الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما أسلوب الالتفات في القرآن الكريم، فطريقة استعمال القرآن له يعد وجها من وجوه الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم، وهو في اللغة بصفة عامة أحد وجوه البلاغة العربية! وقد كثر جدا في القرآن الكريم، ومن المستغرب ـ بل المستهجن ـ أن يخلط أحد بين هذا الأسلوب العربي الفصيح البليغ، وبين العوج!!! فالقرآن: غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ـ قال السعدي: أي: ليس فيه خلل ولا نقص بوجه من الوجوه، لا في ألفاظه ولا في معانيه، وهذا يستلزم كمال اعتداله واستقامته، كما قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا. اهـ.
وقال في تفسير آية الكهف: وصف هذا الكتاب بوصفين مشتملين على أنه الكامل من جميع الوجوه، وهما نفي العوج عنه، وإثبات أنه قيم مستقيم، فنفي العوج يقتضي أنه ليس في أخباره كذب، ولا في أوامره ونواهيه ظلم ولا عبث، وإثبات الاستقامة، يقتضي أنه لا يخبر ولا يأمر إلا بأجل الإخبارات.. وأن أوامره ونواهيه، تزكي النفوس وتطهرها وتنميها وتكملها، لاشتمالها على كمال العدل والقسط، والإخلاص، والعبودية لله رب العالمين وحده لا شريك له. اهـ.
فهذا شيء، والالتفات شيء آخر تماما، قال السيوطي في معترك الأقران في إعجاز القرآن: الالتفات، وهو نقل الكلام من أسلوب إلى آخر ـ أعني من التكلم أو الخطاب أو الغيبة ـ إلى آخر منها بعد التعبير بالأول، هذا هو المشهور، وقال السكاكي: إما ذلك أو التعبير بأحدهما فيما حقُّه التعبير بغيره، وله فوائد، منها: تَطْرية الكلام، وصيانة السمع عن الضجَر والملل، لِمَا جُبِلت عليه النفوس من حب التنقلات، والسآمة من الاستمرار على مِنْوَال واحد، هذه فائدته العامة، ويختص كل موضع بنُكَت ولطائف باختلاف محله كما سنبيِّنُه... اهـ.
وقال عبد الرحمن الميداني في البلاغة العربية: الالتفات من الأساليب البلاغيَّةِ ذَاتِ اللَّطَائف النفيسة، وقد تكرّر في القرآن المجيد استخدامه جداً، وله فيه أمثلة كثيرة، وهو فنٌّ بديعٌّ من فنون القول يُشْبِهُهُ تحريكٌ آلات التصوير السينمائي بنقلها من مشهد إلى مشهد آخر في المختلفات والمتباعدات الّتي يُرادُ عَرْضُ صُوَرٍ مِنْها، ومفاجأة الْمُشَاهِدِ بلَقَطاتٍ مِنْها متباعدات، ولكنَّها تدخُلُ في الإِطار الْكُلّي الذي يُراد عرض طائفةٍ من مشاهده تدلُّ على ما يُقْصد الإِعلام به، ويَهْدِي الذوقُ الأدبيُّ السليم إلى استخدام الالتفات استخداماً بارعاً يُحَقِّق به البليغ فوائد في نفس المتَلَقِّي أو فكره، مع ما يُحِقِّق به من الاقتصاد والإِيجاز في العبارة، فلننظر إلى الالتفات البديع الموجود في النصّ القرآنيّ التالي: بينما يتحدّث النّصّ عن بني إسرائيل الأوّلين ما فعلُوا من كبائِرَ بأسلوب الحديث عن الغائب، يلتفت النّصّ فيخاطب بني إسرائيل المعاصرين لنزول القرآن فمن يأتي بعدهم كأنَّهم الأوّلون أنفسُهم، للإِشعار بأنّ هؤلاء الْخُلُوف ما زالوا يتّصفون بأوصاف الأوّلين، لم يغيّروا منها شيئاً، فهم مَعْنِيُّون بعموم الخطاب، فقال الله عزّ وجلّ في سورة الأعراف: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب يَأْخُذُونَ عَرَضَ هاذا الأدنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الكتاب أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ والدار الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ {الآية: 169} فالالتفاتُ في: أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ـ خطاباً لبني إسرائيل المعاصرين لنزول النصّ فمن بعدهم فيه فائدتان:
الأولى: فنيّةُ التنويع في العبارة المثيرة لانْتِباه المتلَقِّي، والباعثة لنشاطه في استقبال ما يُوَجَّه له، والإِصْغَاءِ إلَيْه.
الثانية: الاقتصاد والإِيجاز في التعبير، فبدل أن يقول النصُّ لمعاصري التنزيل الكافرين من بني إسرائيل فمن بَعْدَهم: وأنتم يا بني إسرائيل ما زِلْتُم على طريقة أسْلاَفِكُمْ، أَفَلاَ تَعْقِلُونَ؟ اقْتَصَرَ النّصُّ على: أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ـ مُسْتَغْنِياً بأُسْلُوبِ الالْتفاتِ، للدلالة على ما يُمْكِن فَهْمُه ذِهْناً، إذْ اعتَبَرَهُمُ النَّصُّ داخِلِين في عُمُوم خطاب الغائبين السّالِفين، إذْ هم موافقون على ما كانوا يفعلون، أو يفعلون مثلهم. اهـ.
وأما معنى الفاء ودلالة استعمالها في قوله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ {الأعراف: 4} فقد تكلم عنه المفسرون، من قدماء ومعاصرين، بما لا مزيد عليه، فهذا شيخ المفسرين ابن جرير الطبري يقول في تفسيره: فإن قال قائل: وكيف قيل: وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتًا أو هم قائلون؟ وهل هلكت قرية إلا بمجيء بأس الله وحلول نقمته وسَخَطه بها؟ فكيف قيل: أهلكناها فجاءها؟ وإن كان مجيء بأس الله إياها بعد هلاكها، فما وجه مجيء ذلك قومًا قد هلكوا وبادوا، ولا يشعرون بما ينزل بهم ولا بمساكنهم؟ قيل: إن لذلك من التأويل وجهين، كلاهما صحيح واضح منهجه:
أحدهما: أن يكون معناه: وكم من قرية أهلكناها ـ بخذلاننا إياها عن اتباع ما أنزلنا إليها من البينات والهدى، واختيارها اتباع أمر أوليائها المُغْوِيتِهَا عن طاعة ربها: فجاءها بأسنا ـ إذ فعلت ذلك: بياتا أو هم قائلون ـ فيكون إهلاك الله إياها: خذلانه لها عن طاعته، ويكون مجيء بأس الله إياهم: جزاء لمعصيتهم ربهم بخذلانه إياهم.
والآخر منهما: أن يكون الإهلاك هو البأس بعينه، فيكون في ذكر الإهلاك الدلالةُ على ذكر مجيء البأس، وفي ذكر مجيء البأس الدلالة على ذكر الإهلاك، وإذا كان ذلك كذلك، كان سواء عند العرب، بُدئ بالإهلاك ثم عطف عليه بالبأس، أو بدئ بالبأس ثم عطف عليه بالإهلاك، وذلك كقولهم: زرتني فأكرمتني، إذ كانت الزيارة هي الكرامة، فسواء عندهم قدم الزيارة وأخر الكرامة، أو قدم الكرامة وأخر الزيارة، فقال: أكرمتني فزرتني.
وكان بعض أهل العربية يزعم أن في الكلام محذوفًا، لولا ذلك لم يكن الكلام صحيحًا وأن معنى ذلك: وكم من قرية أهلكناها، فكان مجيء بأسنا إياها قبل إهلاكنا، وهذا قول لا دلالة على صحته من ظاهر التنزيل، ولا من خبر يجب التسليم له، وإذا خلا القولُ من دلالة على صحته من بعض الوجوه التي يجبُ التسليم لها، كان بيّنًا فساده، وقال آخر منهم أيضًا: معنى الفاء في هذا الموضع معنى الواو، وقال: تأويل الكلام: وكم من قرية أهلكناها، وجاءها بأسنا بياتًا، وهذا قول لا معنى له، إذ كان للفاء عند العرب من الحكم ما ليس للواو في الكلام، فصرفها إلى الأغلب من معناها عندهم، ما وجد إلى ذلك سبيل، أولى من صرفها إلى غيره. اهـ.
وقال الطاهر ابن عاشور في التحرير والتنوير: الفاء في قوله: فجاءها بأسنا ـ عاطفة جملة: فجاءها بأسنا ـ على جملة: أهلكناها، وأصل العاطفة أن تفيد ترتيب حصول معطوفها بعد حصول المعطوف عليه، ولما كان مجيء البأس حاصلا مع حصول الإهلاك أو قبله، إذ هو سبب الإهلاك، عسر على جمع من المفسرين معنى موقع الفاء هنا، حتى قال الفراء: إن الفاء لا تفيد الترتيب مطلقا، وعنه أيضا إذا كان معنى الفعلين واحدا أو كالواحد قدمت أيهما شئت مثل شتمني فأساء، وأساء فشتمني، وعن بعضهم: أن الكلام جرى على طريقة القلب، والأصل: جاءها بأسنا فأهلكناها، وهو قلب خلي عن النكتة، فهو مردود، والذي فسر به الجمهور: أن فعل: أهلكناها ـ مستعمل في معنى إرادة الفعل، كقوله تعالى: فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم {النحل: 98} وقوله: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم {المائدة: 6} الآية أي: فإذا أردت القراءة، وإذا أردتم القيام إلى الصلاة، واستعمال الفعل في معنى إرادة وقوع معناه من المجاز المرسل عند السكاكي، قال: ومن أمثلة المجاز قوله تعالى: فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله {النحل: 98} استعمل قرأت مكان أردت القراءة، لكون القراءة مسببة عن إرادتها استعمالا مجازيا بقرينة الفاء في: فاستعذ بالله ـ وقوله: وكم من قرية أهلكناها ـ في موضع أردنا إهلاكها بقرينة: فجاءها بأسنا ـ والبأس الإهلاك، والتعبير عن إرادة الفعل بذكر الصيغة التي تدل على وقوع الفعل يكون لإفادة عزم الفاعل على الفعل، عزما لا يتأخر عنه العمل، بحيث يستعار اللفظ الدال على حصول المراد، للإرادة لتشابههما، وأما الإتيان بحرف التعقيب بعد ذلك فللدلالة على عدم التريث، فدل الكلام كله: على أنه تعالى يريد فيخلق أسباب الفعل المراد فيحصل الفعل، كل ذلك يحصل كالأشياء المتقارنة، وقد استفيد هذا التقارن بالتعبير عن الإرادة بصيغة تقتضي وقوع الفعل، والتعبير عن حصول السبب بحرف التعقيب، والغرض من ذلك تهديد السامعين المعاندين وتحذيرهم من أن يحل غضب الله عليهم فيريد إهلاكهم، فضيق عليهم المهلة لئلا يتباطئوا في تدارك أمرهم والتعجيل بالتوبة، والذي عليه المحققون أن الترتيب في فاء العطف قد يكون الترتيب الذكري، أي ترتيب الإخبار بشيء عن الإخبار بالمعطوف عليه، ففي الآية أخبر عن كيفية إهلاكهم بعد الخبر بالإهلاك، وهذا الترتيب هو في الغالب تفصيل بعد إجمال، فيكون من عطف المفصل على المجمل، وبذلك سماه ابن مالك في التسهيل.. اهـ.
وبهذا يتضح ما أشكل على السائل! وهنا نكرر ما نصحناه به قبل ذلك مرارا، بأن يغير من أسلوبه في التعامل مع القرآن الكريم، ولا يعتمد على فهمه هو في إثبات معنى الآيات وما يترتب على ذلك من إشكالات، بل ينبغي أن يرجع إلى كلام أهل العلم من الفسرين وأهل اللغة، ليتبين له المراد، ثم إننا نربأ به عن تزكية نفسه ورؤيتها، فإن ذلك من أسباب الخذلان، لما يؤدي إليه من الغرور والعجب والعياذ بالله.
والله أعلم.