الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن هذا النوع من النذر يعرف بنذر اللجاج والغضب، ويجري مجرى اليمين، فلا يلزم الوفاء به، بل يخير الناذر بين فعل المنذور، وبين كفارة اليمين على الراجح.
قال ابن قدامة في المغني: إذا أخرج النذر مخرج اليمين، بأن يمنع نفسه، أو غيره به شيئا، أو يحث به على شيء، مثل أن يقول: إن كلمت زيدا، فلله عليَّ الحج، أو صدقة مالي، أو صوم سنة. فهذا يمين، حكمه أنه مخير بين الوفاء بما حلف عليه، فلا يلزمه شيء، وبين أن يحنث، فيتخير بين فعل المنذور، وبين كفارة يمين، ويسمى نذر اللجاج والغضب، ولا يتعين عليه الوفاء به، وإنما يلزم نذر التبرر. وهذا قول عمر، وابن عباس، وابن عمر، وعائشة، وحفصة، وزينب بنت أبي سلمة. وبه قال عطاء، وطاوس، وعكرمة، والقاسم، والحسن، وجابر بن زيد، والنخعي، وقتادة، وعبد الله بن شريك، والشافعي، والعنبري، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وابن المنذر.
وقال سعيد بن المسيب: لا شيء في الحلف بالحج. وعن الشعبي، والحارث العكلي، وحماد، والحكم: لا شيء في الحلف بصدقة ماله؛ لأن الكفارة إنما تلزم بالحلف بالله تعالى، لحرمة الاسم، وهذا ما حلف باسم الله، ولا يجب ما سماه؛ لأنه لم يخرجه مخرج القربة، وإنما التزمه على طريق العقوبة، فلم يلزمه.
وقال أبو حنيفة ومالك: يلزمه الوفاء بنذره؛ لأنه نذر، فيلزمه الوفاء به، كنذر التبرر. وروي نحو ذلك عن الشعبي. ولنا ما روى عمران بن حصين، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين». رواه سعيد بن منصور، والجوزجاني، في "المترجم".
وعن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من حلف بالمشي، أو الهدي، أو جعل ماله في سبيل الله، أو في المساكين، أو في رتاج الكعبة، فكفارته كفارة اليمين».
ولأنه قول من سمينا من الصحابة، ولا مخالف لهم في عصرهم، ولأنه يمين، فيدخل في عموم قوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين} [المائدة: 89].
ودليل أنه يمين، أنه يسمى بذلك، ويسمى قائله حالفا، وفارق نذر التبرر؛ لكونه قصد به التقرب إلى الله تعالى والبر، ولم يخرجه مخرج اليمين، وها هنا خرج مخرج اليمين، ولم يقصد به قربة ولا بِرًّا، فأشبه اليمين من وجه، والنذر من وجه، فخير بين الوفاء به وبين الكفارة.
وعن أحمد رواية ثانية أنه تتعين الكفارة، ولا يجزئه الوفاء بنذره. وهو قول لبعض أصحاب الشافعي؛ لأنه يمين. والأول أولى؛ لأنه إنما التزم فعل ما نذره، فلا يلزمه أكثر منه، كنذر التبرر. وفارق اليمين بالله تعالى؛ لأنه أقسم بالاسم المحترم، فاذا خالف لزمته الكفارة، تعظيما للاسم، بخلاف هذا. اهـ. وانظر الفتوى: 17762.
وعليه: فيجب عليك أولا أن تكف عن المعصية في الحال، وتتوب إلى الله تعالى منها، ثم إن تجرأت، وعدت لهذه المعصية، فإنك تتخير بين الإتيان بمئة ركعة، وبين إخراج كفارة يمين.
ولا تلزمك إلا كفارة يمين واحدة عن المرات المتعددة التي فعلت فيها تلك المعصية، ولم تخرج الكفارة.
جاء في مطالب أولي النهى: (ومن لزمته أيمان موجبها واحد ولو على أفعال) نحو: والله لا دخلت دار فلان، والله لا أكلت كذا، والله لا لبست كذا، وحنث في الكل (قبل تكفير)، (فكفارة واحدة) نَصًّا؛ لأنها كفارة من جنس، فتداخلت كلها كالحدود من جنس -وإن اختلفت محالها- كما لو زنا بنساء، أو سرق من جماعة.
(وكذا حلف بنذور مكررة) أن لا يفعل كذا وفعله، أجزأه كفارة واحدة؛ لأن الكفارة للزجر والتطهير، فهي كالحدود، بخلاف الطلاق.
(وإن حنث في يمين واحدة، وكفر عنها، ثم حلف) يمينا (أخرى، لزمته) كفارة (ثانية)، وكذا لو كفر عن الثانية ثم حلف يمينا أخرى، لزمته كفارة ثالثة (وهلم جرا) لوجوب كل واحدة عليه بالحنث بعد أن كفر عن التي قبلها، كما لو وطئ في نهار رمضان فكفر، ثم وطئ فيه أخرى، بخلاف ما لو حنث في الكل قبل أن يكفر؛ كما تقدم. اهـ.
ونذكرك مرة أخرى بوجوب اجتناب المعاصي، والبعد عنها، والمبادرة بالتوبة إلى الله عند الوقوع فيها.
والله أعلم.