[ ص: 280 ] المجلس الرابع والعشرون
في قصة زكريا ويحيى عليهما السلام
الحمد لله الذي لم يزل عظيما عليا ، يخذل عدوا وينصر وليا ، أنشأ الآدمي خلقا سويا ، ثم قسمهم قسمين رشيدا وغويا ، رفع السماء سقفا مبنيا ، وسطح المهاد بساطا مدحيا ، ورزق الخلائق بحريا وبريا ، كم أجرى لعباده سريا أخرج منه لحما طريا ، كم أعطى ضعيفا ما لم يعط قويا ، فبلغه على الضعف ضعف المراد ووهب له على الكبر الأولاد كهيعص ذكر رحمت ربك عبده زكريا .
أحمده إذ فضل وأعطى شبعا وريا ، وأصلي على رسوله محمد أفضل من امتطى تبريا ، وعلى الذي أنفق وما قلل حتى تخلل ويكفي زيا ، وعلى أبي بكر الذي كان مقدما في الجد جريا ، وعلى عمر الذي لم يزل عفيفا حييا ، وعلى عثمان أشجع من حمل خطيا ، وعلى عمه علي المستسقى بشيبته ، فانتقعت الأرض ريا . العباس
كهيعص للعلماء في تفسيرها قولان : أحدهما : أنه من المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه ، والثاني : أنها حروف من أسماء الله عز وجل ، فالكاف من الكافي ، والهاء من الهادي والياء من حكيم والعين من عليم والصاد من صادق . قال الله تعالى :
ذكر رحمت ربك المعنى : هذا الذي نتلو عليك ذكر رحمة ربك قوله تعالى : عبده زكريا وفيه ثلاث لغات : أهل الحجاز يقولون : هذا زكريا قد جاء مقصورا ، وزكريا ممدودا ، وأهل نجد يقولون زكري فيجرونه ويلقون الألف .
إذ نادى ربه نداء خفيا والمراد بالنداء الدعاء ، وإنما أخفاه لئلا يقول الناس : انظروا إلى هذا الشيخ يسأل الولد على الكبر . قوله تعالى
قال رب إني وهن العظم مني أي ضعف ، وإنما خص العظم لأنه الأصل في التركيب ، وقال مجاهد وقتادة : شكا ذهاب أضراسه ، واشتعل الرأس شيبا أي انتشر الشيب فيه كما ينتشر شعاع النار في الحطب ، والمراد بدعائك أي بدعائي إياك رب شقيا أي لم أكن أتعب بالدعاء ثم أخيب ، لأنك قد عودتني الإجابة .
[ ص: 281 ] وإني خفت الموالي يعني الذين يلونه في النسب ، وهم بنو العم والعصبة ، فخاف أن يتولوا ماله وإن لم يكن على جهة الميراث ، وأحب أن يتولاه ولده ، وقرأ عثمان وسعد بن أبي وقاص وابن جبير ، عن وابن أبي سريج الكسائي : " خفت الموالي " بفتح الخاء وتشديد الفاء على معنى : قلت ، فعلى هذا إنما يكون خاف على علمه ونبوته ألا يورثا فيموت العلم .
وكانت امرأتي عاقرا والعاقر من الرجال والنساء الذي لا يأتيه الولد ، وإنما قال عاقرا ولم يقل عاقرة لأن الأصل في هذا الوصف للمؤنث ، والمذكر كالمستعار ، فأجري مجرى طالق وحائض ، قال قوله تعالى : : وكان سنه يومئذ مائة وعشرين سنة وامرأته ثمان وتسعين سنة . ابن عباس
فهب لي من لدنك من عندك وليا أي ولدا صالحا يتولاني ، وسبب سؤاله : أنه لما رأى الفاكهة تأتي مريم لا في حينها طمع في الولد على الكبر فسأل .
يرثني ويرث من آل يعقوب المراد البنوة من الكل قوله تعالى : واجعله رب رضيا أي مرضيا ، فصرف عن مفعول إلى فعيل كما قالوا : مقتول وقتيل .
يا زكريا إنا نبشرك أي نسرك ونفرحك ، قال : لم يسم ابن عباس يحيى قبله فشرف بأن سماه الله تعالى ولم يكل تسميته إلى أبويه .
قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وإنما قال هذا ليعلم أيأتيه الولد على هذه الحال أم يرد هو وزوجته إلى حالة الشباب .
قوله تعالى : وقد بلغت من الكبر عتيا وهو نحول العظم ويبسه .
قال كذلك أي الأمر كما قيل لك من هبة الولد على الكبر قال ربك هو علي هين أي خلق يحيى علي سهل وقد خلقتك أي أوجدتك من قبل ولم تك شيئا .
قال رب اجعل لي آية أي علامة على وجود الحمل ، وأراد أن يستعجل السرور ويبادر بالشكر ، قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا والمعنى تمنع من الكلام وأنت سوي سليم من غير خرس .
فخرج على قومه وهذا في صبيحة الليلة التي حملت فيها امرأته من المحراب [ ص: 282 ] أي مصلاه فأوحى إليهم وفيه قولان : أحدهما : كتب إليهم في كتاب ، قاله ، والثاني : أومأ برأسه ويديه ، قاله ابن عباس مجاهد أن سبحوا أي صلوا .
يا يحيى المعنى : وهبنا له قوله تعالى : يحيى وقلنا له يا يحيى خذ الكتاب وهو التوراة بقوة أي بجد واجتهاد في العمل بما فيها وآتيناه الحكم وهو الفهم صبيا وفي سنه يومئذ قولان : أحدهما : سبع سنين ، رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والثاني : ثلاث سنين قاله ابن عباس قتادة ومقاتل .
قوله تعالى : وحنانا أي وآتيناه حنانا أي رحمة من لدنا وزكاة أي عملا صالحا ، وكان تقيا فلم يفعل ذنبا وبرا بوالديه أي جعلناه برا بوالديه .
قوله تعالى : وسلام عليه أي سلامة له يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا قال سفيان بن عيينة : ، فسلمه في هذه المواطن كلها . أوحش ما يكون ابن آدم في ثلاثة مواطن : يوم يولد فيخرج إلى دار هم وليلة يموت مع الموتى فيجاور جيرانا لم ير مثلهم ، ويوم يبعث فيشهد مشهدا لم ير مثله قط
قال علماء السير : لما حملت مريم اتهمت اليهود زكريا وقالوا هذا منه ، فطلبوه ليقتلوه فهرب حتى انتهى إلى شجرة عظيمة فتجوفت له فدخل فيها فجاؤوا يطوفون بالشجرة فرأوا هدبة ثوبه فقطعوا الشجرة حتى خلصوا إليه فقتلوه ، ونبئ يحيى وهو صغير في زمن أبيه ، وكان كثير البكاء فساح في الأرض يدعو الناس إلى الله تعالى ، وكان طعامه الجراد وقلوب الشجر .
أخبرنا المحمدان ابن ناصر وابن عبد الباقي ، قالا حدثنا أحمد بن أحمد ، أخبرنا حدثنا أبو نعيم الأصفهاني ، عبد الله بن محمد ، حدثنا أحمد بن الحسين ، حدثني سعيد ابن شرحبيل ، حدثنا سعيد بن عطارد ، عن قال : كان وهيب بن الورد ، يحيى بن زكريا له خطان في خديه من البكاء فقال له أبوه زكريا : إني إنما سألت الله عز وجل ولدا تقر به عيني فقال : يا أبت إن جبريل عليه السلام أخبرني أن بين الجنة والنار مفازة لا يقطعها إلى كل بكاء .
واختلفوا في يحيى ، فروى سبب قتل عن سعيد بن جبير رضي الله عنهما قال : بعث ابن عباس عيسى يحيى بن زكريا في جماعة من الحواريين يعلمون الناس ، فكان فيما نهاهم عنه نكاح ابنة الأخ ، وكان لملكهم ابنة أخ تعجبه ، فأراد أن يتزوجها وكان لها في كل يوم حاجة [ ص: 283 ] مقضية ، فبلغ ذلك أمها فقالت : إذا سألك الملك حاجتك فقولي : حاجتي أن تذبح يحيى ، فقالت له ، فقال : سلي غير هذا ، قالت : ما أسألك غيره ، فدعا يحيى فذبحه ، فبدرت قطرة من دمه على الأرض فلم تزل تغلي حتى بعث الله تعالى بخت نصر فقتل على ذلك الدم سبعين ألفا منهم حتى سكن .
وقال كانت للملك بنت شابة وكانت تأتيه فيسألها حاجتها فيقضيها لها ، وإن أمها رأت الربيع بن أنس : يحيى وكان جميلا فأرادته على نفسها فأبى ، فقالت لابنتها : إذا أتيت أباك فقولي له : حاجتي رأس يحيى ، فجاءت فسألته ذلك فردها فرجعت فقال : سلي حاجتك ، فقالت : رأس يحيى . فقال : ذلك لك . فأخبرت أمها فبعثت إلى يحيى : إن لم تأت حاجتي قتلتك . فأبى فذبحته ثم ندمت وجعلت تقول : ويل لها ويل لها ، حتى ماتت فهي أول من يدخل جهنم .
وفي حديث آخر (أن ) اسمها ربه ، وقيل : أزميل ، وقد قتلت قبله سبعين نبيا ، وهي مكتوبة في التوراة مقتلة الأنبياء ، وأنها على منبر من النار يسمع صراخها أقصى أهل النار .