قال - رضي الله عنه - : أبو حاتم فإن الإكثار منهما يؤدي إلى الخفة والسخف، والإقلال منهما يؤدي إلى العجب والكبر، ولا ينبغي له أن يغضب؛ لأن قدرته من وراء حاجته، ولا أن يكذب؛ لأنه لا يقدر أحد على استكراهه، ولا له أن يبخل؛ لأنه لا عذر له في منع الأموال والجاه معا، ولا له أن يحقد؛ لأنه يجب أن يترفع عن المجازاة، فأفضل السلطان ما لم يخالطه البطر، وأعجزهم آخذهم بالهوينا، وأقلهم نظرا في العواقب، وخير السلطان من أشبه النسر حوله الجيف، لا من أشبه الجيف حولها النسور. لا يجب للسلطان أن يفرط البشاشة، والهشاشة للناس، ولا أن يقل منهما،
ويجب عليه استبقاء الرياسة، وما فيه من نعمة الله عليه، بلزوم تقوى الله، لأنه ما من قوي في الدنيا إلا وفوقه أقوى منه، فمتى ما عرف السلطان فضل قوته على الضعفاء، فغره ذلك من قوة الأقوياء كانت قوته حينا عليه وهلاكا له، والضعيف المحترس أقرب إلى السلامة من القوي المغتر؛ لأن صرعة الاسترسال لا تكاد تستقال، ولا يجب أن يعجل في سلطانه بعقاب من يخاف أن يندم عليه، ولا يثقن بمن عاقبه من غير جرم. وتفقد [ ص: 270 ] أمور الرعية، وإنصاف بعضهم بعضا؛
وما أشبه السلطان إلا بالنار، إن قصرت بطل نفعها، وإن جاوزت عظم ضرها، فخير السلطان من أشبه الغيث في أحيانه في نفع من يليه، لا من أشبه النار في أكلها ما يليها.
والسلطان إذا كان عادلا خير من المطر إذا كان وابلا، وسلطان غشوم خير من فتنة تدوم، والناس إلى عدل سلطانهم أحوج منهم إلى خصب زمانهم.
ولقد حدثنا ، حدثنا عمرو بن محمد الغلابي ، حدثنا مرجي بن المؤمل بن المثنى المري ، عن أبيه، قال: قال "الولي من الرعية مكان الروح من الجسد الذي لا حياة له إلا به، وموضع الرأس من أركان الجسد الذي لا بقاء له إلا معه". الأحنف بن قيس:
وأنشدني ابن زنجي البغدادي ، للأفوه الأودي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا والبيت لا يبتنى إلا بأعمدة
ولا عماد إذا لم ترس أوتاد فإن تجمع أوتاد وأعمدة
وساكن أدركوا الأمر الذي كادوا تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت
فإن تولت فبالأشرار تنقاد
قال - رضي الله عنه - : أبو حاتم ثم يتفكر فيما قلده الله من أمر إخوانه، ورفعه عليهم؛ ليعلم أنه مسؤول عنهم في دق الأمور وجلها، ومحاسب على قليلها وكثيرها، ثم يتخذ وزيرا صالحا عاقلا عفيفا نصوحا، وعمالا صالحين [ ص: 271 ] بررة راشدين، وأعوانا مستورين، وخدما معلومين، ثم يقلد عماله ما لا غنى له عنهم، ويشترط عليهم تقوى الله وطاعته، وأخذ المال من حله، ويفرقه في أهله، ثم يتفقد أمر بيت المال بأن لا يدخله حبة فما فوقها من قهر، أو جور، أو سلب، أو نهب، أو رشوة؛ فإنه مسؤول عن كل ذرة منه، ومحاسب على كل حبة فيه، ثم لا يخرجه إلا في المواضع التي أمر الله - جل وعلا - في سورة الأنفال. الواجب على السلطان قبل كل شيء أن يبدأ بتقوى الله، وإصلاح سريرته بينه وبين خالقه،
ثم يتفقد أمور الحرمين، وطريق الحاج، ومجاوري بيت الله، وقبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يتفقد ثغور المسلمين، ولا يولي على الثغور من عماله إلا من يعلم أن القتل في سبيل الله يكون آثر عنده من البقاء في الدنيا؛ ليغزي الناس، ولا يعطل الثغر.
ثم يتفقد ثغور المسلمين، ومراقبهم، والأبرجة التي بين المسلمين وبين عدوهم بأن يعمرها، ويقيم فيها أعينا من المسلمين تتجسس أخبار العدو، ويجري عليهم من بيت مالهم.
ثم يتفقد أولاد المهاجرين والأنصار بعطاياهم، ويعرف فضيلتهم وسابقة آبائهم، وأنه إنما نال ما نال بهم.
ثم يتفقد أمور الحكام بأن لا يولي أحدا على قضاء المسلمين إلا من يعلم منه العفاف، والعلم، وترك الميل إلى الهوى، والحكم بغير ما يوجبه العلم.
ثم يتفقد أهل العلم، والقراء، والمؤذنين، والصالحين، وضعفاء المسلمين، وليكن لمن هو أصغر سنا منه أبا، ولمن هو أكبر منه ابنا، ولأترابه أخا، فيكون في تفقد أمورهم، ولصلاح أسبابهم أكثر من تفقدهم بأنفسهم.
[ ص: 272 ] ثم يختار من الرعية أقواما أمناء، يبعث بهم في كل سنة إلى المدن؛ ليشرفوا على العمال، والحكام، ويتفقدوا أسبابهم، وسيرهم، ويخبروه بها، فيعزل من استحق منهم العزل، ويقر من اتبع الحق.
ثم يجعل لنفسه موضعا لا يمنع منه لطرح القصص، ويبرز للرعية في كل يوم مرة، أو في كل ثلاثة أيام، أو في كل أسبوع؛ ليرفعوا إليه حوائجهم، وليجتنب الحدة، وليلزم الحلم الدائم فيما يرد عليه من أسبابهم.
ولقد حدثنا عبد الله بن قحطبة ، حدثنا محمد بن زنبور، حدثنا أن أهل الجاهلية لم يكونوا يسودون عليهم أحدا لشجاعة، ولا لسخاء، إنما كانوا يسودون من إذا شتم حلم، وإذا سئل حاجة قضاها، أو قام معهم فيها. أبو بكر بن عياش
وأنشدني الأبرش:
وقد يبغض الحيات أولاد آدم وأبغض ما فيها إليهم رؤوسها
وما ابتليت يوما بشر قبيلة أضر عليها من سفيه يسوسها
قال - رضي الله عنه - : أبو حاتم لا يستحق أحد اسم الرياسة حتى يكون فيه ثلاثة أشياء: العقل، والعلم، والمنطق.
ثم يتعرى عن ستة أشياء: عن الحدة، والعجلة، والحسد، والهوى، والكذب، وترك المشاورة.
ثم ليلزم في سياسته على دائم الأوقات ثلاثة أشياء: الرفق في الأمور، والصبر على الأشياء، وطول الصمت.
فمن تعرى عن هذه الأشياء، وهو ذو سلطان، عمي عليه قلبه، وتشتتت عليه أموره، ومن لم يكن فيه خصلة من هذه الخصال نقص من ضوء بصر قلبه مثلها، ودخل الخلل في أموره نحوها.
وإنما مثل الرئيس والرعية كمثل جماعة ليس فيهم إلا قائد واحد، فإن لم يكن [ ص: 273 ] ذلك القائد أحد الناس بصرا، وألطفهم نظرا، كان خليقا أن يوقعهم وإياه في وهدة تندق أعناقهم وعنقه معهم.
والواجب على السلطان أن لا يغفل عن الأشياء الأربعة التي صلاحه في دينه ودنياه فيها، وهي ما حدثنا به ، حدثنا عمرو بن محمد الغلابي ، حدثنا محمد بن عبيد الله الجشمي ، حدثنا المدائني، قال: خرج يوما من عند الزهري فقال: ما رأيت كاليوم، ولا سمعت به كأربع كلمات تكلم بهن رجل آنفا عند هشام بن عبد الملك، فقيل له: وما هن؟ قال: قال له رجل: يا أمير المؤمنين، احفظ عني أربع كلمات فيهن صلاح ملكك، واستقامة رعيتك، قال: هاتهن، قال: لا تعدن عدة لا تثق من نفسك بإنجازها، ولا يغرنك المرتقى وإن كان سهلا إذا كان المنحدر وعرا، واعلم أن للأعمال جزاء فاتق العواقب، وأن للأمور بغتات فكن على حذر. هشام بن عبد الملك،
وأنشدني المنتصر بن بلال:
بلاء الناس مذ كانوا إلى أن تأتي الساعه
بحب الأمر والنهي وحب السمع والطاعه
قال - رضي الله عنه - : أبو حاتم لأن من أوتيها عن مسألة وكل إليها، ومن أعطيها من غير مسألة أعين عليها، ومن اشتهر بالرياسة فليحترز؛ لأن الريح الشديدة لا تحطم الكلأ، وهي تحطم دوح الشجر، ومشيد البنيان. لا يجب للعاقل طلب الإمارة؛
ومادة الرأي، وليصنع إلى الناس كافة في الوقت الذي يقدر على الصنائع والمعروف قبل أن يجيئه الوقت الذي يفقد فيه القدرة عليها، وليعتبر بمن كان قبله من الملوك، والأمراء، والسادة، والوزراء؛ لأن من ظفر بأمر جسيم فأضاعه فاته، ومن أمكنته الفرصة فأخر العمل فيها لا تكاد تعود إليه. وليلزم المشورة؛ فإن في المشورة صلاح الرعية،
[ ص: 274 ] والسلطنة إنما هي قول الحق، والعمل بالعدل، لا التفاخر في الدنيا، واستعمال البذل.