وأما قوله - عز وجل - : ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) فقد قال قوم : إن ذلك على الحتم منه عليهم في قصر الصلاة في السفر ، وممن قال ذلك منهم أبو حنيفة ، وزفر ، وأبو يوسف ، ومحمد ، فجعلوا على المسافر في صلاته القصر ، ورووا في ذلك حديث رضي الله عنها الذي رويناه فيما تقدم منا في هذا الكتاب ، عائشة وكان قوله - عز وجل - عندهم : ( فرضت الصلاة ركعتين [ ص: 195 ] فأقرت في السفر وزيدت في صلاة الحضر فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) كقوله - عز وجل - : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) فلم يكن ذلك على إباحة ترك الطواف بهما ، بل كان على إثبات الطواف بهما في الحج والعمرة .
وقالوا : لما كان ما زيد على الركعتين فيما يقصر من الصلوات في قول من أباح الإتمام فيها ، إن شاء صلاه وإن شاء تركه ، دل ذلك على أنه ليس بفريضة ، لأن الفرائض ليس على الناس الاختيار بين تركها وبين الإتيان بها ، وإنما عليهم الإتيان بها حتما وفرضا .
وقال قوم : قوله : ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) على إباحة القصر لمن شاء أن يقصر ، لا على الحتم عليهم بذلك ، وممن قال ذلك منهم : وذلك أن نفي الجناح هاهنا كيفية قوله - عز وجل - : ( الشافعي ، فلا جناح عليهما أن يتراجعا ) في قوله : ( ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم ) وذلك كله على الإباحة لا على الحتم .
وكان القول الأول أولى عندنا لما قد عارض به أهله أهل هذا القول الثاني ، وبما قد أثبتوه من صفات الفرائض والنوافل في الفصل الأول .
وقال قائل : ظاهر الآية يدل على غير ما قد روي عن رضي الله عنها في الحديث الذي رويتموه عنها ، لأن فيها : ( عائشة فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) ولا تقصر إلا ما كان تاما قبل القصر .
قال : وقد روي عن ما يدل على هذا المعنى وذكر ما : جابر بن عبد الله
361 - حدثنا قال : حدثنا يزيد بن سنان ، قال : حدثني أبي ، عن معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي ، قتادة ، عن سليمان اليشكري ، أنه سأل عن قصر الصلاة في الخوف أي يوم أنزل وأين هو ؟ . جابر بن عبد الله
قال : انطلقنا نتلقى عير قريش أتته من الشام ، حتى إذا كنا بنخل ، جاء رجل من القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد قال : " نعم " قال : تخافني ؟ قال : " لا " قال : فمن يمنعك مني ؟ قال : " الله - عز وجل - " . [ ص: 196 ] قال : فسل السيف فتهدده القوم وأوعدوه ، فنادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرحيل وأخذ السلاح ، ثم نودي بالصلاة فصلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بطائفة من القوم ، وطائفة أخرى يحرسونهم ، فصلى بالذين يلونه ركعتين ، ثم سلم ، ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم ، فقاموا في مصاف أصحابهم ، ثم جاء الآخرون فصلى بهم ركعتين والآخرون يحرسونهم ، ثم سلم ، وكان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات وللقوم ركعتان ، فيومئذ أنزل الله - عز وجل - في قصر الصلاة ، وأمر المؤمنين بأخذ السلاح .
ففي هذا الحديث أن . القصر في الصلاة طرأ على الإتمام
فقيل له : ليس هذا عندنا بمخالف لحديث الذي قد ذكرنا ، لأنه قد يجوز أن يكون الفرض المتقدم في الصلاة كان ركعتين على ما في حديث عائشة رضي الله عنها ، ثم زيد فيها محملا فاستعمل ذلك في السفر وفي الحضر حين أنزل الله - عز وجل - هذه الآية في عائشة فأقر صلاة السفر على ما كانت عليه قبل الإتمام ، وجعل الزيادة الطارئة على الاقتصار في الحضر خاصة دون السفر . صلاة الخوف في السفر ،