فإن زعموا أنهم قالوا بالنص، سئلوا عن تبيين ذلك من جهة النص من كتاب أو خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إما من نقل العامة أو نقل الخاصة، وعزيز ذلك عليهم. وإن قالوا: قلناه قياسا، قيل لهم: ما الأصل الذي قستم عليه؟
فإن قالوا: قسناه على إجماع الجميع على أن قليل الماء، الذي هو قلة أو أقل من قلة بقلال العراق، ينجس بقليل ما حل فيه من النجاسة، إذا كان مجتمعا راكدا في موضع، وذلك قدر من الماء لا شك فيه أنه إذا حركت ناحية منه تحركت نواحيه كلها، وكان معلوما بذلك أن النجاسة إذا حلت في موضع منه، أو في جانب من جوانبه، امتزج بعضه ببعض، فنجس جميعه، وهم مع اجتماعهم على ما ذكرنا، مجمعون على البطيحة، والبحر أنه لو وقعت فيهما نجاسة، قلت أو كثرت، أنهما لا ينجسان، وهما ماءان إذا حرك جانب من جوانب أحدهما لم [ ص: 745 ] يتحرك الجانب الآخر منه، فألحقنا حكم كل ماء راكد إذا حرك جانب منه لم يتحرك الجانب الآخر، بحكم البطيحة الراكد ماؤها، والبحر الدائم ماؤه، وألحقنا كل ماء قائم إذا حرك جانب منه تحرك الجانب الآخر منه، بحكم الماء القليل، الذي هو قدر قلة من قلال أهل العراق، المجمع على أن النجاسة القليلة إذا دخلت فيه ينجس جميعه، وإن لم تغير له لونا ولا طعما، ولا ريحا.
قيل لهم: أخبرونا عن الذي رأيتموه نجسا من الماء بحلول النجاسة فيه، أليس الماء ينجس عندكم بامتزاج بعضه ببعض، إذا وقعت النجاسة في جانب منه؟
فإن قالوا: لا، تركوا في ذلك قولهم؛ لأنهم زعموا أن الذي إذا حرك جانب منه لم يتحرك الجانب الآخر، إنما حكموا لهم بالطهارة، إذا حلت فيه النجاسة، يتنجس الجانب الذي حلت فيه النجاسة، ولا يتنجس الجانب الآخر؛ لأنه لا يمتزج بعضه ببعض، وأنه إنما يتنجس منه الموضع الذي حلت فيه النجاسة، وما حوله دون جميعه.
وإن قالوا: بلى، قيل لهم: أخبرونا عن الماء الذي صفته ما ذكرتم، وأنه إذا كان بها لم يحتمل نجسا، وكان كالبطيحة، والبحر إذا دخلت النجاسة في جانب منه وناحية، أليس الموضع الذي حلت فيه منه نجس عندكم؟
فإن قالوا: لا، تركوا في ذلك قولهم، وإن قالوا: بلى، قيل لهم: فأخبرونا عن موضع النجاسة من ذلك الماء، هل يجزئ متوضئا إن توضأ به مما عليه من فرض الطهارة للصلاة؟ فإن قالوا: بلى: تركوا قولهم في ذلك. [ ص: 746 ]
وإن قالوا: لا، قيل لهم: فأخبرونا عنه إذا كان ذلك عندكم نجسا لا يجزئ متوضئا لو توضأ به مما عليه من فرض الطهارة، وكان ينجس ما لاقى من بدن من لاقى بدنه، فما أنتم قائلون فيما ولي ذلك الماء المتنجس، فيما حل فيه من النجاسة، وفيما لاقاه منه من الماء. أطاهر هو عندكم أم نجس؟ فإن زعموا أنه طاهر، تركوا قولهم.
وقيل لهم: ما جعل ما لاقي من الماء طاهرا، وما لاقاه من أبدان بني آدم وثيابهم نجسا ينجس ما لاقاه من الأشياء المستجسدة، والمائعة من غير نوعه؟ فهو لنوعه أشد تنجيسا.
فإن قالوا: بل هو نجس. قيل لهم: وكذلك كل جزء ما لقي النجس صار نجسا، بتنجيس الجزء الذي لقي الجزء النجس منه، لا يبقى جزء من الماء الراكد إلا صار نجسا بتنجيس أقل قليله.
فإن قالوا: الأمر كذلك، قضوا على الماء الذي زعموا أنه لا يحتمل النجاسة، وهو الذي إذا حرك أحد جوانبه لم يتحرك الجانب الآخر منه، بأن جميعه نجس بأقل قليل النجاسة الذي تحل في بعضه، وعلى ماء البطيحة، والبحر نجاسته جميعه بذلك.
وقد ذكر عن بعض من كان يتعاطى الجدل من أهل هذه المقالة، أنه ألزم هذا السؤال، فرأى أنه لازم، فمضى عليه وألزمه نفسه، وقضى على ماء البحر [ ص: 747 ] والبطيحة بالنجاسة، إذا علم أن نجاسة قد حلته.
وبحسب امرئ من الجهل أن يستجيز لنفسه ما يستقبحه العالم، فضلا عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وإن قالوا في بعض ذلك: هو طاهر، وفي بعضه هو نجس. قيل لهم: أوليس الذي ينجس منه إنما صار نجسا بملاقاة النجاسة إياه؟ فإن قالوا: نعم، قيل لهم: فإن كان ذلك إنما صار نجسا بملاقاته النجاسة، فلا شك أن الجزء الذي يلي ذلك الجزء الذي لاقي النجاسة، لم يلاقه إلا بعدما صار الجزء الذي يلي النجاسة نجسا، فكيف جاز لكم أن تحكموا بما حكمتم له بالطهارة أنه طاهر، وقد لاقى ماء نجسا، وإنما حكمتم الذي ولي النجاسة بأنه نجس لملاقاته ما لاقى من النجاسة؟ وهذا قول إذا تدبره ذو فهم بعقله، لم يخف تناقضه، وإفساد بعضه بعضا.
فإن قال لنا منهم قائل: فإنا نرد عليك هذا السؤال بعينه في قولك: إذا كان الماء قلتين لم يحتمل الماء نجسا، فنقول: أخبرونا عن قلتي ماء من قلال هجر حلت فيه نجاسة لم تغير له طعما، ولا لونا، ولا ريحا، أتقول إن الموضع الذي حلت فيه النجاسة منه طاهر؟ فإن قلت: نعم، قيل لك: وكيف يكون طاهرا، وأنت تزعم أن عين النجاسة التي حلت فيه لم تنقلب؟ أم كيف يكون شيء نجسا، ما لم يختلط بغيره، فإذا اختلط بغيره صار طاهرا هو بحاله لم يحل عن معناه؟ . قيل: إن الأشياء التي قضينا لأعيانها بالنجاسة، إنما حكمنا لها بذلك لحكم الله - جل ثناؤه - لها به، تسليما منا لقضائه، وكذلك كان الأمر منا فيما حكمنا له بالطهارة، فجعلنا النجاسة إذا لاقت طاهرا إلى الأشياء، وهي رطبة أو لاقته وهي يابسة، وما لاقته رطب نجسا بحكم الله - تعالى ذكره - بذلك حكمنا [ ص: 748 ] . للماء إذا كان قدر قلتين من قلال هجر بالطهارة، وإن حلت فيه