففيها بيان كونه دائرا بين أن يكون للورثة، وبين أن يكون لمن جعلته له الجهة المانحة، فليكن ذلك منك محل اعتبار.

وأما الحجر على من كبرت سنه وتغير عقله، فجمهور العلماء على مشروعيته، فيرفع أمره إلى القاضي، لأنه المخول بالحكم في أمر الحجر، ويجب حينئذ حفظ ماله حتى يبت القاضي في أمره، فإن حكم بالحجر عليه وأقام من يتولى أمره فلا يجوز له ـ فضلًا عن غيره ـ التصدق من ماله، ولا الهبة منه بغير عوض، بل يجب عليه ألا يتصرف فيه إلا بالأحظ له، وراجعي الفتوى رقم: 228823.

وعلى ذلك، فلا يجوز لك أن تأخذي من مال أمك شيئا، إلا إذا كانت نفقتك واجبة عليها، لغناها وفقرك وعدم من تجب عليه نفقتك من الأصول والفروع غيرها، فحينئذ يجوز لك أن تنفقي على نفسك من مالها بالمعروف دون زيادة، وراجعي الفتوى رقم: 44020.

وكذلك إذا لم تكن نفقتك واجبة عليها، وكنت أنت القائمة بأمورها، وكنت فقيرة محتاجة للنفقة، فلك أن تأكلي من مالها بالمعروف، كحال القائم على مال اليتيم في قوله تعالى: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ {النساء: 6}.

على خلاف بين أهل العلم في تفاصيل ذلك، وهل يرد إذا أيسر أم لا؟ وراجعي في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 10970، 148993، 111639.

وعلى ذلك، فما أنفقتِهِ فوق الحاجة يجب عليك رد مثله أو قيمته مطلقا، ومن ذلك قيمة الهاتف والأضحية التي ضحيت بها عن نفسك.

أما الأضحية عن أمك، ففي مشروعيتها في حال الحجر عليها خلاف بين أهل العلم، سبق بيانه في الفتوى رقم: 102829.
وأما الراتب التقاعدي الذي قدمت معاملة لتحصيله منذ وفاة والدك، فإنه إذا كان في حكم المتيقن حصوله، ولا يحتاج إلا إلى وقت إنجاز المعاملة، فلا يبعد أن يكون حكمك فيه كحكم من له مال غائب، فيكون ما أنفقته على نفسك دينا في ذمتك معلقا بحصول هذا الراتب، جاء في كفاية الأخيار لتقي الدين الحصني الشافعي: لو كان للابن مال غائب لزم الوالد أن ينفق عليه قرضا موقوفا، فإن قدم ماله رجع عليه بما أنفق، وإن لم يأذن الحاكم إذا قصد الرجوع وإن هلك المال لم يرجع بما أنفق من حين التلف، قاله الماوردي. اهـ.
وعلى ذلك، فإذا استلمت ما تجمع من رواتب السنة والنصف الماضية، فعليك رد ما أنفقته على خاصة نفسك إلى مال أمك.

وبخصوص زكاة الفطر: فإنها تجب في مال المجنون ونحوه، جاء في المجموع للنووي: فإن أبا حنيفة ـ رحمه الله ـ وافقنا على إيجاب العُشْر في مال الصبي والمجنون، وإيجاب زكاة الفطر في مالهما... اهـ.

وأما كفارة اليمين: فلا تجب على مغلوب على عقله، لأنه غير مكلف، قال البهوتي في كشاف القناع: فلا تنعقد يمين النائم ولا يمين الصغير قبل البلوغ، ولا يمين المجنون ونحوهم كزائل العقل بشرب دواء، أو محرم مكرها، لحديث: رفع القلم عن ثلاث... اهـ.

ولذلك، فما أعطيته لأخيك من مال أمك ليكفر عن يمينها لا بد من ضمانه، ولاسيما والحال كما ذكرت: كنت متأكدة أن أخي كان يشتري بها ملابس للعيد لأولاده! ولا يعفيك من ضمان هذا المال أنك كنت جاهلة بالحكم، فإن الجهل يسقط الإثم ولكنه لا يسقط الضمان، قال السيوطي في الأشباه والنظائر: اعلم أن قاعدة الفقه: أن النسيان والجهل، مسقط للإثم مطلقا، وأما الحكم: فإن وقعا في ترك مأمور لم يسقط، بل يجب تداركه، ولا يحصل الثواب لمترتب عليه لعدم الائتمار، أو فعل منهي، ليس من باب الإتلاف، فلا شيء فيه، أو فيه إتلاف لم يسقط الضمان، فإن كان يوجب عقوبة كان شبهة في إسقاطها. اهـ.

وقال ابن عثيمين في شرح الأربعين النووية: جميع المحرّمات في العبادات وغير العبادات إذا فعلها الإنسان جاهلاً أو ناسياً أو مكرهاً، فلا شيء عليه فيما يتعلق بحق الله، أما حق الآدمي فلا يعفى عنه من حيث الضمان، وإن كان يُعفى عنه من حيث الإثم. اهـ.

وأخيرا ننبه السائلة على أن التضييق في التصرف في أموال المحجور عليهم ليس فقط لتعلق حقهم به، وإنما كذلك لتعلق حقوق ورثتهم من بعدهم بهذا المال.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني